من آثار الانغماس في التَّطوُّرات اليوميّة والانشغال بالسّرديّة التي يعمّمها الإعلام التّابع للوصاية الخارجيّة أنّ المتابع للشّأن السّياسيّ يصبح غافلاً عمّا تفعله الدّولة بنفسها. ما لا يُحكى أو لا يُصاغ بصدق وإنصاف في الخطاب السّياسيّ اللّبنانيّ، الرّسميّ وغيره، هو أنّ نظريّة "عودوا إلى حضن الدّولة" سقطت بسرعة مدهشة، ولم يعد أحد يؤمن بها لما ظهر من وهنها وفشلها. كيف لا وقد رفع نوّاف سلام السّقف بقوله في البيان الوزاريّ: "الدّولة التي نريد هي التي تلتزم بالكامل مسؤوليّة أمن البلاد، والدّفاع عن حدودها وثغورها، دولة تردع المُعتدي، تحمي مواطنيها وتُحصّن الاستقلال وتعبئ الأُسرة العربيّة وعموم الدّول لحماية لبنان"..
وقال أيضاً: "تلتزم الحكومة، وفقاً لوثيقة الوفاق الوطنيّ المُقرّة في الطّائف، بإتّخاذ الإجراءات اللّازمة كافّة لتحرير جميع الأراضي اللّبنانيّة من الاحتلال الإسرائيليّ وبسط سيادة الدّولة على جميع أراضيها، بقواها الذّاتيّة حصراً، ونشر الجيش في مناطق الحدود اللّبنانيّة المُعترف بها دوليًّا. وتؤكّد حقّ لبنان في الدّفاع عن النّفس في حال حصول أيّ اعتداء، وذلك وفق ميثاق الأُمم المتّحدة". هي مصطلحات صفّها وحقوق أكّد عليها ومسؤوليّات تعهّد بها، ولم يحقّق منها شيئاً. حاله حال رئيس الجمهوريّة في خطاب القسم، والكلام هو الكلام. ولم يبقَ في جعبة "الدّولة" إلّا إلقاء اللّوم على المقاومة، كما جرت العادة..
ربّما لا يفهم بعضهم الفرق بين الدّولة والمقاومة. الفرق بين الدّولة والمقاومة كالفرق بين النَّصِّ والهامش الذي في أدنى الصّفحة. كلّما كان الكلام في النَّصِّ مختصَراً أو مفتقِراً للشّرح والتّوضيح، اتّسع الهامش واعتلى الخطّ الفاصل بين النَّصِّ وبينه. فمن المحتمل بطبيعة الحال أن يسيطر الهامش على كامل الصّفحة. ومن ذا الذي يعتب عليه لو حصل ذلك؟! فالعقل يبغض الفراغ، ولا يخفى أنّه لو جاز ترك الصّفحة على بياضها لضاع الغرض من الكتاب وكان هدراً للورق! غاية الأمر أنّ الهامش قد وُجد أصلاً لإكمال وظيفة النَّصِّ وتأدية ما أخلّ به من المعنى المُراد إيصاله.ومنه تعرف بطلان الاحتجاج بأنّ ما لدى المقاومة وبيئتها من سلاح ومؤسّسات هو سبب فشل الدّولة سواء في الماضي أو في الحاضر، أو أنّه يزيد العجز والفساد في البلد لأنّه يزاحم الدّولة في بسط سيادتها، فإنّ ما غطّته المقاومة وبيئتها من "مساحة الصّفحة" إنّما كان فراغاً كما عرفتَ، وانبثاق ما أسموه بهتاناً بـ "الدّويلة" من رحم الفراغ ليس عيباً، بل هو عمل بأحكام العقل..
لكنّ البعض في هذا البلد لا يجيد لغة العقل، ولهذا يترك اتّفاق وقف إطلاق النّار لصالح ورقة جاء بها الدّاعم الأوّل للعدوّ الاسرائيليّ في العالم، غير آبه بما يترتّب على ذلك من العبث بترتيب بنود الاتّفاق، كأنّ الانجازات الميدانيّة التي أوجبته - أي التّرتيب - كانت من صنع يديه. ولهذا يتنازل، إلى يومنا هذا، من دون مقابل. ولو كانوا يجيدون لغة العقل لهبّوا لمعالجة العلّة قبل الأثر، إنْ من خلال مواجهة العدوّ الاسرائيليّ أو تسليح الجيش اللّبنانيّ بما يمكّنه من أداء وظائفه بدلاً من تزويده بما يساعد على تنفيذ المهامّ التي يطالب بها العدوّ الاسرائيليّ والتي "تقتضيها توازنات القوى" في المنطقة والعالم.
