الإعلام العربي وجرح اللغة: حين تُستبدل الشهادة بالمقتل لتغييب عدالة القضية – الشهيد أبو عبيدة أنموذجًا
مقالات
الإعلام العربي وجرح اللغة: حين تُستبدل الشهادة بالمقتل لتغييب عدالة القضية – الشهيد أبو عبيدة أنموذجًا
د. هناء سعادة
30 كانون الأول 2025 , 04:40 ص


بقلم: د. هناء سعادة

الجزائر – في لحظة تاريخية تُكتب فيها ذاكرة المقاومة الفلسطينية بالفعل المقاوم، وبالدم، وبالكلمة، وبالحضور في الميدان للرجال الذين حملوا القضية حتى آخر رمق، ينزلق بعض الإعلام العربي إلى أخطر أشكال التواطؤ الناعم: تواطؤ اللغة. فحين تُختزل سيرة المقاوم، وتضحياته، وسجله التاريخي المشرف، في كلمة باردة مثل "مقتل"، لا نكون أمام خطأ مهني عابر، بل أمام انحراف خطابي عميق يفرغ المقاومة من معناها، ويُفرّغ الشهادة من بعدها الديني والأخلاقي، ويعيد صياغة الصراع وفق قاموس محايد زائف يخدم – عن قصد أو عن جهل – سردية نزع الشرعية عن القضية العادلة.

إن الفارق بين "مقتل" و"استشهاد" ليس فارقًا لغويًا تقنيًا، بل فارق في الرؤية، وفي التموضع، وفي الانحياز.

كلمة "مقتل" توصيف جسدي محض، محايد ظاهريًا، يُساوي بين الضحية والجلاد، ويُسقط السياق، ويُجمّد الفعل المقاوم في لحظة موت بيولوجي. أما "الاستشهاد"، فهو مفهوم مركزي في الوعي الإسلامي والوطني، يُحمّل الفعل المقاوم معناه الكامل: نية، وقضية، وعدالة، وتضحية واعية في مواجهة احتلال قائم على القتل والاقتلاع.

وحين تستخدم بعض القنوات والمواقع العربية مصطلح "مقتل أبو عبيدة"، فهي لا تُسيء إلى رجل بعينه، بل تعتدي على المعنى الذي مثّله. لم يكن أبو عبيدة جسدًا سقط في غارة، بل كان ذاكرة صوتية للميدان، وعقلًا إعلاميًا للمقاومة، ومعيارًا أخلاقيًا للخطاب في زمن الانفلات. اختزاله في "مقتل" هو محو متعمّد لكل ما راكمه من أثر نفسي ومعنوي واستراتيجي في الوعي الفلسطيني والعربي والاسلامي، وحتى في وعي العدو الصهيوني نفسه.

الأخطر من ذلك أن هذا الانزلاق اللغوي لا يحدث في فراغ، بل يتقاطع مع منظومة مفاهيم وافدة، تُعيد تعريف الصراع خارج سياقه الديني والتاريخي، وتُفرغه من عدالته، وتحصره في خانة "العنف المتبادل" أو "الخسائر البشرية". وهنا تتحول اللغة إلى أداة تطبيع معرفي، لا تقل خطورة عن التطبيع السياسي، لأنها تُعيد برمجة وعي الجمهور العربي، وتُضعف ارتباطه الأخلاقي والديني بالقضية الفلسطينية.

إن الاستشهاد، في جوهره، ليس توصيفًا عاطفيًا، بل إطارًا قيميًا يضع الفعل المقاوم في مكانه الطبيعي: فعل دفاع عن الأرض، والكرامة، والحق، في مواجهة كيان استيطاني إحلالي. نزع هذا الإطار، عبر استخدام "مقتل"، هو نزع لشرعية المقاومة، وتفريغ لتضحياتها من معناها، وتحويل القادة والرموز إلى مجرد "ضحايا صراع"، لا حملة قضية.

وما تقوم به بعض المنابر العربية في هذا السياق لا يمكن فصله عن أزمة أعمق: أزمة وعي مهني، وأزمة تموضع أخلاقي، وأزمة علاقة بالقضية الفلسطينية ذاتها. فالإعلام الذي يعجز عن تسمية الاستشهاد باسمه، هو إعلام فقد بوصلته، أو تخلّى عنها، أو ارتضى أن يكون أسير خطاب دولي يخشى الاعتراف بشرعية المقاومة، ويتوجّس من مفرداتها.

أبو عبيدة، كما إسماعيل هنية، ويحيى السنوار، وغيرهم من رموز المقاومة، لم يُقتلوا بمعناها اللغوي البارد، بل ارتقوا شهداء في سياق مواجهة تاريخية غير متكافئة، ودفعوا ثمنًا واعيًا لقضية يعرفون عدالتها. وأي لغة لا تعكس هذه الحقيقة، إنما تشارك – ولو لغويًا – في اغتيال المعنى، بعد محاولة اغتيال الجسد.

من هنا، تصبح معركة المصطلح جزءًا لا يتجزأ من معركة الوعي. فالكلمة ليست أداة نقل، بل موقف. إما أن تكون مع المقاومة وعدالتها، أو أن تنزلق – تحت غطاء الحياد – إلى خدمة رواية تُفرغ الشهادة من قدسيتها، وتُحوّل الأبطال إلى أخبار عابرة.

وهذه مسؤولية لا يمكن للإعلام العربي التملص منها، فهي تمس جوهر العدالة الرمزية للمقاومين ومعنى الاستشهاد.