يعمل الدماغ البشري مثل رسّام خرائط حيّ، يرسم مسارات تجاربنا الحياتية، ويربط الأحداث والأماكن والمشاعر في شبكة معقدة تُعرف باسم خريطة الذاكرة .
وفي دراسة حديثة أجراها مركز لانغون الطبي التابع لجامعة نيويورك (NYU Langone Health)، كشف العلماء كيف يحتفظ الدماغ باستقرار هذه الخرائط العصبية رغم تدفق المعلومات الحسيّة المستمر الذي يتعرض له الإنسان يومياً.
آلية عصبية تحافظ على ثبات الذكريات
تُظهر الدراسة أن استقرار الذكريات يعتمد على الإشارات المتبادلة بين القشرة الشمية الداخلية (entorrhinal cortex) ومنطقة CA3 في الحُصين (hippocampus) — وهي المنطقة المسؤولة عن تشكيل واستقرار الذكريات طويلة الأمد.
هذه الإشارات تعمل على تحويل الفوضى العصبية الناتجة عن الأحاسيس اليومية إلى أنماط منظمة من النشاط العصبي، تساعد الدماغ على تمييز الأحداث وربطها زمنياً وسياقياً.
الحُصين: خزان الذاكرة المكانية
يحتفظ الحُصين في الدماغ ليس فقط بالذكريات، بل أيضاً بـ الصور المكانية للأحداث. فخلايا الحُصين قادرة على إعادة بناء مشهد كامل انطلاقاً من تفاصيل صغيرة، ولكن فقط عندما تظل الشبكة العصبية مستقرة ومتوازنة.
وعندما يختل هذا التوازن، يبدأ الدماغ بخلط الماضي بالحاضر — وهو ما قد يفسر ظواهر مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، حيث يمكن لمحفز بسيط مثل صوت انفجار بالون أن يستدعي نفس رد الفعل العصبي المرتبط بانفجار حقيقي.
التوازن العصبي هو مفتاح الذاكرة المستقرة
أوضح الباحثون أن الذاكرة تعتمد على توازن دقيق بين الإشارات العصبية المثيرة (التحفيزية) والمثبطة (المانعة).
فخلال التعلم، يزداد مستوى الإثارة العصبية، ما يؤدي إلى إنشاء روابط جديدة بين الخلايا العصبية. ومع تكرار هذه العملية، تُصبح الذكريات أكثر ثباتاً ومتانة.
ويعمل هذا النظام بدقة عالية عبر نوعين من الألياف العصبية في القشرة الشمية الداخلية:
الألياف النشطة: تُحفّز مناطق محددة في الحُصين لتكوين الروابط الجديدة.
الألياف التنظيمية: تُوقف مؤقتاً الإشارات المثبطة داخل الحُصين، مما يسمح بزيادة نشاط الخلايا العصبية المطلوبة.
من خلال التعاون بين هذين النوعين، يتم تثبيت الشبكات العصبية في منطقة CA3، مما يساعد الدماغ على التمييز بين الأحداث المهمة والعشوائية، وربطها بالسياق الزماني والمكاني المناسب.
عندما يتحول العلم إلى فهم أعمق للذاكرة الإنسانية
يقول العلماء إن هذا الاكتشاف يمثل خطوة كبيرة نحو فهم آلية تخزين واستقرار الذكريات في الدماغ البشري، وقد يفتح الطريق أمام علاجات جديدة لاضطرابات الذاكرة مثل الزهايمر، واضطراب ما بعد الصدمة، وفقدان الذاكرة الناتج عن الصدمات.