التشرذم السياسي والمحاصصة الطائفية في لبنان يشكّلان كابوس دائم للمواطنين, كيف يدفع اللبنانيون الثمن وكيف النجاة؟..
مقالات
التشرذم السياسي والمحاصصة الطائفية في لبنان يشكّلان كابوس دائم للمواطنين, كيف يدفع اللبنانيون الثمن وكيف النجاة؟..
موسى عباس
19 كانون الأول 2025 , 09:56 ص

تحولت جمهورية لبنان، التي كانت توصف يومًا بـ 'سويسرا الشرق'، إلى نموذج صارخ لفشل الدولة في العصر الحديث. لغة الأرقام لا ترحم: انهيار عملة تخطى 90% من قيمتها، وتجاوزت نسبة الفقر حدود 80% من السكان، وغابت الكهرباء والخدمات الأساسية عن حياة المواطنين. لكن هذه المظاهر الكارثية، على فظاعتها، ليست سوى أعراض لمرض أعمق وأكثر فتكًا ينهش جسد الدولة: الشلل والتشرذم السياسي المتعمّد. في قلب الأزمة اللبنانية، ليس السبب نقص في الموارد أو ندرة في الكفاءات، بل بسبب الخلاف حول مفهوم الوطن والكرامة الوطنيّة ونظام المحاصصة الطائفية يضع مصالح الزعماء والمكونات الطائفية فوق مصلحة الوطن والمواطنين الأمر الذي يترتَب عليه

غياب الإرادة السياسية،والإصرار على التعطيل المؤسساتي يُشكّل العقدة التي تخنق أي محاولة إنقاذ، لتصبح الأزمة الاقتصادية والإنسانية مجرد انعكاس سلبي ومباشر للجمود السياسي المستفحل".

—نظام المحاصصة الطائفية في لبنان يشكّل الأداة للتعطيل السياسي:

إن التشرذم السياسي في لبنان ليس مجرد خلاف عابر بين أحزاب، بل هو نتيجة هيكلية لنظام سياسي مصمم على أساس المحاصصة الطائفية. هذا النظام، الذي نشأ وتجذّر بعد انتهاء الحرب الأهلية، يضمن توزيع المناصب والموارد ليس بناءً على الكفاءة أو البرنامج السياسي، بل على أساس الانتماء الطائفي والولاء للزعيم.

يبرز هذا التشرذم بأوضح صوره في عملية صناعة القرار وتعطيل المؤسسات؛ فالدولة اللبنانية تعيش حالة مزمنة من الشغور الرئاسي في غالب الأحيان ، كذلك صعوبة في تشكيل الحكومات، حيث تتحول عملية التأليف إلى عملية مقايضة تتجاوز الدستور. وحين تُشكّل الحكومة تُستخدَم صلاحياتها، أو بالأحرى صلاحيات المكونات المشاركة فيها، كأدوات "فيتو" سياسية لعرقلة أي قرار لا يخدم مصالح فئة أو طائفة معينة.

هذا الجمود لا يتوقف عند السلطة التنفيذية، بل يمتد إلى السلطة التشريعية والقضائية. ففي البرلمان، تُؤجَّل أو تُعطَّل القوانين الإصلاحية الجوهرية (مثل قانون استقلالية القضاء أو التشريعات اللازمة لتصحيح القطاع المصرفي) لأن تمريرها يهدد شبكة المصالح والفساد التي تستفيد منها الطبقة السياسية مجتمعة. حتى في قضية بالغة الأهمية مثل التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، يُستخدم النفوذ السياسي لعرقلة عمل القضاء، الأمر الذي يُرسِّخ لدى المواطن الشعور بالإفلات من العقاب ويقوّض آخر ما تبقى من ثقة في المؤسسات ،التشرذم هنا يتحول من خلاف في الرأي إلى حماية منظّمة للفشل والفساد.

إن الثمن الحقيقي للتشرذم السياسي لا يُدفع في قاعات البرلمان المغلقة، بل يُدفع من مدخرات المواطنين ومن جودة حياتهم المتدهورة. فعندما تتعطل الإرادة السياسية، تتحول الأزمات إلى كوارث لا يمكن السيطرة عليها.

1. الانهيار المالي والاقتصادي:

كانت الأزمة المالية تحتاج إلى قرارات حاسمة وفورية: إعادة هيكلة القطاع المصرفي، إقرار قانون "الكابيتال كونترول" لحماية ما تبقى من ودائع، والتفاوض الجدي مع صندوق النقد الدولي بناءً على خطة إنقاذ واضحة. إلا أن الطبقة السياسية، الممثلة لمصالح المصارف والنافذين، رفضت أو عطلت كل هذه الخطوات. النتيجة المباشرة لهذا التعطيل كانت خسارة المدخرات وانهيار قيمة الليرة، حيث تحوّل المواطن بسبب غياب القرار السياسي إلى الضحية الوحيدة التي تحمّلت عبء الخسارة المالية.

