كتب حليم خاتون:
لعل أحد استتباعات فايروس كورونا أنه يدفع الكثير من القطاعات الاقتصادية إلى الإفلاس أومحاولة التكيف عبر تغيير الأنماط، باتجاه عصر النفقات إلى الحد الأقصى.
كانت رحلة العودة من العمل إلى مكان إقامة عائلتي الصغيرة لا تزيد على إثنتي عشرة ساعة، فإذا بنفس هذه الرحلة تزيد الآن على تسع عشرة ساعة بسبب إلغاء الكثير من الرحلات.
ولأني كنت أعرف أنّ عليّ قضاء أكثر من تسع ساعات في مطار باريس في انتظار طائرتي اللاحقة، تسلّحت بالكثير من المقالات دون الانتباه إلى أن العقل البشري ليس ماكينة لا تتعب.
المعروف عن السينما أنها، ومهما بالغت في سوداويتها، تظلّ في أحيان كثيرة أكثر بياضاً، أو على الأقل أكثر تبسيطاً لمشاكل الحياة من الواقع الحقيقي.
وكما يقول أحد الأصحاب: الحياة ابتسامة واحدة وكثير من الدموع، وليس على الإطلاق دموع وابتسامات.
ذهبت إلى الانترنت، حتى وقع اختياري على فيلم جديد: "الجوكر".
نحن أهل هذا الشرق، لا نستطيع إلا ربط كل شيء نشاهده أو نراه بمشاكل بيئتنا ومنطقتنا.
فيلم الجوكر، أنصح بمشاهدته لأنه يُظهر، رغم بعض السطحية التراجيدية، أزمة النظام، أي نظام، ويدفع أهل الشرق إلى نظرية ثورة الجنون، في غياب الثورات العاقلة.
تذكرت جملة سابقة كنت قلتها، وعدت وندمت عليها، حين وصفت عجز وزراء المقاومة، في الحكومات السابقة، بأنّه عجز عن غير قصد.
الحقيقة، أنّ أقل ما يمكن أن يُوصف به هذا التوصيف، هو السذاجة.
في التحليل العلمي لعلم الاجتماع، لا يوجد شيء اسمه: عن غير قصد.
إن كل فعل حتى ولو بدا تلقائيا، أو ابن ساعته، أو ابن بيئته، هو بالضرورة ناتج عن منظومة قيم وأفكار وتقاليد(mentality، أو العقلية).
وإذا أردنا التحديد أكثر فإن الوضع الاقتصادي أو الطبقي هو الذي يحدد العقلية التي تعبًر عن مصالح ما.
قد يخرج أي كان ليقول إن فريدريك أنغلز كان ابن أحد كبار أرباب العمل الأرستقراطيين في انكلترة، وبالرغم من هذا، كان مع كارل ماركس، من مؤسسي الحركة الشيوعية العالمية، وأحد واضعيْ بيانها الأول الداعي إلى تأميم ومصادرة كل وسائل الإنتاج التي تقف وراء استغلال الطبقة العليا للمجتمع، لبقية الطبقات.
حين رأى كارل ماركس أن الطبقة العمالية هي أكثر الطبقات ثورية، لم يقصد العمال كأفراد بقدر ما قصد الفكر العمالي.
إن العمال الذين لا يملكون في الدنيا شيئا غير قوة عملهم، يعتاشون منها، سوف يعملون دوما على منع الاستغلال الذي يوفره تراكم رأس المال الذي يسمح بشراء قوة عمل العمال بأبخس الأثمان، وبشكل لا يسمح لهؤلاء بكسب أكثر مما يبقيهم أحياء يستمرون يوماً بعد يوم، ببيع قوة عملهم، إلى أن يصلوا إلى العجز، وبعده إلى الموت.
في الوسط، بين طبقة العمال المُستَغَلّة(exploited) وطبقة كبار الراسماليين المُستَغلّة(exploiter)،
تتواجد مجموعة من الطبقات الوسطية، اصطلح علم الاجتماع على تصنيفها في مجموعتين كبيرتين، هما طبقة البرجوازية الصغيرة وطبقة البرجوازية الوسطى.
ورغم تراوح الإمكانات و حجم المُلْكية ضمن الطبقة الواحدة فإن العقلية العامة لهذه الطبقة تكون تقريبا مُتشابهة.
هكذا تسعى البرجوازية الصغيرة، أو طبقة صغار أو فقراء الملّاكين إلى محاولة فرض قوانين لمصلحتها الطبقية، كما فعل جمال عبد الناصر، حين أمم وصادر المُلْكيات الكبيرة ووزّعها على صغار الفلاحين، وهذا ما فعلته هذه البرجوازية الصغيرة في الكثير من البلدان تحت اسم الإصلاح الزراعي.
وما تسميه البرجوازية الصغيرة إصلاحا، تسميه الطبقة البرجوازية الكبيرة اعتداء وسرقة للملكية الخاصة، في حين يقول أي تحليل علمي اقتصادي: إنّ السرقة الفعلية هي تلك التي تقوم بها البرجوازية الكبيرة عبر تشريعات قانونية تسطو بها على مقدرات الفقراء، وأبرز مثل على هذا، هو مجموعة رفيق الحريري وشركائه الذين وضعوا التشريعات التي بواسطتها نهبوا البلد في العقود الثلاثة الأخيرة.
