كتب عمر معربوني:
مقالات
كتب عمر معربوني: "بين الإبادة البشرية والإبادة الثقافية.. هل حقق كيانُ الـعـدوّ أهدافَه؟
عمر معربوني
23 تشرين الأول 2025 , 11:54 ص


من بين أطول وأخطر الصراعات التي تخوضها الأمة هو الصراع مع الـ.ـكـــيان"الإسـرائيلي"،وهو الصراعُ المستمِّرُمنذُ تشكُّلِِ الحركةِ الصهيونية في سنة1880 ميلادية، والتي اتخّذت بدايةًاسمَ "عشاق صهـيون"، لنكون بعدها أمامَ المؤتمرِ الصهيوني الأول في مدينةِ پازل السويسرية، سنة 1897ميلادية،والذي تسرّبت عنه فيما بعدُ مُخَطّطاتٌ أقّلُّ ما يُقالُ فيها: إنها شيطانيةٌ جهنّمية.

من بين التوصيات التي اتفق عليها الصـهـاينة، وتحديداً منهمُ اليهودُ الغربيون،ضرورةَاستبدالِ فكرةِ السيطرةِ على فلسـ.ـطينَ بالوسائلِ المدنيةِ السِّلمِيّةِ بالسيطرةِ العسـكر ية المسلّحة.

قبلَ الْخَوْضِ في الموضوع، لا بدّ من الإشارةِ إلى أنّ السيطرةَ بالطُّرُقِ السلميةِ تمثّلت بالهجرة إلى فلسطين، حيث بدأت موجاتُ الهِجرةِ اليهوديّةِ الأولى إليها،بين عامي 1882و1903 ميلادي،أي بعدَعامَيْنِ مِنْ تأسيس زُمرَةِ "عشاق صهـيون" التي يُطلِقَ عليها البعضُ مُسَمّى "أحباب صهـيون".

الموجةُ الأولى كانتْ عِبارةً عن يهودٍ غالِبِيَّتُهُم من المزارعين، هاجروا من دولِ أوروبا الشرقية، بتشجيعِ ودعمِ الأثرياءِ اليهود، وبإشرافِ الحركةِ الصهيونية التي تفرّعَ مِنها، ما يُسمّى بـ"الوكالةِ اليهودية" التي توّلت تنظيم هجرةِ اليهودِ إلى فلسـطين.

حتّى سنة 1903، لم يكن عددُ المهاجرينَ اليهودَ إلى فلسـطين يتجاوزُ الـ30 ألفًا، بحسب بعض المصادر، والـ 40 ألفًا بحسبِ مصادرَ ُأخرى.

موجاتُ الهجرةِ الأوسعِ جاءت بين عامي 1919 و1948 ميلادي، فقد تم دمجُ "وعدِ بلفور بِصَكِّ الانتدابِ البريطانِيّ على فلسطين" الذي نصتِ المادّةُ السادسةُ مِنهُ على: أنّ الإدارةَ البريطانيةَ سوفَ تلتزِمُ بِتسهيلِ الهجرةِاليهوديةِ بشروطٍ مُناسبة، وسوفَ تُشجِّعُ، بالتعاونِ معَ الوكالةِاليهوديةِ،استيطانَ اليهودِ في الأراضي، بما في ذلكَ الأراضي الحكوميةُ والأراضي الخاليةُ،وغيرُ اللازمةِ لِلِاستعمالِ العام.

وكان ممّا سهّلَ الأمرَ القراراتُ الصادرةُ عن اجتماعِ كامبل بنرمان رئيسِ وزراءِ بريطانيا معَ مُمَثّلي دولٍ أوروبية، والقاضي بضرورةِ زَرْعِ جِسمٍ غريبٍ في قلبِ العالَمِ العربيّ.

هذا العرضُ التاريخيُّ السريع يهــدفُ إلى استِعادةِ بعضٍ ممّا مرّ في تاريخ الصراع مع الـكـيانِ "الإســرائيلي"،وخصوصًا بداياتِه المرتبطةَ بِعُنــ.ـصرِ الهجرةِ إلى فلســطين كأحد العناصر التي باتت تعمل لغير مصلحة الكـيان، وهو ما سنستعرِضُهُ في الخاتمةِ.