2. تدهور الخدمات والبنية التحتية:

إن انقطاع التيار الكهربائي المزمن ليس قدرًا جغرافيًا، بل هو نتاج لسنوات من الفساد في قطاع الطاقة، والذي لم يُحاسَب أو يُصلَح بسبب الحماية السياسية للمسؤولين عنه ،هذا النمط يتكرر في قطاعات المياه، والاتصالات، وجمع النفايات. فبسبب التجاذبات والمحاصصة في التعيينات الإدارية والبحث عن المكاسب أصبحت مؤسسات الدولة غير قادرة على تقديم أبسط الخدمات، مما يضطر المواطنين إلى دفع كلفة مضاعفة للخدمات الخاصّة (مولّدات الكهرباء، صهاريج المياه) ليُصبحوا رهائن للمنظومات البديلة التي تديرها مصالح سياسية.

3-هجرة الكفاءات وغياب المستقبل:

لعل أخطر انعكاسات التشرذم هو التدهور في القطاعين التعليمي والصحي، وهروب الكفاءات. فالأطباء والمهندسون والمثقفون يغادرون البلاد ليس فقط بحثًا عن دخل أفضل، بل هربًا من انعدام اليقين السياسي الذي يجعل التخطيط للمستقبل مستحيلاً. هذا النزيف البشري يُفرغ لبنان من أهم موارده، ويُضعف قدرته على التعافي حتى لو توافرت الأموال، لأن "الدماغ اللبناني" قد اختار وجهة أخرى أكثر استقرارًا.

4–الحالة الأمنية.. وتفاقم الأزمة بفعل التوترات الناجمة عن استمرار الخرق الصهيوني للقرار 1701:

بينما يغرق لبنان في مستنقع تشرذمه السياسي الداخلي، تزداد الأوضاع سوءاً بفعل التهديدات الأمنية التي تضاعف من هشاشة الدولة. ولا يمكن فصل التدهور الأمني في الجنوب، والمتمثل في رفض الكيان الصهيوني للالتزام الكامل بالقرار 1701 وما يترتب عليه من خروقات متواصلة وتصعيد، عن الأزمة الداخلية.

هذا التوتر الأمني له أبعاد ثلاثة تخدم في النهاية أجندة التشرذم السياسي:

أوّلاً:—عرقلة التركيز على الإصلاح:

كل تصعيد أمني أو حالة تأهب حدودية تحوّل الأنظار والجهود السياسية بشكل فوري عن الملفات الاقتصادية الحيوية. ويتم استخدام الحالة الأمنية لتبرير مزيد من الجمود في الإصلاحات المطلوبة .

ثانياً:—تعميق الاستقطاب الداخلي: إن مسألة المقاومة والسلاح هي أكثر القضايا إثارة للانقسام بين القوى السياسية اللبنانية ،وعندما تتدهور الأوضاع في الجنوب، يتسع الخلاف الداخلي حول استراتيجية الدفاع الوطني أو ما يُسمى عند البعض استراتيجية الأمن الوطني ، ما يزيد من الشروخ الطائفية والسياسية ويُصعِّب أي توافق وطني على باقي ملفات الدولة.

ثالثاً:—طرد الاستثمار وإجهاض التعافي: لا يمكن لأي مستثمر أجنبي أو دعم دولي جدي أن يتدفق على بلد يعيش حالة حرب محتملة على حدودها الجنوبية ورُبّما الشرقية والشمالية فالتهديد الأمني يفرض حالة من اليقين باللايقين، مما يقطع الطريق على أي فرصة للتعافي الاقتصادي ويجعل من لبنان ساحة غير جاذبة للاستقرار ولا للإستثمار .

بذلك، فإن الخرق الخارجي للقرار 1701 لا يهدد الحدود فحسب، بل يطعن في صميم جهود الدولة لاستعادة عافيتها السياسية والاقتصادية.

—بين التحدي الوجودي وضرورة التوافق لكسر حالة الجمود.

مما لا شك فيه، يقف لبنان اليوم أمام تحدٍّ وجودي، ليس بسبب قدر جغرافي محتوم، بل بسبب إرادة سياسية متشرذمة ومصالح متناحرة أوّلاً . لقد أثبت التحليل أن الانهيار الاقتصادي، وتدهور الخدمات، ونزيف الهجرة، وحتى تفاقم الهشاشة الأمنية على الحدو بفعل التوترات الإقليمية والالتفاف على القرارات الدولية مثل القرار 1701، كلها نتائج مباشرة لـ حالة الشلل السياسي الدائمة.

لا يمكن أن يبدأ أي حل جذري قبل أن تكسر الطبقة الحاكمة حلقة التعطيل. إن استعادة الثقة الدولية ودعم المجتمع المالي مرهونة بإجراءات لا يمكن تنفيذها إلا عبر حكومة مستقرة تعمل لمصلحة الوطن أوّلاً ولا تخضع للضغوطات والإملاءات الخارجيّة ، وقضاء مستقل ومجلس نيابي فعّال لا تشلّه لا المصالح الطائفية ولا المطامع والطموحات الشخصيّة .

تبقى المسؤولية اليوم على عاتق اللبنانيين الرافضين لهذا الواقع للدّفع باتجاه تغيير جذري يضع مصلحة الدولة والمواطن فوق مصالح الطائفة والزعيم. فالمستقبل في لبنان لم يعد يتعلق بتوزيع الحصص، بل بالقدرة على العيش بكرامة وأمان ،والقرار الوحيد الذي لم يعد يتحمّل التأجيل هو قرار التوافق الوطني الصادق حول مفهوم الوطن للعبور بالبلاد من أتون التشرذم إلى برّ الدولة العاملة القادرة والعادلة .

موسى عبّاس