تغييرات خفية في الحمض النووي تمنح البكتيريا قدرة مذهلة على مقاومة الأدوية
دراسات و أبحاث
تغييرات خفية في الحمض النووي تمنح البكتيريا قدرة مذهلة على مقاومة الأدوية
8 كانون الأول 2025 , 15:37 م

يُعدّ مرض السل (TB) أحد أقدم الأمراض المعدية وأكثرها فتكاً بالبشرية. وعلى الرغم من تطور الطب وتوفر المضادات الحيوية منذ أربعينيات القرن الماضي، لا يزال السل يحصد أرواح أكثر من مليون شخص سنوياً. تعود خطورة المرض إلى بكتيريا Mycobacterium tuberculosis التي طوّرت مع مرور الزمن قدرة كبيرة على مقاومة الأدوية، بما في ذلك السلالات المتعددة المقاومة التي تُعدّ تحدياً كبيراً في العلاج.

اكتشاف حديث نشرته جامعة ملبورن في مجلة Nature Communications يكشف أساليب جديدة وغير متوقعة تستخدمها البكتيريا للهروب من العلاج، وذلك عبر تغييرات خفية ومعقدة في الحمض النووي لم تكن الأدوات التقليدية قادرة على رصدها.

جذور المرض من المومياوات المصرية إلى القرن 21

عُثر على آثار بكتيريا السل في مومياوات مصرية قديمة، حيث ظهر على الهياكل العظمية تشوهات معروفة في حالات السل غير المعالج. كما ظهر المرض في الفن المصري القديم، ما يؤكد قدمه وانتشاره.

ورغم قدم المرض، فإن فهم كيفية احتفاظه بقدرته القاتلة بقي غامضاً لسنوات طويلة. لقد درست العلوم الطبية طفرات صغيرة في الحمض النووي للبكتيريا، لكنها لم تستطع رؤية الصورة الكبيرة الكاملة

لماذا لم ترَ التقنيات القديمة التغييرات المهمة؟

تعتمد المراقبة العالمية للميكروبات على تقنية التسلسل قصير القراءة، وهي جيدة في اكتشاف الطفرات الصغيرة. لكنها تفشل في تحديد التغيرات الجينية الكبيرة والمعقدة في جينوم السل، مثل:

الترتيبات الضخمة في الحمض النووي

التكرارات

الإدخالات والحذوفات

العناصر المتحركة

هذه التغييرات تُعرف بـ المتغيرات البنيوية (Structural Variants)، وكانت لسنوات طويلة مثل "منطقة مظلمة" في الجينوم لا يمكن رؤيتها.

تقنيات حديثة تكشف ما كان مخفياً

استعان الباحثون بتقنيات تسلسل طويل القراءة (Long-read sequencing) بالإضافة إلى تحليل خرائط الجينوم (Genome Graph Analysis)، وتمكّنوا للمرة الأولى من بناء أول بانجينوم لبكتيريا السل، وهو خريطة شاملة تضم جميع الاختلافات الجينية عبر السلالات وليس جينوماً مرجعياً واحداً فقط.

ما أهمية ذلك؟

لأن بعض السلالات:

تسبب مرضاً خفيفاً

بينما تسبب أخرى مرضاً أكثر شدة

وسلالات ثالثة أكثر مقاومة للعلاج

والفرق بين السلالات قد يكون مخفياً في تلك المتغيرات البنيوية التي لم نكن قادرين على رؤيتها سابقاً

كيف تغيّر البكتيريا حمضها النووي لمقاومة العلاج؟

كشفت التقنيات الجديدة عن عمليات إعادة ترتيب ضخمة في جينوم البكتيريا، تشمل:

الحذف

التضاعف

الانعكاس

الإدخال

ويعود الفضل في معظم هذه التغييرات إلى قطعة صغيرة من الحمض النووي تُسمّى IS6110، قادرة على التحرك داخل الجينوم والتسبب في تغييرات دراماتيكية.

نتائج مهمة:

بعض التغيرات تحذف جينات معينة، مما يجعل الدواء غير قادر على التأثير على البكتيريا.

تغييرات أخرى تعطل العناصر التنظيمية التي تتحكم في نشاط الجينات، ما يساعد البكتيريا على النجاة من العلاج.

بعض المتغيرات تغيّر عدد نسخ الجينات، مما يمنح البكتيريا قدرة إضافية على تحمل المضادات الحيوية.

هذه الآليات تُفسّر لماذا تستمر بعض سلالات السل في النمو رغم عدم ظهور طفرات صغيرة معروفة في الجينوم.

كيف تساعد هذه الاكتشافات في تحسين العلاج؟

تشكل المتغيرات البنيوية مفتاحاً مهماً لتحسين:

التنبؤ بالاستجابة للعلاج

دقة التشخيص

تتبّع انتشار السلالات المقاومة للأدوية

إذا تمكن الأطباء من رصد هذه التغيرات في العينات السريرية، سيكون بالإمكان:

معرفة السلالات التي قد تفشل في الاستجابة للعلاج

اختيار خليط الأدوية الأمثل لكل مريض

تحسين أنظمة المراقبة العالمية لانتشار السل

ومع انخفاض تكلفة تقنيات التسلسل طويل القراءة، أصبح دمجها في برامج الصحة العامة أكثر واقعية من أي وقت مضى.

تغيير شامل في طريقة دراسة السل

يقترح الباحثون أن على المجتمع العلمي الانتقال من اعتبار الجينوم "مرجعاً ثابتاً" إلى اعتباره منظومة ديناميكية تتحرك وتتبدل تحت ضغط الأدوية والبيئة.

الخطوات المستقبلية تشمل:

دمج المتغيرات البنيوية في نماذج التنبؤ المقاومة

توسيع خريطة البانجينوم لتشمل سلالات أكثر

التعاون مع مختبرات عالمية لدراسة أثر هذه التغيرات على انتقال المرض

تهدف هذه الجهود إلى جعل تحليل المتغيرات البنيوية جزءاً أساسياً من أبحاث السل، وليس أداة متقدمة لا تُستخدم إلا في الدراسات المتخصصة.

تكشف هذه الدراسة عن طبقة كاملة من التغييرات الجينية في بكتيريا السل كانت مخفية بالكامل لعقود. ومع رؤيتها الآن بوضوح، تُفتح أبواب جديدة لتطوير أدوات تشخيص أكثر دقة، وعلاجات أفضل، واستراتيجيات أقوى للسيطرة على مقاومة المضادات الحيوية.


المصدر: مجلة Nature Communications