على المستوى المرتبطِ بالمواجهةِ المستمرة، وهو ما أشرتُ إليهِ في بدايةِ المقال،

عندما قلتُ: من أخطرِ الصِّراعاتِ

التي تخوضُها الأُمةُ، ولم أقل: خاضتها.لِأَنّنا لانزالُ في المواجهة التي تخلَّلتْها مجموعةٌ منَ المعاركِ، خسِرنا بعضَها وربِحنا بعضها، وهو ما حَسَمَ البعضُ أمرهم بهِ، بأنَّ ما حصلَ مُنذُ "طوفان الأقصى" هو هزيـمـةٌ نهائيةٌ لِمحورِ المـقـاومة، ويبنون عليه، والبعضُ هُنا ليسَ الـعـدوَّ فقط، بل الكثيرَ مِمَّنْ يُكِنّونَ العِداءَ لِكُلِّ مَنْ يُقاوم، لِدرجةِ أنّ بعضَهُم شَعرَ بالاكتئابِ، لأنَّ حماسَ لا تزالُ موجودةً، وأنَّ حـ.ـزبَ اللهِ لا يزالُ موجودًا.

ولِلدُّخولِ في عنوانِ النَّصِّ، لا بُدَّ منَ القولِ: إنّ مفاهيمَ الحـ.ـربِ وأدواتِها تتغيّرُ، بينَ حقبةٍوأخرى، ففي مُوازاةِ الاستخدامِ المُفرِطِ للأسـلحة المُعتمِدةِ على التكنولوجيا، وهي بِمُجمَلِها أسـلحةٌ فتّاكةٌ اسْتُخْدِمَتْ، بِما أدّى إلى حصولِ إبادةٍ جَماعِيَّةٍ ( Genocide )، بَرَزَ أحدُ أخطرِ أدواتِ الحــربِ الحديثة، وهو الإعلامُ الذي يُمَوَّلُ من كلِّ منظومةِ الغربِ الجَماعِيّ، والذي يعتمدُ المَسَّ بِالْوَعْيِ، ويَهـ.ـدِفُ إلى تحقيقِ الإبادةِ الثقافية ( Cultural Genocide )، وهي، كهدفٍ نِهائِيٍّ، تعتمدُ على خوضِ الحـربِ الإدراكيةِ ( Cognitive Warfare )، لِإيصالِ بيئةِ العدّوِّ إلى مرحلةِ الانهيارِ الإدراكِيِّ ( Cognitive Dicline ).

تبدو أهدافُ الحـ.ـربِ الإدراكيةِ مفهومةً لِلنُّخَبِ، ويُمْكِنُ تَجاوُزُها مِنْ قِبَلِهِم، ولكنَّ المُشكِلَةَ الرئيسيةَ هي أنّ المُستهدَفَ بهذهِ الحـ.ـربِ هُمُ العَامَّةُ الّذينَ يتَأَثَّرونُ بالخبر،وهو ماتعملُ عليهِ أدواتُ الـعَـدُوِّ، لِجِهَةِ مُراكَمَةِ الضُّغوطِ، عَبْرَ اِسْتِخْدامٍ مُتَوازٍ لِلقوَّةِ العسكريةِ والحربِ النفسية، ومحاولةِ إقناعِ العامّةِ بأنَّ المعركةَ انتهتْ، ولا طائلَ مِنَ الرِّهانِ على مَكامِنِ القوَّةِ التي لم يَعُدْ لها أيُّ تأثيرٍ، ولا داعيَ لِوُجودِ أدواتٍ قتاليةٍ أثبتتْ عدمَ قُدْرتِها على تأمينِ الحماية، وفقدتِ القدرةَ على الرّدْعِ، وما إلى ذلكَ من ضخٍّ يَومِيٍّ يستهدِفُ العقولَ ويرمي إلى كَيِّ الوَعْيِ، عَبْرَ فصلِنا عنِ الذاكرةِ المليئةِ بصفحاتِ العزِّ والشَّرفِ والكرامة.

الهـ.ـدفُ المركزيُّ لمنظومةِ الحـ.ـربِ الإدراكيةِ هو تنفيذُ أوسعِ عـ..ــمـلـيـةِ إبادةٍ ثقافيةٍ، ورُبّما يجوزُ تسمِيَتُها بالإبادةِ الفكرية، وهو ما يجبُ أن يكونَ مفهومًاويجبُ توضيحُه؛ فمسرحُ عملياتِ المعركةِ لم يَعُدْ مُقْتَصِرًا على البنادقِ والمدافعِ

والطائراتِ،بل تعدّاهُ لِيُصبِحَ منظومةً متكاملةً تهـ.ـدفُ إلى الإلغاءِ الكاملِ لكلِّ المراحلِ التاريخيةِ، عبْرَ تفريغِ العقولِ مِنَ الذّاكرة، وإعادةِ حَشْوِها بما يتناسبُ معَ الغالبِ، وإسقاطِها على المغلوبِ كمُسلّمةٍ لا عودةَ عنها.

