د . مهدي مبارك عبد الله
الرئيس الامريكي دونالد ترامب يبدو وكأنه يمشي على طريقٍ واحدٍ لكنه يحمل وجهين متناقضين في المسار الاول يريد أن يُقنع العالم برؤيته حول ما يسمى بالسلام الإبراهيمي والتطبيع مع اسرائيل والانفتاح على العالم ووقف الحروب بينما هو في الحقيقة يسير على ذات الدرب الذي يشعل فيه النار ويزرع الخلافات ويُهدد الشعوب ويُشهر سلاح القوة ف وجه الشعوب والدول كلما شعر أن بريقه السياسي بدأ يخفت أو أن مكانته المحلية والدولية باتت تتراجع وفي الواقع إن ترامب الذي أراد أن يسطّر لنفسه مجدا تاريخيا كصانع سلام يشبه الرئيسين السابقين جيمي كارتر أو بيل كلينتون انتهى إلى صورة زعيم فوضوي ومضطرب فقد السيطرة على كل الاتجاهات التي حاول أن يسلكها وبدلا من أن يكون الرئيس الذي يُطفئ الحروب اصبح رجل امريكا الذي يعيش على التهديد بها وينتفع منها سياسيا وإعلاميا
منذ وصول ترامب للبيت الأبيض في الجولة الاولى وحتى عودته إليه عام 2025 ظل يبحث بإلحاح عن عدوٍ خارجي يصنع منه منصةً لتمرير خطابه الشعبوي حيث كان تارة يهدد إيران ويصفها بأنها مركز الإرهاب العالمي ويعد الأمريكيين بحرب حاسمة تردعها وتارة اخرى يتحدث عن كوريا الشمالية بلغة الحرب قبل أن يتحول فجأة إلى عاشقٍ للسلام معها ويصف زعيمها كيم جونغ أون بالصديق الذكي الذي يفهم لغة القوة ومرة ثالثة يهاجم المكسيك ويتوعدها ببناء الجدار وفرض العقوبات ثم يعيد الحديث عن الشراكة والتعاون الحدودي معها وكأن السياسة عنده لعبة مقايضة سريعة ومسلية لا تقوم على منطق ولا مبدأ ولا أي هدف واضح
في احدث تخبطاته وهوسه سعى ترامب بجد واجتهاد إلى اختلاق أزمات مفتوحة مع فنزويلا وهدد باجتياحها بعدما اتهم رئيسها نيكولاس مادورو بقيادة كارتل مخدرات بينما الحقيقة المعروفة للجميع أن واشنطن أرادت أن تفرض تغييرا للنظام وتسيطر على النفط الفنزويلي ثم عاد ترامب ليستخدم الخطاب الديني في مهاجمة نيجيريا بحجة الدفاع عن المسيحيين المضطهدين هنالك وكأن العالم بحاجة إلى حمايته ووصايته على الدين والإنسانية وفي كل مرة كان يرفع راية الدفاع عن الحريات والحقوق فيما يمارس هو داخل بلاده سياسات الفتنة والتفرقة ويشجع الكراهية العرقية ويطارد الإعلام وطلبة الجامعات والمعارضين ويهدد القضاة ويستقوي بالحرس الوطني على خصومه السياسيين وحكام الولايات
مقابل كل ذلك حاول ترامب أن يرتدي عباءة السلام حين أطلق مشروع الاتفاقات الإبراهيمية الذي قدّم نفسه من خلاله كمهندسٍ للسلام الجديد في الشرق الأوسط رغم انه لم يكن سلاما حقيقيا بقدر ما كان صفقة سياسية لتثبيت قوة ومكانة الاحتلال الإسرائيلي وتجميل صورته عبر جرّ بعض الأنظمة العربية إلى التطبيع معه مثل البحرين والمغرب والإمارات والسودان مقابل وعودٍ اقتصادية وصفقات أسلحة وضمانات أمريكية بالاستقرار الزائف ولا زال ترامب يواصل سعيه الدؤوب لإقناع السعودية ولبنان وسوريا بالانضمام إلى الركب وكأنه يريد أن يختصر قضية فلسطين برمتها في حفلة علاقات عامة ودبلوماسية صاخبة تُدار من البيت الأبيض ويُعرض فيها التاريخ والمستقبل العربي ان بقي منه شيئا للبيع بأباخس الاثمان
غزوة طوفان الاقصى وحرب غزة الأخيرة قلبت الطاولة على ترامب وعلى مشروعه المشبوه حين فرضت المقاومة الفلسطينية ببسالتها وصمودها وقوتها مسار الأحداث عليه وليس العكس حيث أجبرته على التراجع عن شعارات القوة وفرض الهيمنة والتهديدات المستمرة بالهجوم والرد السريع والمروع ليجد نفسه فجأة محاصرا بين رغبة إسرائيل في سحق غزة وبين ضغط الرأي العام العالمي الذي بدأ يراه شريكا فعليا في الجريمة والعدوان كما وجد نتنياهو نفسه هو الآخر عالقا في فخٍ سياسي خطير بعدما تحولت الحرب إلى عبء على صورتهما معا حيث بدت دعوات وقف إطلاق النار وكأنها استسلام مبطن فرضته معادلة المقاومة واصبحت تطلبه تل ابيب وليس كما يروج له من واشنطن مبادرة سلام حقيقية وصادقة لوقف الحرب
