تُظهر الأبحاث الحديثة أنّ السرطان لا ينشأ فقط بسبب طفرات جينية، بل يمكن أن يكون نتيجة لانهيار في الهندسة ثلاثية الأبعاد للحمض النووي داخل الخلية. تخيّل مدينة تختفي طرقها فجأة فتنفصل أحياؤها وتتوقف الخدمات، هذا بالضبط ما يحدث داخل الخلايا عندما تتفكك بنية الـDNA.
في دراسة رائدة عُرضت خلال مؤتمر الجمعية الأمريكية لأمراض الدم (ASH) لعام 2025، قدّم الدكتور مارتن ريفاس من مركز سيلفستر الشامل للسرطان بجامعة ميامي اكتشافا مهما: حتى الاضطرابات الطفيفة في بنية الجينوم يمكن أن تمهّد الطريق لظهور الليمفوما. وهذا يشكّل منظورا جديدا تماما لفهم السرطانات الدموية وعلاجها مستقبلا.
اضطراب البنية الجينومية: مفهوم جديد لكبح الأورام
الدراسة، التي حملت عنوان:
"فقدان نصف النسخة من SMC3 وCTCF يقود إلى الأورام اللمفاوية من خلال خلل في الجينوم ثلاثي الأبعاد وتعطيل حلقات التنظيم بين المعززات والمحفزات"
قدّمت مفهوما جديدا أطلق عليه الباحثون "كبح الأورام البنيوي".
ما معنى ذلك؟
هناك بروتينات مثل SMC3 و CTCF لا تكتفي بتنظيم الجينوم، بل تقوم بدور حيوي يكبح السرطان:
إبقاء حلقات الـDNA التي تربط "مفاتيح تشغيل الجينات" (المعززات) مع الجينات التي تتحكم بها (المحفزات).
عندما تفقد الخلية نصف كمية هذه البروتينات فقط، تبدأ هذه الحلقات بالاختفاء، مما يؤدي إلى إسكات الجينات القامعة للسرطان.
ويقول ريفاس:
"لطالما عرفنا أنّ الطفرات تُسبب السرطان، لكننا اليوم ندرك أن طريقة طيّ الحمض النووي قد تكون بنفس الأهمية."
الذكاء الاصطناعي يكشف الخلل الخفي في الجينوم
استخدم فريق البحث أدوات متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات ضخمة من:
خرائط Hi-C ثلاثية الأبعاد للجينوم
تسلسل RNA أحادي الخلية
البصمات اللاجينية (Epigenetics)
أهم النتائج:
فقدان نصف كمية SMC3 أو CTCF لا يدمّر الجينوم كله.
لكنه يضعف الحلقات القصيرة بين المعززات والمحفزات التي تحافظ على نشاط جينات مهمة مثل:
Tet2، Kmt2d، Dusp4
غياب هذه الحلقات يضع الخلايا البائية في "عنق زجاجة قرارية" يمنعها من النضج إلى خلايا بلازمية، مما يخلق بيئة خصبة لتطوّر الليمفوما.
ويضيف ريفاس:
"الذكاء الاصطناعي سمح لنا برؤية أن فقدان نسخة واحدة فقط من جين قادر على إعادة تشكيل المشهد ثلاثي الأبعاد للجينوم بالكامل."
تأثيرات سريرية مباشرة: مؤشر للتشخيص وربما هدف علاجي
النتائج لم تبقَ في إطار المختبر، إذ تبيّن أن:
المرضى المصابون بـ الليمفوما كبيرة الخلايا B (DLBCL)
والذين يملكون مستويات منخفضة من بروتين SMC3
يعانون من نتائج أسوأ في العلاج.
هذا يعني أنّ بنية الجينوم نفسها قد تصبح مؤشرا تشخيصيا مهما، بل وربما هدفا لعلاجات جديدة.
إمكانية ثورية للعلاج:
بدل إصلاح الطفرات، قد تستهدف العلاجات المستقبلية:
إعادة بناء الحلقات الجينومية
أو محاكاة تأثيرها للحفاظ على نشاط الجينات القامعة للسرطان.
تغيير جذري في فهمنا للسرطان
تكشف هذه الدراسة أن السرطان ليس مجرد خلل في الشيفرة الجينية، بل هو أيضا انهيار في الهيكل الداعم لهذه الشيفرة.
قد يقود هذا الفهم الجديد إلى جيل جديد من العلاجات التي تركز على:
تعزيز استقرار بنية الجينوم
حماية الحلقات الجينية التي تمنع تطور الأورام
وكما يقول ريفاس:
"نحن ندخل عصرا قد يعتمد فيه علاج السرطان على إصلاح الهندسة الجينية، لا مجرد إصلاح الجينات."
كما في المدينة التي تتعطل شوارعها وتنعزل أحياؤها، يؤدي اختفاء حلقات الحمض النووي إلى عزل الجينات الحيوية التي تمنع السرطان. إعادة وصل هذه "الطرق المفقودة" قد تكون المفتاح لمنع تطوّر سرطان الدم وإنقاذ حياة الملايين.