” في هندسة الوعي حين يتقن الزيف طقوس القداسة "
في المنعطفات الحاسمة من تاريخ الأمم، لايقاس الرجال بما يرفعونه من شعارات، بل بما يسقط عنهم ساعة الامتحان. فحين تختلط الأصوات، وتربك المعاير، يصبح التميز بين الصادق والمتلون ضرورة أخلاقية، لا ترفا فكريا. هناك، حيث تستباح الحقيقة باسم الحكمة، ويعاد تعريف الخضوع بوصفه اتزانا، يولد أخطر أنواع الضلال: ضلال يرتدي ثوب الفضيلة. ياأيها المناضلون المقاومون الساعون المطالبون بالاستقلال لوطنكم، إن الطريق إلى الحرية لاتعترضه فقط فوهات العدوان، بل تعرقله أيضا أقنعة النفاق، أولئك الذين يتقنون لغة التدين الشكلي، ويفرغون القيم من محتواها العملي. تراهم يكثرون من الإشارات الرمزية، بينما تدار البوصلة سرا نحو موائد الهيمنة. هنا، يتحول المال من وسيلة إعمار إلى أداة إخضاع، وتغدوا الثروات المتدفقة نحو مراكز القرار العالمية بمثابة صكوك صمت، تشترى بها الذمم، وتطمس بها الجرائم. بل وتؤازر المجرم على إجرامه.
في هذا السياق، لايكون تشويه المقاومة فعلا عفويا، بل ممارسة منهجية. تدار بعقل إستراتيجي يرى في الكرامة خطرا، وفي الوعي تهديدا. يعاد انتاج الخطاب حتى تصبح الضحية موضع اتهام، ويمنح الجلاد صك الاعتدال. إنها سيميولوجيا مقلوبة، حيث يستبدل الدلالات، ويعاد ترميز الخيانة باعتبارها واقعية سياسية. أما حين يترك المظلوم تحت الركام، ويكتفي بالبيانات الباردة، فذلك ليس حيادا، بل موقف محسوب. وقد قال الحق سبحانه: ( واذا قيل لهم لاتفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون).
آية تكشف جوهر الإدعاء حين ينفصل القول عن الفعل، وتفضح التدين الذي يستعمل ستارا لا ميثاقا.
الفلسفة السياسية تصف هذا المشهد بانفصام القيم، حيث تدار الأخلاق بمنطق السوق، وتقاس المواقف بحجم العائد، لا بوزن العدالة. عندها، يصبح الصمت شريكا، والسكوت توقيعا غير مرئي على جريمة مؤجلة.
يا أيها المقاومون الساعون إلى كسر قيود الغاصب، إلى الإنفكاك، إلى الاستقلال، إلى التحرر، إلى تطهير تراب وطنكم المقدس من دنس أقدام المحتل، اجتنبوا المتلونون، أصحاب الأقنعة،اجتنبوا من وصفهم الحق بالأشد كفرا ونفاقا، لهم الدرك الأسفل، واعلموا أن ليست كل عمامة دليل هدى وورع، وهل اتاكم حديث الترفيه و حديث جنيفر لوبيز العارية؟! وليس كل خطاب دليل نقاء. إن بعض الأعراب إثم، لا بأسمائهم، بل بمواقفهم، لا بأصولهم، بل باختياراتهم. والتاريخ وإن صبر، لاينسى. فمن اختار الوقوف خارج العدالة، سيجد نفسه واقفا يوما خارج المعنى.
مفكر وكاتب حر، وإعلامي سابق في الغربة.