سورية بين اقتصاد الظل وصراع المصالح: من يكتب مصير الدولة؟
مقالات
سورية بين اقتصاد الظل وصراع المصالح: من يكتب مصير الدولة؟
وائل المولى
15 كانون الأول 2025 , 05:09 ص

ما جرى ويجري في سوريا اليوم لا يمكن اختزاله في صراعٍ سياسي أو أمني فحسب، بل هو في جوهره صراعٌ اقتصادي عميق، تتشابك فيه المصالح الدولية والإقليمية، وتُرسم على أساسه خرائط النفوذ المقبلة. فخلف الضجيج العسكري والخطابات السياسية، يتحرك اقتصاد الظل بهدوء، وتعمل شبكات المال والشركات الكبرى على تهيئة الأرضية لمرحلة ما بعد الانهيار الطويل.

في هذا السياق، يبرز دور توم براك بوصفه أحد رعاة هذا المسار الاقتصادي غير المُعلن. الرجل لا يتحرك بدافع أيديولوجي ولا وفق حسابات سياسية، بل بمنطق الاستثمار البحت: المال أولاً، والاستقرار شرطه الأساسي. لا يعنيه شكل النظام ولا تركيبته، بقدر ما يعنيه خلق بيئة قابلة لجذب الرساميل، حتى لو كان ذلك فوق ركام دولة منهكة ومجتمع مدمَّر.

المشهد السوري اليوم يقوم على تداخل ثلاثي الأبعاد: سياسي، أمني، واقتصادي. الصراع السياسي يحدد العناوين، والأمني يفرض الإيقاع، أما الاقتصادي فهو من يقرر الاتجاه النهائي. من هنا، تعمل شركات كبرى – قطرية أميركية من جهة، وتركية من جهة أخرى، إلى جانب شركات إقليمية ودولية – على تهيئة الشروط السياسية والأمنية للدخول بقوة إلى السوق السورية. ليست إعادة الإعمار هي الهدف الحقيقي، بل إعادة تشكيل الاقتصاد السوري بما يتلاءم مع مصالح الخارج.

العين في هذا الصراع ليست فقط على البر السوري، بل على البحر أيضاً. فالثروات الكامنة في شرق المتوسط قبالة السواحل السورية تمثل كنزاً استراتيجياً مؤجلاً. الغاز والطاقة باتا جزءاً مركزياً من معادلة الصراع، فيما تتحول سوريا تدريجياً من دولة ذات سيادة منقوصة إلى ساحة مفتوحة للتنقيب والتقاسم.

في المقابل، تختلف الحسابات الإسرائيلية. فإسرائيل لا يعنيها الاستثمار ولا الإعمار، بل هدفها الثابت: إبقاء سوريا ضعيفة، مفككة، بلا جيش حقيقي ولا قرار سيادي. دولة هشة تعني حدوداً آمنة، وصراعاً داخلياً دائماً يبدّد أي إمكانية لنهوض سوري مستقبلي. أما اقتصادياً، فيكمن الدور الإسرائيلي في منع أي طرف من الاقتراب من المصالح الاقتصادية التي ستؤول، في نهاية المطاف، إلى الشركات الأميركية، ولا سيما في شرق المتوسط.

أما تركيا، فتنظر إلى سوريا بوصفها “حديقة خلفية” استراتيجية: عمقاً أمنياً، وسوقاً اقتصادياً، ومنطقة نفوذ مباشرة. مشروع أنقرة لا يقوم على قيام دولة سورية قوية، بل على دولة وظيفية تدور في الفلك التركي سياسياً واقتصادياً.

وفي قلب هذا المشهد المتشابك، تقف السلطة السورية الجديدة، محاولة استعادة مركزية الدولة وبسط نفوذها على كامل الجغرافيا، عبر مناورات سياسية تجعل منها ضرورة لجميع المتنافسين على سوريا. غير أن هذا الطموح يصطدم بواقع قاسٍ: دولة بلا اقتصاد مستقل، بلا سيطرة كاملة، وبلا قرار حر، محاطة بشركات، ورعاة مصالح، وقوى إقليمية لا تريد لها أن تنهض.

بين توم براك الذي يريد الملايين، وتركيا التي تريد النفوذ، وإسرائيل التي تريد الضعف، والشركات التي تبحث عن الطاقة والربح، تضيع سوريا كدولة وكشعب. لم يعد السؤال: من يحكم سوريا؟ بل بات: من يمتلك اقتصادها، وقرارها، ومستقبلها؟

مصير سوريا اليوم معلّق بين خيارين: إما أن تتحول إلى دولة مستباحة تُدار من غرف المال والشركات، أو أن تستعيد نفسها ككيان سيادي قادر على حماية ثرواته وقراره. وحتى الآن، لا تبعث المؤشرات على الاطمئنان. فـالاقتصاد يسبق السياسة، ومن يربح اقتصاد سوريا، هو من يكتب مصيرها.