الفتنة… حين تُهدِّد ما تبقّى
مقالات
الفتنة… حين تُهدِّد ما تبقّى
وائل المولى
26 تشرين الثاني 2025 , 00:18 ص

‏الفتنة ليست حدثا عابرا يمرّ في سجلّ يومٍ مضطرب، بل هي اختبار حقيقي لوحدة مجتمعٍ أنهكته الجراح. إنها قوة خبيثة تبدأ همسا، ثم تتحوّل إلى نارٍ تلتهم كل ما تجده أمامها، لأنها تضرب في أعمق ما يملكه الإنسان: وعيه، ضميره، وثقته بأخيه. وما جرى في حمص ليس مجرد حادثة يمكن طيّها أو إدراجها في خانة التفاصيل إنه جرس إنذار يذكّر الجميع بأن الشرارة الصغيرة قد تتحوّل إلى حريق وطني إذا فُتح باب الفتنة ولو قليلا. فدماء الناس يمكن أن تُغسل مهما اشتدّ الألم، أما الفتنة حين تُفتح أبوابها، فلا تُغلق بسهولة، وتدخل منها كل الشياطين التي تنتظر لحظة ضعف واحدة لتقويض ما تبقّى من تماسك هذا الوطن.

‏حمص، بتاريخها وما حملته من آلام وأمل وتنوّع، تعود اليوم إلى الواجهة لتقول للسوريين جميعًا إن اللعب بالنار قد يبدو بسيطًا في بدايته، لكنه كارثي في نهايته. إن السماح لأي خطاب غرائزي أو طائفي بأن يجد مكانا له هو دعوة مباشرة لتكرار المآسي التي دفع السوريون ثمنها مرارًا. ولهذا، فإن الحاجة اليوم ليست لصوت السلاح ولا لصدى الغضب، بل لصوت واحد شجاع وواضح يقول: كفى. كفى للانجرار خلف الأصوات المسمومة التي تريد تحويل المدن إلى خنادق، والعائلات إلى جبهات، والجيران إلى أعداء. وكفى لاستحضار الماضي على شكل ثأر، لا على شكل عِبرة.

‏وفي خضم هذا المشهد المتوتر، كان من الضروري أن تتدخل السلطة الجديدة عبر الأمن العام لحماية ما يمكن حمايته ومنع اتساع رقعة الفتنة. لقد كان قرار فرض حظر التجول وانتشار القوى الأمنية في الأحياء خطوة في الاتجاه الصحيح، خطوة هدفت إلى وقف النار قبل أن تلتهم ما تبقّى من أمان الناس وطمأنينتهم. وعلى هذا التدخل أن يستمر، لا بوصفه إجراءً ظرفيا، بل مسارا واضحا لكشف حقيقة من أشعل هذه الفتنة، ولماذا، وكيف. فالمحاسبة هي الطريق الوحيد لمنع تكرار ما حدث، وهي العامل الأساسي لترميم الثقة المكسورة. ويجب أن يترافق ذلك مع تعويض المتضررين عمّا خسروا من منازل ومحلات وسيارات وأرزاق، والوقوف إلى جانبهم في مصيبتهم وخوفهم ورعبهم، لأن العدالة ليست شعارا يُرفع، بل فعلٌ يُصلح الجراح ويعيد للناس إحساسهم بأن الدولة معهم لا عليهم.

‏إن سوريا، رغم كل ما أصابها، لم تفقد حقّها في الحياة ولا قدرتها على النجاة. لكن بقاءها مرهون بقدرة أبنائها على حماية ما بقي من النسيج الوطني، هذا النسيج الذي تمزّق كثيرًا لكنه لم ينقطع، والذي يحتاج إلى من يعقله ويحميه ويعيد بناء الثقة حوله. إن الفتنة لا تنتصر لصاحبها، ولا تمنح السلطة لمن أشعلها، بل تترك الجميع خاسرين، وتجعل الوطن هشيمًا تتقاذفه الرياح. وما حدث في حمص يجب أن يكون دعوة للاستيقاظ، لا وقودًا لغضب جديد؛ لحظة وعي تسبق الانهيار، لا خطوة إضافية نحوه. فالمستقبل لن يُكتب إلا بوعي ومسؤولية وقرار جماعي بعدم السماح للفتنة بأن تجد لها موطئ قدم بيننا، لأن انتصارها يعني نهاية الجميع، دون استثناء.