تشير الأبحاث الحديثة إلى أن معظم الكائنات الحية، بما في ذلك الإنسان، تحمل في داخلها ساعة قمرية داخلية تضبط إيقاع حياتها وفق دورة القمر التي تمتد نحو 29.5 يوما.
هذه الساعة تؤثر في أنماط النوم، والتكاثر، والهجرة لدى العديد من الأنواع.
لكن في عصر الضوء الصناعي المنتشر في المدن والشاشات والأقمار الصناعية، يبدو أن هذا الإيقاع القديم آخذ في التلاشي.
القمر يحدد الإيقاع كما تفعل الشمس
تماما كما ينظم الإيقاع اليومي (الساعة البيولوجية) حياتنا وفق دوران الأرض خلال 24 ساعة، يتتبع الجسم أيضا الإيقاع الأبطأ لدورة القمر.
يعتمد كلا النظامين على الإشارات الضوئية، وتشير دراسة حديثة إلى أن التلوث الضوئي الناتج عن الأضواء الاصطناعية يطمس التباين الطبيعي للضوء القمري الذي كان يحدد الزمن البيولوجي للإنسان منذ آلاف السنين.
تأثير القمر على نوم البشر
تشير العديد من الدراسات إلى أن دورة القمر لا تزال تؤثر على أنماط النوم لدى البشر.
ففي دراسة أُجريت عام 2021 على مجتمعات السكان الأصليين "توبا" أو "قوم كيووم" في الأرجنتين، تبيّن أن الأشخاص كانوا ينامون أقل من المعتاد بنحو 20 إلى 90 دقيقة، ويخلدون إلى النوم بعد 30 إلى 80 دقيقة من وقتهم المعتاد خلال الأيام الثلاثة إلى الخمسة التي تسبق اكتمال القمر.
ومن المثير للاهتمام أن الدراسة وجدت نمطا مشابها وإن كان أضعف لدى أكثر من 400 طالب في مدينة سياتل الأمريكية، رغم التلوث الضوئي الكثيف هناك، مما يشير إلى أن الضوء الصناعي قد يقلل من تأثير القمر لكنه لا يلغيه تماما.
دورة النوم تتبع أطوار القمر
الإنسان يمتلك ساعة قمرية داخلية تنظم النوم لكن أضواء المدن تُخفي إيقاعها
لاحظ الباحثون أن أنماط النوم تتغير أيضا مع أطوار القمر الأخرى مثل الهلال والمحاق، ما يعكس تأثيرا دوريا كل 15 يوما.
ويُعتقد أن ذلك يعود إلى التغيرات في الجاذبية القمرية، التي تبلغ ذروتها خلال اكتمال القمر والمحاق عندما تصطف الشمس والأرض والقمر.
وهذا يشير إلى أن الإيقاعات البيولوجية قد تتأثر ليس فقط بالضوء بل أيضا بقوى الجاذبية.
دليل من المختبر: القمر يقلل من جودة النوم
في تجربة مخبرية عام 2013، لاحظ الباحثون أن المشاركين خلال مرحلة اكتمال القمر:
استغرقوا وقتا أطول بنحو 5 دقائق لدخول النوم.
ناموا أقل بـ20 دقيقة في المتوسط.
انخفض لديهم إفراز هرمون الميلاتونين المنظم لدورة النوم والاستيقاظ.
كما أظهرت أجهزة قياس الدماغ انخفاضًا بنسبة 30% في نشاط الموجات البطيئة المرتبطة بالنوم العميق، رغم أن المشاركين لم يكونوا على علم بأن الدراسة مرتبطة بمراحل القمر.
دورة القمر ودورة المرأة
ربما الدليل الأكثر لفتا للانتباه على وجود "ساعة قمرية بشرية" جاء من تحليل طويل الأمد لدورات الحيض لدى 176 امرأة في أوروبا والولايات المتحدة.
