إعداد: الإعلامية اليمنية بدور الديلمي
باحثة في الشؤون السياسية والإقليمية
---
مقدمة
منذ اندلاع الحرب في اليمن، تحوّل الوجود الدولي إلى ما يشبه دولة داخل الدولة، حيث تنتشر المكاتب الأممية والمنظمات الدولية في كل محافظة تحت عناوين الإغاثة والعمل الإنساني.
غير أن ما تكشّف خلال السنوات الأخيرة يُشير إلى أن هذا الوجود لم يكن محصورًا في تقديم المساعدات، بل تعدّاه إلى نشاط استخباراتي منظم، وجمع معلومات ميدانية حساسة، واستغلال للأزمة اليمنية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية تتجاوز الجانب الإنساني المعلن.
---
البداية: من تنمية إلى اختراق
منذ التسعينيات، عملت الأمم المتحدة في اليمن عبر برامج تنموية تابعة لـUNDP واليونيسف ومنظمة الصحة العالمية.
كانت المهام واضحة: تحسين التعليم، تطوير الصحة، ومكافحة الفقر.
لكن بعد أحداث 2011، وتزايد التدخلات الإقليمية والدولية، تبدّل مسار عمل تلك المنظمات، إذ بدأت تتغلغل في مؤسسات الدولة اليمنية، وتدخل ضمن تفاصيل البنية الإدارية والاقتصادية والأمنية تحت مبرر “الإصلاح والدعم المؤسسي”.
ذلك التحول لم يكن بريئًا؛ فقد مهد الطريق لمرحلة من النفوذ الأممي الواسع داخل القرار المحلي، عبر مشاريع تحمل عناوين تنموية لكنها تُدار بآليات مراقبة دقيقة للبيانات والمعلومات.
---
بعد 2015: واجهة إنسانية تغطي أجندة سياسية
مع تفجّر الحرب وتدخّل التحالف بقيادة السعودية، ارتفع صوت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وهي تصف اليمن بـ"أسوأ أزمة إنسانية في العالم".
تدفقت المليارات من الدول المانحة، وتوسعت عشرات الوكالات في البلاد، حتى باتت بعض المنظمات تملك صلاحيات تفوق وزارات الدولة.
لكن خلف هذا النشاط المكثّف، ظهرت مؤشرات على أن العمل الإنساني لم يكن سوى ستارٍ لعمل استخباراتي ممنهج.
فبحسب تقارير ميدانية ووثائق أمنية، شارك عدد من العاملين في جمع معلومات دقيقة عن مواقع حيوية، ومسح جغرافي لسكان ومؤسسات ومراكز سيادية، جرى تمريرها بطرق “بحثية” أو “تنموية”.
هذه الأنشطة مثّلت خرقًا واضحًا لسيادة الدولة، وطرحت تساؤلات جادة حول من يقف فعلاً وراء تلك البعثات وما الهدف من الكم الهائل من البيانات التي تُجمع في بلدٍ محاصر.
---
التمويل المشروط.. المساعدات كأداة ضغط
لم يقتصر النفوذ الأممي على الميدان، بل تمدد عبر التمويل.
فقد استخدمت الدول المانحة والمنظمات الكبرى المساعدات كأداة ابتزاز سياسي واقتصادي، عبر ربط المشاريع بمواقف محددة، أو فرض قيود على المناطق المستفيدة.
فأصبح الدعم الإنساني يُوزّع وفقًا لمعادلات الولاء، لا لمستوى الحاجة، بينما تُحرم مناطق كاملة من المساعدات لأنها ترفض الخضوع للهيمنة الدولية أو لا تتوافق مع سياسات الممولين.
وبذلك، تحوّل "الخبز والدواء" إلى أوراق تفاوضية، وأصبحت الأمم المتحدة – من حيث لا تعلن – جزءًا من أدوات إدارة الصراع وليس حله.
