بكل المعايير العادية والاستثنائية، وبغض النظر عن الأوضاع الخاصة والظروف الخطيرة التي تمر بها المنطقة، في ظل التطورات الأمنية المتلاحقة، والمخاوف المتزايدة من قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، فإن اجتماع قادة أركان جيش العدو السابقين جميعاً، بدعوةٍ من رئيس أركانه الحالي أفيف كوخافي، اجتماعٌ غريبٌ نادرٌ غير مسبوقٍ، مقلقٌ مخيفٌ غير مأمونٍ، إذ لم يحدث مثله حتى في ظل حكومات الطوارئ، وأثناء الحروب الكبرى التي خاضها جيشهم، فلا سبب يدعو إلى مثل هذا الاجتماع بالزي العسكري الكامل، وبالجاهزية القتالية العالية، إلا أن يكون هناك خطرٌ وجودي على الكيان، وتهديدٌ حقيقي لأمنه، وتحذيراتٌ مؤكدةٌ باستهداف مصالحه ومراكزه.
تداعى إلى اللقاء الذي دعا إليه رئيس أركان جيش العدو أفيف كوخافي، يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر تشرين ثاني الجاري، في نفس اليوم الذي قتل فيه العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده، بصفته السابقة كرئيس أركانٍ للجيش، وليس بصفته الحالية ولو كان وزيراً أو رئيساً لحزبٍ، كلٌ من أيهود باراك، وبيني غانتس، وموشيه يعالون، وجابي أشكنازي، وشاؤول موفاز، ودان حالوتس، وجادي آيزنكوت، الذين لبوا الدعوة وحضروا إلى مكتب كوخافي في مبنى الكرياه في وزارة حرب الكيان، لتلقي آخر التقارير الأمنية الخاصة، ولمناقشة تطورات الأوضاع في المنطقة، وتداعيات اغتيال العالم النووي فخري زاده، وما إذا كانت الأوضاع ستتدحرج نحو مواجهة شاملة مع طهران.
ما كان لهذا الاجتماع أن يتم لو لم يكن الأمر جللاً، والخطب كبيراً، والتوقعات خطيرة، والاحتمالات عالية، ذلك أن المجتمعين وإن كانوا جميعاً عسكريين ورؤساء أركان الجيش السابقين، إلا أنهم يعتنقون مذاهب سياسية شتى، وأفكار وأيديولوجياتٍ متباينة، وينتمون إلى أحزابٍ مختلفةٍ ومتنافسة، وليس ما يجمعهم في السياسة شيءٌ كما الجيش والأمن والعسكر، لهذا فإن هذا الاجتماع ينم عن خطورةٍ ما، ويدل على أن المنطقة مقبلة على أحداثٍ كبيرة وتحولاتٍ خطيرةٍ، وأن الأيام القليلة الباقية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ستحمل معها مفاجئاتٍ كبيرة، وقراراتٍ خطيرة، قد أوحى إليه نتنياهو ببعضها، الذي غدا سيد المسرح وقائد أوركسترا الخراب في المنطقة، إذ يرى فيما تبقى لترامب ضالته، ومعه فرصته الأخيرة وأمانيه الكبيرة، قبل أن يقدم على تفكيك الحكومة وحل الكنيست والدعوة إلى انتخاباتٍ رابعةٍ مبكرةٍ.
تشير المعلومات الإسرائيلية المسربة عن اللقاء، ولعلها في أكثرها صحيحة وإن كان لا يوجد من يؤكدها رسمياً، إلا أن الاجتماع في حد ذاته يحمل تفاصيله، وينبئ عن مواضيعه، ويؤكد ما تسرب عنه أو كتب حوله، فالمنطقة كلها على مدى شهرين كاملين تقف على صفيحٍ ساخنٍ، وربما فوق براميل من البارود الجاهزة للانفجار، وقد أشعل اغتيال فخري زاده فتيلها، أو أطلق صافرة الانطلاق نحوها، إذ ستقع أحداثٌ جسامٌ أخرى، وستفتعل معارك كبيرة وحروب صغيرة، وسيقتل غير فخري زاده، فالمرحلة أمريكياً وإسرائيلياً تتطلب تصعيداً كبيراً، لتحصين المواقف وقطف الثمار، ويلزمها تخريباً وفوضى تحقق الأهداف، وتمنع الخصوم من الاستفادة من الزمن والمراحل الانتقالية، فما هو متاحٌ اليوم مفقودٌ غداً، وما هو مباحٌ اليوم قد يكون غداً محرماً.
تقارير قيادة أركان جيش العدو الأمنية لا تقتصر على مواجهة إيران، ودراسة مدى إمكانية توريطها لتوجيه ضربة عسكرية أمريكية قاصمة لها، بل تتحدث عن استغلال المرحلة لتطوير الجيش وتحسين قدراته الدفاعية والهجومية، وتزويده بأحدث الطائرات الحربية والقاذفات القتالية، فالرئيس الأمريكي قادرٌ بما تبقى لديه من وقت، وما معه من صلاحيات، على الموافقة على تزويد كيانهم بما يحتاج إليه، بحجة مواجهة إيران والتصدي لها، وتقويض أنشطتها وإحباط مشاريعها، واستهداف أذرعها في سوريا ولبنان.
لا يخفي قادة أركان جيش العدو تخوفهم من الأخطار المحتملة شمالاً من لبنان وسوريا، وجنوباً في قطاع غزة، ويراقبون الأوضاع في الجبهات الثلاثة الساخنة أصلاً، ويبدون خشية كبيرة منها في حال اندلاع مواجهة كبرى في المنطقة، تكون إيران طرفاً فيها، مما سيجعل من الجبهات القريبة المحاذية لها، منصات قتالية خطرة وفعالة، إذ أنها تتمتع بتسليحٍ عالٍ، وقدرات قتالية كبيرة، وخبرة عسكرية متراكمة، ورغبة وإرادة للقتال جاهزة، الأمر الذي يفرض على جيشهم أن يكون في حالة يقظة دائمة، وجهوزية عالية، تمكنه من صد وإحباط أي محاولة للمساس بأمن كيانهم وسلامة مستوطنيهم.
أياً تكن الملفات التي أثارها قادة أركان جيش الاحتلال في اجتماعهم، وبغض النظر عن التقارير التي اطلعوا عليها وناقشوها، فإن مجرد اجتماعهم في هذا الوقت والظرف بالذات، بهذه الصفات والألقاب، والمناصب والمراكز، يؤكد أن هناك أشياء تحاك في المنطقة، وقد أصبح لديهم علمٌ بها أو ببعضها، ولكنهم لا يفكرون في الهجوم والمباغتة فقط، ولا يعتقدون أنهم الأقوى والأقدر، بل إن الجانب الآخر لاجتماعاتهم هو الخوف والقلق، فمعسكر المقاومة بكل مستوياته وتصنيفاته بات يزعجهم ويقلقهم، إذ لم يعد يتلقى الضربات فقط ويؤجل الردود ويعلق الثأر والانتقام، بل أصبحت لديه القدرة والإمكانية، والقرار والجاهزية، لتنفيذ أي مهمة عسكرية أو أمنية، وأعتقد أن شهية المقاومة باتت مفتوحة اليوم كما لم تكن عليه من قبل، على كل الأهداف الإسرائيلية في كل مكان، ومن يعش يرَ، وإن غداً لناظره قريبٌ.
بيروت في 30/11/2020