قبل عام 2010 — أي قبل انتشار مصابيح LED والهواتف الذكية — كانت دورات الحيض تتزامن غالبًا مع اكتمال القمر أو المحاق.
لكن بعد عام 2010، اختفى هذا التزامن إلى حد كبير، باستثناء شهر يناير عندما تكون تأثيرات الجاذبية بين القمر والشمس والأرض في أقصاها.
ويُرجّح الباحثون أن الإنسان ما زال يمتلك ساعة قمرية داخلية، لكن ارتباطها بأطوار القمر ضعف بسبب الإضاءة الاصطناعية.
القمر كمنظم لحياة الكائنات الأخرى
يلعب القمر دور "المترونوم الطبيعي" لدى العديد من الكائنات.
فمثلا، الشعاب المرجانية تنسّق بدقة عملية إطلاق البيوض والحيوانات المنوية خلال مراحل محددة من ضوء القمر.
وفي دراسة مخبرية عام 2016 على المرجان الباني للشعاب (مثل A. millepora)، وجد العلماء أن استبدال الضوء الطبيعي بضوء صناعي ثابت أو ظلام دائم أدى إلى فقدان دورة الجينات المسؤولة عن الساعة البيولوجية مثل cryptochromes، مما تسبب في اختلال عملية التكاثر المتزامن.
وتُظهر كائنات بحرية أخرى، مثل ذبابة Clunio marinus البحرية، تكيفا مدهشا عبر دمج الإشارات اليومية (الساعة البيولوجية) مع الإشارات القمرية لتوقيت التكاثر مع فترات الجَزر المنخفضة بدقة مذهلة.
بل إن الدراسات الجينية أكدت أن هذه القدرة مرتبطة بجينات الساعة البيولوجية نفسها.
التلوث الضوئي يُهدد الإيقاع الطبيعي للحياة
وجدت دراسة عام 2019 أن تزامن عملية تكاثر المرجان في الطبيعة بدأ يتفكك، ويرى العلماء أن السبب يعود إلى التلوث الضوئي وارتفاع حرارة البحار.
التلوث الضوئي اليوم يؤثر على مئات الأنواع التي تعتمد على القمر في التنقل والتكاثر والهجرة.
وفقا لأطلس العالم للسطوع الليلي الاصطناعي، يعيش أكثر من 80% من سكان العالم — وقرابة جميع سكان أوروبا والولايات المتحدة — تحت سماء ملوّثة بالضوء، تحجب درب التبانة عن الأبصار.
وفي دول مثل سنغافورة والكويت، لا يوجد مكان واحد تقريبا يخلو من الضوء الصناعي، ما يجعل الليل لا يُصبح مظلما أبدا.
فقدان التوازن الزمني داخل الدماغ
في علم الأعصاب الإدراكي، يُفهم إدراك الزمن على أنه ناتج عن "جهاز توقيت داخلي" يُصدر نبضات منتظمة، يراقبها الدماغ لتقدير مرور الوقت.
وتعتمد دقته على الإيقاعات البيئية المنتظمة مثل الضوء والحرارة والعادات الاجتماعية.
لكن فقدان الإشارة الشهرية للقمر قد يعني أن ساعاتنا الداخلية أصبحت تعمل في بيئة زمنية مسطّحة، تخلو من التغيرات الطبيعية التي كانت تضبط إيقاع الحياة.
النتيجة: القمر لا يزال فينا، لكنه يبهت
رغم كل التغيرات، الساعة القمرية لا تزال تدق داخل الإنسان — خافتة ولكن قابلة للقياس.
إنها لا تحدد فقط المد والجزر، بل تنسج إيقاع النوم والحياة لدى البشر والكائنات جميعا.
ومع ازدياد سطوع السماء ليلاً، نخسر شيئا أكبر من النجوم… نخسر الإيقاع الهادئ الذي ربط الحياة على الأرض بدورة القمر منذ الأزل.