بقلم :محمد سعد عبد اللطيف ،،!!
منذ عام، كتبتُ وصرختُ عمّا جرى خلال الاستحقاق الانتخابي في قريتي. لم أكتب بدافع الخصومة، ولا بدافع الخسارة، بل بدافع الإيمان بأن السياسة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون سباقًا أو استعراضًا. يومها قيل لي: “خذلتك النخبة”. واليوم أقولها بلا تردّد: نعم، خذلتني النخبة… لكن الصفعة علّمتني أكثر مما علّموني.
خذلتني نخبة ظننتها يومًا عماد التغيير، فإذا بها عشّاق “اللقطة”، أسرى ثقافة الفرجة، لا يظهرون إلا بعد فوات الأوان. يخرجون من مقاهي الفيسبوك محلّلين، صارخين، مستعرضين عضلات لغوية خاوية. لا يجيدون فن الكتابة، ولا يملكون أدوات التحليل، ولا يعرفون من علوم السياسة سوى عناوينها. لا يفرّقون بين المجتمع المدني ودوره، والعمل السياسي بوصفه صراع برامج ومصالح، لا صدقات موسمية ولا حفلات علاقات عامة.
في قاموسهم، المال السياسي “عمل خيري”، وشراء الأصوات “مساعدة”، وتحالف المصالح “ضرورة مرحلة”. يحرّمون الحق باسم الواقعية، ويحلّلون الفساد باسم الحكمة، ويطلبون من الفقراء الصمت والصبر، بينما يفتحون الأبواب للأقوياء بلا حساب. وحين تنكشف العورات، يبدأ تبادل الاتهامات، كأن الذاكرة قصيرة، أو كأن الناس لم ترَ ولم تسمع.
رأيت كيف تحوّلت الانتخابات إلى مسرح، والناخب إلى رقم، والمرشّح إلى تاجر وعود. رأيت البطولة مجرّد استعراض، والشعارات تُغنّى ولا تُمارَس. كلّما حاولت أن أُشير إلى الخراب، وجدت نفسي كمن يتحدّث إلى قرية الطرشان في ميدان صاخب؛ يضحكون، يلتقطون صورة، ثم يمضون.
الصفعة التي تلقيتها لم تكن إهانة، بل إيقاظًا. صفعة تُذكّرك بأن النخبة الحقيقية لا تصرخ على المنصّات، بل تعمل في الخفاء. لا تستعرض، بل تبني. وأن من لا يملك شجاعة قول الحقيقة في وقتها، لا يستحق شرف التحليل بعدها.
وليس ما أقوله اليوم جديدًا في التاريخ. ليو تولستوي، الفيلسوف والروائي الروسي، كتب وصرخ مبكرًا ضد تحالف السلطة والمال والعنف، فاتهموه بالجنون الأخلاقي ونُبذ في حياته. لم يُفهم إلا بعد الثورة البلشفية عام 1917، حين سقط النظام الذي انتقده، واكتشف العالم أن ما كُتب بالأمس كان نبوءة لا خطابة.
وكذلك إرنست همنغواي، الذي لم يكن كاتب مغامرات كما صوّره السطحيون، بل شاهد عصرٍ مكسور. كتب عن الإنسان المطحون بعد الحرب، عن الهزيمة التي تُباع في هيئة انتصار، وعن البطولة الزائفة التي تصنعها السلطة ثم تبتلع أصحابها. لم يُحتفَ بفكره إلا بعد أن احترق العالم في الحرب العالمية الثانية، حين أدركوا أن أدبه لم يكن سوداويًا، بل واقعيًا إلى حدّ الفضيحة.
التاريخ لا ينصف الصارخين في وقتهم، بل يؤجّل عدالتهم. لا يسمعهم إلا بعد الانهيار، ولا يكرّمهم إلا بعد أن تصبح كلماتهم غير خطِرة. أما حين تكون الكلمة حيّة، ومُربكة، ومهدِّدة… فمصيرها التجاهل والتشويه.
أنا كاتب من قرية، أعيش على هامش المدن وأسواق العواصم. لا أملك حزبًا ولا منبرًا ولا تمويلًا، أملك فقط الكلمة. كتبت عن الخبز، وعن الظلم، وعن أرملة تنتظر معاشًا، وعن طفل لا يجد دواء، وعن وطن يُباع بالتقسيط. كان الردّ التجاهل، ثم التشكيك، ثم الابتسامة الباردة. ومع ذلك، لم أندم.
تعلّمت من السجناء الحقيقيين، لا أولئك الذين يدّعون الاعتقال على الشاشات، كيف يُبنى العقل ليصمد، وكيف تُقاوَم الهزيمة بالصمت والشرف، لا بالشعارات. رأيت كيف يكون الإنسان بطلًا بلا موكب، ورئيسًا بلا قصر، وناجيًا بلا حقد.
لا أنتقم، لأنني أرفض أن أبقى سجين الخذلان. ولا أتسلّق، لأنني ما زلت أؤمن أن الطين أطهر من الذهب إذا التصق به ضمير. هذه ليست شكوى، بل شهادة. وليست مرثية، بل اتهام.
ومن يغضبه هذا الكلام، فليس لأنه قاسٍ…
بل لأنه صادق.
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية،،!!