الشاهد انه كلما حاول ترامب أن يُعيد إحياء وتلميع صورته كزعيم عالمي كبير يجد نفسه غارق من جديد في تناقضات وتجاوزات خطاباته وتصريحاته غير الموفقة فهو الرئيس الذي يهاجم جنوب إفريقيا بحجة اضطهاد البيض ويتهمها بالإبادة العرقية بينما يتغاضى ويغض الظرف عن مجازر الابادة الجماعية والحصار والتجويع التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين وهو ايضا الذي يرفع شعار حقوق الإنسان في نيجيريا ويهددها بالقوة الباطشة بينما يتجاهل آلاف الضحايا في غزة واليمن والسودان وإنه الرئيس ذاته الذي يتحدث دائما عن السلام ( بلسان الحرب ويُعلن الحرب باسم السلام ) فلا أحد في العالم يستطيع أن يفهم إلى أي اتجاه يسير ترامب ولا هو نفسه يبدو قادرا على فهم ما يريد حقا او تحديد بوصلته وخياراته
يواجه ترامب داخل العمق السياسي مأزق حقيقي متشعب فقد حاول مرات عديدة أن يستعيد قوته وسيطرته عبر فرض التهديد والهيمنة على العالم بعد أن شعر أن أمريكا لم تعد وحدها المتحكمة في القرار الدولي لكن اتضح ان هذه اللغة الممجوجة التي يستخدمها لم تعد تجدي في زمنٍ تتعدد فيه الأقطاب وتتشابك المصالح فروسيا والصين وإيران وتركيا وحتى بعض دول أفريقيا لم تعد ترى في تهديدات ترامب سوى صدى اجوف لصوت زعيمٍ اهوج فقد القدرة على التأثير والفعل وراح يلوّح بالعقوبات والرسوم الجمركية والغزو ويتحدث عن الإبادة والحرية دون أن يقدم مشروعا عقلانيا يليق بزمن التحولات الكبرى التي تجتاح العالم با هوادة
ترامب بنشوزه السياسي وبلطجته العسكرية وعدم احترازه اللفظي وقلة حرصه القيمي والاخلاقي تاه بين إشعال الحروب وصناعة السلام وفقد نفسه ولم يعد يعرف أي الطريقين يمكن أن يوصله إلى التاريخ العظيم الذي ينشده فطريق الحرب استنزفا صورته أمام شعبه والعالم وطريق السلام تتطلب منه صدقا لا يملكه ولا يؤمن به ولذلك بقي عالقا بينهما امران احلاهما مر لا هو قادر على أن يكون كارتر الذي صنع اتفاق كامب ديفيد عام 1978ولا كلينتون الذي جمع الفلسطينيين والإسرائيليين في أوسلو عام 1993 ولا حتى نيكسون الذي فتح أبواب الصين أمام الدبلوماسية الأمريكية عام 1972 حيث ظل يعيش في قوقعة ودائرة ضيقة من الشعارات المستهلكة والتهديدات الخرقاء والمناورات القصيرة التي لا تبني مجدا ولا تصنع تاريخا ولن بتقي له اي ذكرى تذكر بعد ساعات من مغادرته منصبه الرسمي
الرئيس ترامب ثبت عمليا انه مصاب بأمراض مزمنة بتضخم الانا والطيش والغرور وسوء السلوك وانحراف التفكير واليوم يعيش اعراض مأزقا داخليا لا يقل خطورة عن تناقضاته الخارجية حيث يواجه انقساما حادا في المجتمع الأمريكي لم تعرفه الولايات المتحدة منذ الحرب الأهلية عام 1861 تقريبا إذ تتنازعه التيارات اليمينية المتطرفة التي تراه رمزا للقوة والهوية البيضاء بينما تخشاه النخب السياسية والمؤسسات العسكرية التي تدرك أن هذا الرجل لا يتردد في خرق التقاليد الديمقراطية والالتفاف على القيود الدستورية إذا ما تعارضت مع مصالحه الشخصية خصوصا وانه سعى في الآونة الأخيرة إلى استثمار كل أزمات العالم من أوكرانيا إلى غزة وصولا الى فنزويلا وايران وسوريا واليمن ولبنان والعراق ليعيد لنفسه صورة الزعيم القادر على فرض الهيبة والأمن بالقوة والاستعلاء الأمريكي القديم لكنه بهذه التصرفات المرفوضة محليا وعالميا نمي ونشر خطاب ومشاعر الفتنة والكراهية واعاد أميركا إلى زمن الغطرسة التي ظن العالم أنها انتهت مع نهاية الحرب الباردة بتفكيك الاتحاد السوفيتي عام 1991وما يعزز هذا الاختلاف و الانقسام أن ترامب لا زال يحرص على تصوير نفسه ضحية للمؤامرات الإعلامية والقضائية وأنه المخلّص الاوحد للعالم والذي يحاربه الجميع لأنه يقول الحقيقة ( انفصام الشيزوفرينيا ) ولهذا يوجه أنصاره نحو فكرة المؤامرة الكبرى ويزرع فيهم شعورا دائما بالتهديد والخطر ليحشدهم خلفه كلما احتاج إلى وقود سياسي جديد في كل سياسة ينتهجها ومعركة يفتعلها
