تمهيداً للدخول في عمق تصريح صندوق النقد الدولي بشأن مؤشرات تعافي الاقتصاد السوري، لا بد من تأمل السياق الذي صدر فيه هذا التصريح، والذي يتداخل فيه البعد الاقتصادي مع التعقيدات السياسية والاجتماعية الداخلية والخارجية. فالصورة الاقتصادية السورية اليوم ليست مجرد أرقام أو مؤشرات قد تلمح إلى تعافٍ محدود، بل هي نتاج عوامل متشابكة منها ما هو عائد لحالة الصراع السوري، وما هو مرتبط بالهياكل الحاكمة والضغوط الدولية والتحولات الإقليمية، وإذا ما عزلنا التصريحات التي تنسب تعافياً اقتصادياً إلى مؤشرات جزئية من دون النظر إلى مقومات الحوكمة الرشيدة ودارة المخاطر وأرضية السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية، فسنجد أن هذا التوصيف يشي بقراءة سطحية، تخدم صياغات سياسية واقتصادية ذات أهداف مغايرة فعلاً.
إن حالة الاقتصاد السوري تقف أمام تحديات هيكلية زاخرة، تحديداً في ظل افتقاد بيئة مؤسساتية مستقرة وغياب الشفافية، الأمر الذي يجعل من أي حديث عن تعافٍ اقتصادي بعيد كل البعد عن الواقع، ويتطلب مقاربة نقدية عميقة تضغط على أوجه القصور والمتطلبات الحقيقية لبناء اقتصاد مستدام وعادل، الأمر الذي يتطلب عرض معمق وشامل لجوهر هذه التصريحات وغاياتها.
بهذا المعنى فإن تصريح صندوق النقد الدولي الذي يؤكد أن الاقتصاد السوري "يظهر مؤشرات على التعافي" يأتي في سياق سياسي واقتصادي معقد يتجاوز مجرد قراءة المؤشرات الاقتصادية الضيقة، إذ أن هذا التصريح يتجاهل الظرف الواقعي السوري الراهن وقواعد التعافي الاقتصادي الفعلية التي تتطلب توظيف مفاتيح حوكمة وإدارة مخاطر شاملة، فضلاً عن فهم غايات وسياسات صندوق النقد الدولي وشروطه التي لا تليق بسياقات إعادة الإعمار من دون مساءلة سياسية واجتماعية.
علاوة على ذلك فإن القول بأن الاقتصاد "يظهر بوادر تعافي" يغفل أن سوريا تعاني من تبعات الحرب والدمار في البنى التحتية وانهيار مؤسسات الدولة وغياب سيادة القانون، فالتعافي الاقتصادي الحقيقي يستدعي استقراراً سياسياً وبيئة آمنة للاستثمار وإعادة بناء مؤسسات دولة فاعلة، وحوكمة شفافة. في سوريا، هناك هشاشة عالية في هذه المعايير، وهي أساس كل عملية تنموية. لذا، تصنيف مؤشرات محدودة مثل عودة لاجئين جزئية أو رفع بعض العقوبات بشكل مؤقت أو حملات تبرع هنا وهناك لا يمكن أن يشكل ذلك مؤشراً واقعياً على تعافي اقتصادي مستدام. نتيجة لذلك فإن تصريح صندوق النقد الدولي يتجاهل عمداً قواعد الحوكمة وإدارة المخاطر، بالتوازي مع تجاهل المعايير الحيوية للحوكمة الاقتصادية التي تشمل محاربة الفساد وضمان استقلالية المؤسسات المالية وعدم التبعية الاقتصادية والسياسية الخارجية.
من المهم التأكيد على أن إعادة هيكلة الاقتصاد السوري عبر خطة صندوق النقد الدولي ستفرض غالباً سياسات تقشفية تقود إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية، كما أن نظام إدارة المخاطر لا يُظهر تحضيراً كافياً لمجابهة صدمات محتملة، لا سيما في بيئة إقليمية ودولية متقلبة، من هنا فإن صندوق النقد الدولي يتبع عادة سياسات اقتصادية تقشفية تقابلها شروط صارمة مثل تقليص الإنفاق الحكومي والدعم الاجتماعي وتحرير الأسعار وخصخصة القطاعات العامة. في الحالة السورية، مثل هذه السياسات قد ترفع من حدة الفقر والبطالة، وتزيد من هشاشة الفئات الأضعف، ما يصطدم تماماً مع متطلبات إعادة البناء الشامل والمستدام. كما أن هذه السياسات التصحيحية غالباً ما تصب في صالح إعادة ترتيب المركز الاقتصادي على حساب الاقتصاد الوطني والمجتمع المدني وحق الدولة في إدارة مواردها بصورة فعالة ومستقلة.
يتضح جلياً بأن تصريحات صندوق النقد الدولي حول "بوادر تعافي" الاقتصاد السوري تقع في دائرة قراءة سطحية وغير كافية تنأى عن جوهر الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يعيشه الشعب السوري. فالتعافي الاقتصادي المزعوم يقوم على مؤشرات جزئية لا تعبر عن التحولات البنيوية الضرورية ولا تأخذ في الاعتبار هشاشة قواعد الحوكمة، وانسداد آفاق إدارة المخاطر، والغياب التام لآليات شفافة ومستقلة تمكّن من بناء اقتصاد وطني مستدام وعادل. إضافة إلى ذلك، فإن السياسات والتوصيات المصاحبة لصندوق النقد الدولي، والمتمثلة بشروط التقشف والخصخصة، تقف في تناقض صارخ مع حاجات سوريا الماسة للعدالة الاجتماعية وحماية الفئات الضعيفة.
إن الاستناد إلى مثل هذه التصريحات دون نقد عميق ومراجعة مبادئ وأهداف سياسات الدعم الدولي قد يعيد إنتاج أنماط التبعية الاقتصادية والسياسية التي فشلت في تحقيق أي استقرار حقيقي أو تنمية شاملة، وبهذا فإن إعادة بناء الاقتصاد السوري لا يمكن أن تتم بمعزل عن بيئة سياسية مستقرة ومؤسسات رشيدة وآليات حوكمة رشيدة تضمن مشاركة مجتمعية حقيقية وحق سيادي في إدارة الموارد الوطنية.
لذلك، يجب أن يكون الموقف النقدي تجاه هذا التصريح دافعاً إلى استعادة السرد الوطني المستقل الذي لا يغفل أبعاد التعافي الحقيقي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في سوريا، بعيداً عن وعود مؤسسات دولية تكرر نماذج فاشلة ومجحفة في ظروف محلية معقدة.