وهنا يبرزُ السؤالُ الأساسيّ: هل حقّقَ العدّوُّ أهدافَهُ بِحربه الإدراكية، ووجبَ علينا الانتقالُ من مرحلةِ الانهيارِ الإدراكيِّ إلى مرحلةِ الانهيارِ التَّامِّ والكامِلِ ، والتسليمُ بما حصلَ كنتيجةٍ نهائية؟.

على الرغم من الضرباتِ الموجعةِ، في لبنانَ وغزّةَ، لا تزالُ المـقـاومةُ في غزّةَ وفي لبنانَ موجودةً، ربطًا بما اتَّفَقَ عليهِ الكثيرُ مِنَ الخُبراء، مُنذُ الحـ.ـربِ العالميةِ الأولى وحتّى اللحظة، أنَّ الحـ.ـربَ تُحسَبُ بِنتائِجِها وليسَ بِكِلْفَتِها، بدليلِ أنّ العدُوَّ لا يزالُ يعتبرُ المقاوَمَتَيْنِ خطراً عليهِ كبيراً، وهذا يطرحُ أمراً يتجاهَلُهُ البعضُ،عندمايقولون: إن الحربَ انتهتْ، وهوَ قَوْلٌ خاطِئٌ، والأصَحُّ هو أنّ ما يَحْصُلُ،منذُ ما قبلَ سنةِ 1948، هو سلسلةٌ من المعاركِْ مِنْ ضِمْنِ الحـربِ، أو المـواجهةِ المستمرة.

والسؤال الأهَمُّ هو: هل تضرَّرَ العدوُّ أيضاً؟.

وهنا لا بُدُّ مِنْ إيرادِ عناوينَ سريعةٍ يحتاجُ كلٌّ مِنها إلى مُقاربةٍ واسعةٍ ومُسْتَقِلّة:

1 - فشلُ التفوقِ العســكر يِّ والتّكنولوجيا، في تحقيقِ الأهدافِ المُطلقة.

2 - فقدانُ عاملِ التعاطُفِ التاريخي مع الـعـدوِّ،حولَ مسألةِ المظلوميةِ والمحرقة، وانعكاسِ المشهد، حيثُ اضْطُرَّ نتنياهو لِلِقاءِ 250 مؤثّراً غربياً، ووضعِ موازنةٍ بقيمةِ 250 مليونَ دولارٍ لتحسينِ صورة الـكــيان.

3 - فقدانُ الـعـدوِّ للوظيفةِ التي أُنشِئَ من أجلِها، وهي حمايةُ مصالحِ الغربِ في المنطقة، وهو ما تغيَّر كُليًّا، حيثُ جاءتْ أميركا والغربُ، مُنذ بَدْءِ "طـ.ـوفـــانِ الأقـــصى"، لِتَحمِيَ الــكـــيانَ الذي تَرَنّحَ، وبات عاجزًا عن حمايةِ وُجودِه.

4 - الأمنُ المفقودُ الَّذي سيبقى، مهما تغيَّرتِ الساحاتُ، وأخطرُهُ ليس الصوا ريخ والمسيرات فقط، بل الطعنُ بِالسَّكاكين والدهــسُ بالسيارات، وإطلاقُ النارِ من المُسدّساتِ والبنادق، وهو ما سيَظهَ،رُ وبِقوَّةٍ معَ بَدْءِ الـعـدوِّ عـــمـلـيـةَ ضَمِّ الضّفّة الغربية، ومناطقَ سَيَتَمدَّدُ إليها في سورِيَّةَ ولبنان.

أمّاوقد بدأتُ المقالَ بالإشارةِ إلى موضوعِ الهجرةِ إلى فلســطين فإنَّ أخطرَ ما يُواجِهُهُ الـكـيانُ هو الهجرةُ العكسيَّةُ، بسببِ فُقدانِ الثقةِ بالـقـيـادةِ الصهيــونيةِ، وبسببِ الذُّعْرِ والرُّعْبِ المستمرّ، وكلُّ ذلكَ مَوجودٌ، كأرقامٍ في تقاريرَ"إسرائيليةٍ"وعلى صفحاتِ مركزِ الإحصاءِ "الإسـرائيلي" ومعهدِ دِراساتِ الأمنِ القومِيِّ "الإســرائيلي".

ختامًا:

نستطيعُ، كما يستطيعُ العدوُّ مواجهتَنا بالحربِ الإدراكيةِ أنْ نُواجِهَهُ، عَبْرَ نشرِ ما هو مُضادٌّ، ليسَ لِلتَّأثيرِفي عقولِ الصـهـاينةِ، بل لِتَثبِيتِ الفِكرةفي عقولِ أَهْلِنا، كفِكرةٍ ساميةٍ ونبيلةٍ ورثها آباؤنا من أجدادِنا ووَرِثْناها منهم، ونُورِثُها لِأَولادِنا وأحفادِنا.