تخزن الخلية البشرية ما يقارب ستة أقدام كاملة من الحمض النووي (DNA) داخل نواة لا يتجاوز قطرها جزءا صغيرا من عرض شعرة الإنسان. ولتحقيق هذا الإنجاز الهائل من الضغط والتنظيم، يعتمد الحمض النووي على نظام محكم من النوكليوزومات وألياف الكروماتين والقطرات المكثّفة التي تتشكل عبر عملية تُعرف بـ الانفصال الطوري (Phase Separation).
لأعوام طويلة، بقي الشكل الحقيقي لهذه القطيرات الغامضة غير واضح، خاصة كيفية ترتيب الألياف داخلها. لكن الآن، بفضل تصوير متطور للغاية، أصبح هذا اللغز أقرب إلى الحل.
كيف تُنظم الخلية حمضها النووي بكفاءة مذهلة؟
يلتف الحمض النووي حول بروتينات خاصة لتشكيل النوكليوزومات، التي تتصل ببعضها مثل “خرز على خيط”. وتتجمع هذه السلاسل لتصبح ألياف كروماتين، والتي تتكثف أكثر فأكثر داخل ما يشبه القطرات المجهرية (Condensates).
في عام 2019، اكتشف فريق بقيادة الباحث مايكل روزن من معهد هوارد هيوز أن هذه الأجزاء يمكنها التجمّع تلقائيا في المختبر لتكوين قطرات بلا غشاء، بشكل يشبه سلوك الزيت عندما ينفصل عن الماء. وقد افترض الفريق أن العملية نفسها تحدث داخل الخلايا الحية.
استكشاف السلوك الخفي داخل قطرات الكروماتين
تحتوي قطرات الكروماتين على مئات الآلاف من الجزيئات التي تتحرك وتتفاعل بسرعة. وتُظهر هذه الجزيئات خصائص جماعية جديدة لا تظهر عند دراسة كل جزيء على حدة. فهم هذه الخصائص ضروري لمعرفة كيف تتكوّن القطرات وكيف تحافظ على شكلها وخصائصها الفيزيائية.
ولفهم التفاصيل الدقيقة لهذا الترتيب الداخلي، تعاون فريق روزن مع باحثين آخرين من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، وجامعة كامبريدج، ومركز أبحاث Janelia التابع لـHHMI.
باستخدام تكنولوجيا تصوير متطورة جدا، التقط العلماء أكثر الصور تفصيلاً على الإطلاق لترتيب النوكليوزومات داخل هذه القطرات.
ماذا تكشف الصور عالية الدقة عن بنية الكروماتين؟
اعتمد الباحثون على دمج تقنيات متعددة:
التصوير المجهري الإلكتروني بالتبريد (Cryo-ET)
المحاكاة الحاسوبية
المجهر الضوئي المتقدم
هذه الأدوات مكّنتهم من رؤية كيفية ترتيب الجزيئات والتفاعل بينها داخل القطرات المجهرية.
أهم الاكتشافات:
1. طول رابط الـDNA يحدد شكل البنية
بيّنت التحليلات أن طول الـDNA الرابط بين النوكليوزومات يحدد:
كيفية تفاعل ألياف الكروماتين
شكل الشبكة الداخلية للقطرات
قابلية الكروماتين للتكثف وخصائصه المادية
2. التشابه بين القطرات المخبرية والكروماتين الحقيقي
كانت المفاجأة أن القطرات المصنعة في المختبر تشبه إلى حد كبير الكروماتين المكثف داخل الخلايا الحية، مما يؤكد صحة النموذج التجريبي.
يقول روزن: “ولأول مرة، أصبح بإمكاننا ربط البنية الجزيئية الصغيرة بالخصائص الماكروسكوبية للقطرات.”
إطار جديد لفهم آلية التكاثف الحيوي في الخلايا
يمتد تأثير هذا البحث إلى ما هو أبعد من الكروماتين. فالكثير من العمليات الحيوية، مثل تنظيم الجينات والاستجابة للإجهاد، تعتمد على التكاثف الحيوي داخل قطرات مماثلة.
وقد يساعد فهم كيفية عمل هذه القطرات في تفسير:
لماذا تفشل أحيانا في أداء وظيفتها
وكيف يؤدي ذلك إلى أمراض مثل الأمراض العصبية التنكسية والسرطان
ويقول الباحث هوايبين زهو: “فهم كيفية تفكك التكاثف قد يفتح الباب لتطوير جيل جديد من العلاجات.”
يمثل هذا الإنجاز خطوة كبيرة نحو كشف البنية الدقيقة للحمض النووي داخل الخلايا، ويعزز فهم العلماء لكيفية تنظيم المعلومات الوراثية. ومع التقدم المستمر في تقنيات التصوير، قد نكون على أعتاب ثورة جديدة في علم الأحياء البنيوي وفهم الأمراض المرتبطة بالخلل في التكاثف الجزيئي.