ولعلّ التّفاهة كلّها في هذه الكلمة، أي في تعريف السّيادة بأنّه الاستسلام لمقتضيات الضّغط الدّوليّ والإقليميّ. نعيش في بلد يتحدّث باسمه أُناس بهذا المستوى من الفجور واللّامنطق. يقولون - مثلاً - في إطار التّأكيد على "السّيادة اللّبنانيّة" بأنّه على الحزب أن يحدّد إذا ما كان لبنانيًّا أو إيرانيًّا. بينما اليوم، مهما كرّر الإعلام هذه المغالطات، تؤكّد أجواء السّياسة اللّبنانيّة (فشل الدّولة في حماية لبنان، انبطاحها أمام الإملاءات الأمريكيّة والإسرائيليّة، إلخ..) أنّ الثّنائيّة ليست كذلك في الواقع؛ وأنّ هذه المصادرات ليست سوى محاولة لصرف الأذهان عمّا بات قطعيًّا من أنّ الجميع مخيَّر بين كونه لبنانيّا أو إسرائيليّا، ولا علاقة لإيران بالموضوع لا من قريب ولا من بعيد..
فالسّيادة الحقيقيّة لا يتوقّف تحقيقها وحفظها على إذن أطراف خارجيّة تمنع علناً من تسليح الجيش وتهيمن علناً على أهمّ مراكز الدّولة ومؤسّساتها. إنّما تتحقّق بالاستقلال وردع العدوّ قدر المستطاع. وكلّ حديث عن الوحدة الوطنيّة أو خطاب حول السّيادة وبناء الدّولة دون هذه البديهيّات يستلزم القبول بجعل لبنان محميّة تسلّم أمنها ومصيرها إلى أطرف تهدّد أهدافها الكيان اللّبنانيّ؛ وهو عين "الاستسلام" في نظر كلّ بلدان العالم وفي عُرف الحضارات على مرّ التّاريخ. السّيادة من دون قدرة وهم، ولَنِعْمَ ما قاله الجواهريّ:
سل الحوادثَ والتَّاريخَ هل عرفا
حقًّا ورأياً بغير القوّة احتُرما؟
لا تطلبي من يد الجبَّارِ مرحمةً
ضعي على هامةٍ جبَّارةٍ قدما..
ومن حقّ هواة الأوهام أن يقنعوا أنفسهم بها، نعم يُستقبح إقناع الأهل والأبناء بها، فكيف بجعلها سياسة عامّة تحدّد مصير شعب بأُمّه وأبيه؟! وأمامكم حزب بل أحزاب تدّعي تمثيل الشّعب اللّبنانيّ وعمق الضّمير الوطنيّ وتتبنّى أجندة "لبنان القويّ" على مثل تلك الأُسُس الواهية: أنّ الاستسلام يجلب القوّة، أنّ وضع القرار الوطنيّ في يد الطّرف الخارجيّ يحقّق الاستقلال، وأنّه يجب التّنازل بدون ضمانات، وأنّ الاقتتال الدّاخليّ أولى من الوحدة الوطنيّة في مواجهة العدوّ المعلن، إلخ..
"لبنان القويّ" ليس قويًّا بالفعل؛ هو طفل آمل بدلال من لا يرحم، محتاج ومفتقر في كلّ كبيرة وصغيرة؛ في السّياسة الدّاخليّة والخارجيّة، وقرار الحرب والسّلم، والتّكوين الدّيمغرافيّ، والحدود الجغرافيّة، والهويّة الثّقافيّة. وكلّ ذلك مشروط بالمصالح الاسرائيليّة، لأنّ مصلحته من مصلحة "الضّامن" الأمريكيّ، ومن ثَمّ فليذهب ما يُلغى من لبنان إلى الجحيم. وليكن ما يبقى منه، إن بقي منه شيء يُذكر، عبارة عن ولاية إضافيّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة. هكذا يصبح "قويّا"..
ما أثبتته التّجارب التّاريخيّة التي أوجبت تصدّي الغيارى في السّابق وما تؤكّده التّجربة الحاليّة في ظلّ الاستسلام التّامّ للدّولة أمام الغطرسة الاسرائيليّة هو ما يعرفه أبناء الجنوب منذ الولادة ويدركه الرّاغبون بالسّيادة الحقيقيّة بعد رسوب الدّولة المتكرّر وانكشاف قصورها وتقصيرها: أنّه ليس في هذا البلد ما يبعث على الافتخار إلّا المقاومة، ببصيرة قيادتها وشجاعة مجاهديها وصدق شهدائها وصبر جرحاها وإيمان مجتمعها. وبدونها تبقى الصّفحة على فراغها، ويبقى لبنان برسمه النّحيل ووهمه الهزيل.