---
الشبكات الميدانية وجمع المعلومات
خلال السنوات الأخيرة، رصدت الأجهزة الأمنية اليمنية شبكات متعددة تعمل تحت غطاء العمل الإنساني، يتولّى أفرادها جمع معلومات أمنية، وتصوير مواقع حساسة، وتتبع تحركات مؤسسات وطنية.
هذه الشبكات كانت تُدار من داخل مكاتب أممية ومنظمات غير حكومية دولية، وتتحرك بدعم مالي ولوجستي كبير تحت عناوين مثل “التقييم الميداني” أو “إحصاء النازحين”.
وبحسب التحقيقات، فإن كثيراً من البيانات التي جُمعت كانت تُرسل إلى جهات خارجية، ما أكد أن بعض تلك الأنشطة تتجاوز الطابع الإنساني إلى مهام استخباراتية صريحة.
---
الإعلام والتمويه: بناء صورة مزيفة
تُتقن الأمم المتحدة فنّ الخطاب الإنساني.
فكل بيان، وكل مؤتمر صحفي، يُصاغ بعناية ليظهر المنظمة كمنقذٍ للشعب اليمني.
لكن خلف هذه الصورة اللامعة، تعمل فرق متخصصة في العلاقات العامة لتغطية الإخفاقات والتجاوزات، بل وتحويل الانتقادات إلى دعايات ممولة تستدرّ تعاطف المانحين.
ومع الوقت، أصبح الإعلام الأممي جزءًا من عملية التمويه الكبرى، يروّج لصورة مثالية عن عمل ميداني مليء بالثغرات والتجاوزات الأخلاقية والمعلوماتية.
---
حياد مزعوم ومصالح متشابكة
رغم ادعاء الحياد، إلا أن الأمم المتحدة لم تكن يومًا بعيدة عن دوائر النفوذ.
فبرامجها التمويلية مرتبطة بسياسات دول كبرى، وقراراتها الإنسانية تخضع لتوازنات مجلس الأمن.
وبينما تعلن دعمها “للشعب اليمني”، فإنها تغض الطرف عن جرائم العدوان والحصار، وتتعامل بانتقائية واضحة في تقاريرها.
هذا التناقض أضعف مصداقيتها، وحوّلها – بنظر كثير من اليمنيين – من مؤسسة إنسانية إلى أداة ناعمة للنفوذ الدولي تحت لافتة الأمم المتحدة.
---
الحقيقة الكاملة
الحقيقة التي تتكشف يوماً بعد آخر، أن ما يُعرف بـ"العمل الإنساني" لم يكن سوى واجهة تغطي شبكة مصالح دولية واستخباراتية معقدة.
فالمنظمات الأممية في اليمن لم تأتِ لإنقاذ الإنسان اليمني فحسب، بل جاءت أيضًا لتثبيت حضور سياسي واستخباري غربي داخل بلدٍ يعيش حرباً مفتوحة وصراع سيادة.
وإذا لم يُعاد تنظيم وجود هذه المنظمات وفق رقابة وطنية صارمة، فإن "الإنسانية" ستبقى شعارًا يُرفع في النهار، بينما تُدار خلفه ملفات استخباراتية في الظلام.
---
الخاتمة
ما بين المساعدات المشروطة والمشاريع الموجهة، أصبح المواطن اليمني يدرك أن ما يُسمى "العمل الإنساني" ليس دائمًا بريئًا.
فالأمم المتحدة التي دخلت تحت شعار الإغاثة، باتت اليوم طرفًا في معادلة النفوذ، تُعيد تشكيل الواقع اليمني بما يخدم مصالح قوى كبرى، لا مصالح الشعب الذي يُفترض أنها جاءت لإنقاذه.
---
✍️ الإعلامية اليمنية بدور الديلمي
صحفية وباحثة في الشؤون السياسية والإقليمية
إذاعة الاقتصادية – صنعاء