على المستوى الانتخابي سعى ترامب إلى تحويل كل أزمة اقليمية ودولية إلى رصيد انتخابي داخلي وه يظن بقناعة عميقة أن التلويح بالحرب يعزز شعبيته وأن خطاب القوة يجذب الناخب الأمريكي الذي يخشى على مكانة بلاده في العالم لذلك تراه يهاجم الصين تارة ويتحدث عن إيران تارة أخرى ثم يتدخل في نزاعات أفريقيا وأمريكا اللاتينية وكأنه جعل من البيت الأبيض منصة حرب مفتوحة على الكرة الأرضية كلها لكنه في الواقع كان دائما يهرب من عدة ملفات داخلية أثقلته كقضية الضرائب والتهم القضائية وانقسامات الكونغرس والاقتصاد المتراجع وتضاؤل الثقة العالمية بالولايات المتحدة وكلما تعمقت أزماته الداخلية ازداد تطرفا في تهديداته الخارجية ليخلق وهما بالقوة يغطي ضعف اداءه في الداخل حيث بات أسير خطابه المكروه ولا يستطيع التراجع عنه لأن ذلك يعني الهزيمة السياسية والنفسية في آن واحد
اللافت في الامر انه كلما كان يقترب موعد الانتخابات الأمريكية يعمد ترامب الى الرهان من جديد على سياسة حافة الهاوية وهو يعتقد جازما أن الأزمات الكبرى تصنع الزعماء في نظر الناخب الأمريكي وأن الخوف من الحرب أو من تراجع القوة الأمريكية يخلق حنيناً إلى الزعيم الذي يتحدث بلغة النار والتهديد لذلك عمل على توظيف كل ملف خارجي كأداة انتخابية بدأ من الشرق الأوسط ليظهر حينا بصفة الحامي لإسرائيل والمسيحيين ثم ينتقل إلى أفريقيا ليقدّم نفسه كمنقذ للأقليات ويصل إلى آسيا ليذكّر الأميركيين بأنه الوحيد القادر على كبح جماح وتغول الصين وكوريا الشمالية
كثير من الامريكيين في هذا المشهد الضبابي لا زالوا يتذكرون كيف ادار ترامب حملته الانتخابية السابقة من خلال طرح سياسة التخويف وبث الشعور بالخطر الخارجي حين قدم نفسه باعتباره الضامن الوحيد للأمن القومي وللقوة العسكرية العظمى ومع ذلك فإن هذا النهج انقلب عليه لأن من قبل بعض الناخبين الأمريكيين الذين لم يعدو يروا في التهديدات والحروب طريقا للرخاء أو للاستقرار الاقتصادي بل باتوا عمليا يبحثون عن من يخفف أعباء التضخم ويعيد الثقة بالعلاقات الدولية ويُصلح صورة بلادهم في العالم التي شوهتها مغامرات ترامب المتكررة ولذلك فإن رهانه على ورقة الحروب قد يمنحه زخما مؤقتا لكنه قد يتحول في النهاية إلى عبءٍ ثقيل يذكر الأمريكيين بفوضى سياساته واندفاعه غير المحسوب في زمنٍ يحتاج العالم فيه إلى التوازن والعقل لا إلى الصراخ والاندفاع والغوغائية
في النهاية : نقول للكاوبوي راعي البقر دونالد ترامب كفاك عبث وتهور وصبيانية ومجون فلم يعد في عمرك ولا سمعتك ولا امكاناتك ما يساعدك على المضي طويلا في نظريات الغباء والجنون والتهديد والتلاعب بمصائر الشعوب والأمم ولن تصنع لك هذه الافكار السوداوية والسياسات الرعناء مجدا وتاريخ واعتبار ولن يولد السلام الذي تسعى اليه من رحم العدوان والاحتلال وإذا ما أردت قعلا أن تُخلّد اسمك بين صانعي السلام الكبار فعليك أن تبدأ بالصدق مع نفسك ووطنك اولا قبل أن تدّعي أنك تنقذ الآخرين لأن العالم بات يراك زعيما خطيرا يطارد ذاته في كل مرايا الحروب وزقاق الارض أكثر مما يبحث عن السلام في الحقيقة والواقع
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية