في باريس عام 1925، وقف نصّابٌ نمساويٌّ يُدعى فيكتور لوستيغ أمام حفنةٍ من تجّار الخردة، وباعهم برج إيفل. لم يكن يملك صكَّ ملكيّةٍ ولا تفويضاً حكوميّاً ولا حتّى بطاقة هويّة. كان يملك فقط بذلةً أنيقةً ولساناً معسولاً وفهماً عميقاً لطبيعة الجشع البشري. أقنعهم أنّ الحكومة الفرنسيّة قرّرت هدم البرج سرّاً وبيعه كحديدٍ خردة. صدّقوا. دفعوا. واختفى. ثمّ عاد وباعه مرّةً أخرى. عبقريّته فاقت الكذب: أدرك أنّ الضحيّة يُخدع لأنّه يشتهي أن يُخدع. الطمع يُعمي، والوهم يُريح، والحقيقة ثقيلةٌ على النفوس الرخوة.
وقبل ذلك بعقدين، في برلين عام 1906، خاط إسكافيٌّ معدمٌ اسمه فيلهلم فويغت مصيره من رُقع عسكريّةٍ بالية. اشترى أجزاء بزّةٍ ضابطيّةٍ من حوانيت الخردة، ولمّ شتاتها، وارتداها، ثمّ خرج إلى الشارع. خرج إلهاً لا رجلاً. انحنى له الجنود. أطاعه الموظّفون. اعتقل العمدة وصادر خزينة البلديّة وأصدر أوامره كأنّه القيصر ذاته. لم يسأله أحدٌ: من أنت؟ كان السؤال ترفاً لا تحتمله إمبراطوريّةٌ بُنيت على قدسيّة الزيّ الرسمي. حين يُصبح الرمز أهمّ من الجوهر، يُصبح كلّ محتالٍ ملكاً، وكلّ ملكٍ محتالاً.
واليوم، في لبنان، تتكرّر المهزلة بنكهةٍ شرقيّةٍ أشدّ مرارةً وأدعى للقيء. رجلٌ بلا وجهٍ ولا اسمٍ حقيقيٍّ ولا سندٍ ولا صكّ، مجرّد صوتٍ يتسلّل عبر الأثير، استطاع أن يقتاد قطيعاً كاملاً من ساسة لبنان إلى مراعي الوهم. وزّع عليهم الوعود كما تُوزَّع الصدقات على الشحّاذين: أنت ستصير رئيساً، وأنت وزيراً، وأنت ستنال رضا الديوان الملكي. فتحوا محافظهم قبل أن يفتحوا عقولهم. دفعوا مئات الآلاف من الدولارات. قدّموا سيّاراتٍ فارهةً هدايا للشبح. رسموا خرائط تحالفاتهم على أساس همسةٍ في سمّاعة هاتف. هؤلاء ذاتهم الذين يتشدّقون من على المنابر بالسيادة والاستقلال والكرامة الوطنيّة، كانوا يتدافعون للسجود أمام وهمٍ لا جسد له، راجين منه مفاتيح جنّةٍ سياسيّةٍ لا وجود لها.
لكنّ الفضيحة الحقيقيّة ليست في أنّ "أبو عمر" نجح. الفضيحة أنّه لم يحتج إلى ذكاءٍ خارقٍ لينجح. كان يكفيه أن يُتقن لهجةً خليجيّة وأن يتقمّص نبرة الواثق من نفوذه. في بلدٍ تتهاوى فيه الأقنعة كجدرانه المتصدّعة، كان يكفيه أن يفهم قاعدةً واحدةً جوهريّة: الطبقة السياسيّة اللبنانيّة لا تؤمن بلبنان. لا تؤمن أنّ هذا البلد قادرٌ على إنتاج قراره بنفسه. تؤمن أنّ القرار الحقيقيّ يُصنع في عاصمةٍ أخرى، وأنّ من يُمسك طرف الخيط هناك يُمسك برقاب الجميع هنا. لذلك لم يكن "أبو عمر" محتالاً بالمعنى الجنائيّ الضيّق، بل كان مرآةً صقيلةً أرى فيها الساسة وجوههم الحقيقيّة. أراهم ما يشتهون، فهرولوا نحو سرابهم كعطاشى في صحراء.
ولنطرح هذا السؤال الذي يتجنّبه الجميع كما يتجنّب المجذوم: إذا كان صوتٌ مجهولٌ على الهاتف قادراً على بيع الأوهام لمن يحكمون البلاد، فمن الذي يبيع الأوهام لنا نحن الشعب المسكين؟ ألسنا نحن أيضاً ضحايا عمليّة نصبٍ أكبر وأطول وأعمق اسمها "الجمهوريّة اللبنانيّة"؟ ألم تُؤسَّس هذه الدولة على أكذوبةٍ مقدّسةٍ اسمها "العيش المشترك"، بينما كلّ طائفةٍ تتربّص بالأخرى تربُّص الذئاب، تتحيّن لحظة ضعفها لتنهش لحمها؟ ألم ترتفع الزغاريد في بيوتٍ لبنانيّةٍ حين كانت الطائرات تُحيل الضاحية الجنوبيّة ركاماً؟ ألم يُطلّ علينا إعلاميٌّ متخمٌ بالحقد ليُعلن على الهواء أنّه سيُحضر "البابكورن وكأس الويسكي" ليتفرّج على إبادة طائفةٍ كما يتفرّج على فيلمٍ هوليووديّ؟ أيّ وطنٍ هذا الذي يتمنّى نصف أبنائه محو النصف الآخر؟ وأيّ مواطنةٍ هذه التي يرقص فيها فريقٌ على جثث الفريق الآخر؟
الحقيقة العارية الفاجرة أنّ "أبو عمر" لم يخدع أحداً. الدولة اللبنانيّة ذاتها هي الخدعة الكبرى الأمّ. منذ عقودٍ ونحن نرزح تحت وهم سلطةٍ بلا سلطان، ودستورٍ معلّقٍ على مشجب النسيان، ومؤسّساتٍ منخورةٍ كأضراسٍ متعفّنة، وجيشٍ لا يملك السلاح، وقضاءٍ مكسور الظهر لا يحتكر العدالة، ومصرفٍ مركزيٍّ سرق أموال الناس ولا يحتكر حتّى الكذب. نعيش في جمهوريّةٍ كلّ زعيمٍ طائفيٍّ فيها رئيسٌ في حاراته، وكلّ فريقٍ يحتكم إلى سفارةٍ أجنبيّةٍ أو عاصمةٍ بعيدة. لبنان ليس دولةً فاشلة، لأنّ الدولة الفاشلة تفترض أنّها وُجدت أصلاً ثمّ فشلت. لبنان دولةٌ وهميّة، سرابٌ اصطلح الناس على تسميته وطناً. ما نسمّيه دولةً ليس إلا هدنةً هشّةً بين عصاباتٍ خلعت بزّاتها العسكريّة وارتدت بدلاتٍ وربطات عنق وابتسامات مُقرفة.
في ألمانيا، صار كابتن كوبنيك بطلاً شعبيّاً لأنّه عرّى نظاماً يتبجّح بالصرامة. ضحك القيصر وعفا عنه، لأنّ الاعتراف بالفضيحة كان أشرف من التستّر عليها. أمّا في لبنان، فلن يصير "أبو عمر" بطلاً، ولن تُعترف بالفضيحة، ولن تسقط الأقنعة. سيُلقى في زنزانةٍ بتهمة النصب، وسيُطوى الملفّ بهدوء المقابر، وسيعود الساسة أنفسهم إلى الشاشات يخطبون فينا عن الوطنيّة والكرامة والعنفوان، وكأنّ شيئاً لم يكن. لأنّ الاعتراف بأنّهم انخدعوا يعني الاعتراف بأنّهم كانوا يتوسّلون الانخداع، يتسوّلون الأوهام على أبواب الخارج. والاعتراف بهذا يعني أنّ كلّ خطاباتهم عن رفض الوصاية والتبعيّة كانت مسرحيّةً بائسةً لا يُصدّقها حتّى كاتبها.
لوستيغ باع برج إيفل لمن أعمى الطمع بصيرتهم. فويغت باع الطاعة العمياء لمن أدمنوا السجود للرموز. و"أبو عمر" باع ما هو أرخص وأحطّ: باع للسياسيين اللبنانيين وهم أنّهم يُساوون شيئاً، وأنّ أحداً في هذا الكون الفسيح يكترث لطموحاتهم التافهة وأحلامهم الصغيرة. صدّقوه لأنّهم يقتاتون على الوهم كالدود على الجيف. يعيشون في بلدٍ ينهشه أبناؤه، يتناحرون على فتات مائدةٍ نُهبت حتّى آخر حبّة أرز. يتقاتلون على وزاراتٍ مُفلسةٍ ومقاعد نيابيّةٍ في برلمانٍ عاجزٍ عن انتخاب رئيسٍ وعن إقرار قانونٍ وعن حماية حدود. ويتسابقون على استرضاء الخارج، أيّ خارج، ولو كان صدًى في فراغ.
وهنا، في هذا المستنقع العفن، تتجلّى الطائفيّة في أقذر صورها. ليست الطائفيّة انتماءً دينيّاً أو تراثاً ثقافيّاً كما يُحبّ المنافقون أن يُصوّروها. الطائفيّة منظومةٌ متكاملةٌ لتصنيع العجز الوطنيّ وتصدير الخوف وتعليب الكراهية. كلّ طائفةٍ تبحث عن راعٍ خارجيٍّ يحميها من شقيقتها، فيُمسي الجميع عبيداً للخارج. كلّ زعيمٍ طائفيٍّ يستمدّ سلطته من تخويف رعيّته من الآخرين، فيصير الذعر هو الوقود الوحيد الذي يُبقي هذه الماكينة الجهنّميّة تدور. وحين يتحوّل المواطن إلى قطيعٍ طائفيٍّ مذعور، يسهل بيعه وشراؤه ومقايضته، ويسهل أن يُزغرد على قصف جاره، ويسهل أن يُخرج البابكورن ليتفرّج على ذبح أبناء وطنه.
أمّا نحن، جمهور هذه المجزرة المستمرّة، فماذا نفعل؟ نتقاذف الحقد على الشاشات ونُسمّيه رأياً سياسيّاً محترماً. ننتظر بشوقٍ مرضيٍّ أن تنتصر طائفتنا على الطوائف الأخرى، عميان عن حقيقةٍ ساطعةٍ كالشمس: أنّنا جميعاً خاسرون مهزومون في لعبةٍ صُمّمت كي لا يربح فيها إلا أسيادها. الطائفيّة لم تُنشئ وطناً، بل أنشأت حظائر متجاورة، كلّ حظيرةٍ تتمنّى حرق الأخرى، وترقص على رمادها.
في الختام، يبقى السؤال معلّقاً كمشنقةٍ فوق أعناقنا جميعاً: إذا كان "أبو عمر" مجرماً لأنّه باع الأوهام، فما الوصف الذي يليق بمن يحكموننا منذ نصف قرن؟ هم أيضاً يبيعوننا الوهم كلّ يوم، يُقنعوننا أنّهم حماتنا وهم جلّادونا، يسرقوننا باليمنى ويربّتون على أكتافنا باليسرى. وإذا كانت هذه دولةً حقيقيّةً ذات سيادة، فكيف يكفي صوتٌ شبحيٌّ على الهاتف ليُحرّك نوّابها ويُبدّل وزراءها ويُعيد رسم خرائطها؟ وإذا كانت السلطة تحكم بقوّة القانون، فلماذا يحكمنا أمراء الحرب بقوّة الطائفة والرعب؟
الجواب أبسط من أن نحتمله وأقسى من أن نعترف به: لبنان ليس ضحيّة "أبو عمر". لبنان هو "أبو عمر" مُكبَّراً ومُعمَّماً ومُقدَّساً. دولةٌ وهميّةٌ تحكم بسلطة الخرافة شعباً أدمن الأوهام حتّى صار يخاف من الصحو. نحن جميعاً، مواطنين وزعماء وطوائف، بائعون ومشترون في سوق الأكاذيب الكبرى. الفرق الوحيد أنّ محتالاً صغيراً انكشف أمره قد يُحاسب. أمّا المحتالون الكبار، أولئك الذين باعونا الوطن ألف مرّة، فما زالوا يتقاضون رواتبهم من خزينةٍ أفرغوها، ويُلقون خطبهم من منابرَ شيّدوها على عظامنا، ويبيعوننا كلّ صباحٍ وطناً جديداً لا وجود له إلا في كوابيسنا.
فصفّقوا للعرض أيّها المساكين، صفّقوا بأيدٍ مبتورة. أخرجوا البابكورن واملؤوا كؤوسكم حتّى الثمالة. الفصل القادم من المسرحيّة اللبنانيّة على وشك أن يبدأ، والدماء فيه ستكون حقيقيّةً كدمائكم، والأشلاء ستتطاير كأحلامكم، والزغاريد سترتفع كالعادة. أمّا الدولة، تلك الدولة التي تبحثون عنها، فلم تُولد بعد. وربّما لن تُولد أبداً