عادة، وفي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة، تقترب مصالح البرجوازية الصغيرة من مصالح العمال وبقية الكادحين، ويكون دورها تقدمياً بشكل عام.
لكن، وقبل وصول الأزمة إلى ذلك المنحدر، كثيرا ما تحاول البرجوازية الصغيرة التوفيق بين جميع فئات المجتمع، وكلها أمل أن تستطيع إنقاذ نظام الملكية الخاصة، حيث هي موجودة داخله بالفعل.
وإذا كان الناصريون والبعثيون أكثر القوى تعبيراً عن مصلحة البرجوازية الصغيرة العربية في مصر وسوريا والعراق واليمن وغيرها، فقد انضم إلى هذه القوة الطبقية حزب الله في لبنان.
من هنا يجب فهم وسطية الحزب طيلة الفترة السابقة، حين لم يَرْضَ وزراؤه بتبني تشريعات جذرية تؤذي النظام القائم على الملكية الخاصة، صغيرها وكبيرها.
وكما يتبين، كلما تفاقمت الأزمة، زاد قرب طبقة البرجوازية الصغيرة من طبقة العمال أو المُعدمين الكادحين حيث إن الطبقة العاملة في بلدان العالم الثالث كثيراً ما تكون قليلة الحجم والحيلة، بسبب غياب الصناعات والزراعات الكبيرة.
ورغم عدم وجود دراسات علمية اقتصادياً واجتماعياً
لبنية المجتمع اللبناني، ومنه مجتمع بيئة المقاومة، إلا أنّ نظرة بسيطة وسريعة تُظهر أنّ معظم هؤلاء كانوا في النصف الثاني من القرن العشرين يشكلون عماد الطبقة الوسطى التى راحت تنحدر بسرعة وخاصة مؤخرا، إلى طبقة
البرجوازية الصغيرة والمُعدمين.
حين وقف وزراء حزب الله مع الرافضين لتحديث قوانين العمل اللبناني في الخمس عشرة سنة الأخيرة، هم كانوا يدافعون عن مصالحهم الطبقية لأنهم جزء من برجوازية البلد.
وكذلك الأمر حين لم يؤيدوا،بصريح العبارة انشاء نظام ضمان صحي يشمل كل اللبنانيين، بدون أي استثناء.
هل يمكن لهذه العقلية البرجوازية أن تؤثر في اتجاهات الحزب بالنسبة للقضايا الوطنية والقومية؟
إذا ما تابعنا انتقال ممثلي البرجوازية الصغيرة في السلطة في البلاد العربية من الموقف المعادي للإمبريالية إلى موقع التبعية لها، كما حدث مع السادات ومع البعث العراقي والسوري، يتوجب علينا الحذر.
صحيح أن الموقف العقائدي لحزب الله يفرض عليه العداء المطلق للصهيونية، لكن هذا العداء لا يذهب الى الأخير في العداء لأميريكا والإمبريالية.
هذه النظرة العلمية تفرض على المناضلين عدم غض الطرف عن الوضع الطبقي للكثيرين من المنضوين، كاملاً أو جزئيا في المقاومة، بما في ذلك في قياداتها.
هذه النظرة لا تعني أي تخوين أو انتقاص من نضالية الإخوة، لكن يجب العمل دوماً على دفع هذه الشرائح والقيادات إلى البقاء في عداء مطلق مع الإمبريالية، بغض النظر عن أي اتفاق إيراني أميركي.
والوسطية وعدم اتخاذ مواقف حازمة في السنوات الأخيرة، من قبل الكثيرين من وزراء ونواب المقاومة،هو جرس إنذاربأن هؤلاء لا زالوا، في أحسن الأحوال، يتأرجحون، وقد ينزلقون الى ما لا تُحمد عُقباه.
ولعل الضمانة الأساسية التي تساعدنا هي وجود إسرائيل في المعسكر المقابل.
لقد ظلّ فيدل كاسترو فترة يتأرجح بين الجذرية والصلابة في الموقف من الأميركيين، والذي دفعه إلى قمة المواقف الثورية، هو من جهة، المواقف الأميريكية الرسمية الغبية التي لم تستطع تقديم أي تنازل للشعب الكوبي، ومن جهة أخرى، وجود جناح ماركسي داخل حركة التحرر الكوبية تزعمه تشي غيفارا وراوول كاسترو.
في حالة حزب الله، عندنا أيضاً عامل أساسيّ هو العداء المستحكم للصهيونية، ولكنّ العامل البشري الذاتي من داخل الحزب لا يوحي بوجود أناس أو قيادات معادية بالمطلق لعقلية التملك، وبالتالي عقلية الوسطية والتزلف للنظام، والحفاظ عليه.
والوسطية الاقتصادية غالباً ما تأخذ منحىً سياسياً في الأخير.