كتب الاستاذ حليم خاتون:
منذ تأسيس دولة لبنان "الكبير"، الصغيرة بكل المقاييس، لم يحمل هذا البلد صفة دولة بالفعل، إلا في لحظات معدودات من تاريخه.
لقد أسست فرنسا لنفسها في هذا الشرق رأس جسر، بعد أن قسّمت المنطقة بالإتفاق مع بريطانيا فيما سمي حينها، معاهدة سايكس بيكو.
سايكس بيكو لم يكن سوى مخطط للسيطرة على هذا الشرق عبر بوابة التقسيم اولا، بحيث لا يكون لأي من الكيانات الوليدة أية قدرة على بناء دولة بالمعنى الفعلي للكلمة.
وعبر زرع كيان غريب في وسط الجسم المشرقي، ليلعب دوما دور شرطي المنطقة بالإنابة عن الإستعمار والإمبريالية.
في كامل المشرق العربي كانت هناك ثلاث كيانات تتمتع بمقومات قيام دولة مؤسسات، هي مصر، سوريا والعراق، فعملت قوى الإستعمار على منع هذه الكيانات من إمكانية إعادة بناء دولة قوية وعادلة في المنطقة.
في حديثه إلى الصحف بعد استقالته من الحكومة احتجاجا على غزو العراق، صرّح الوزير اليساري الفرنسي شوفينمان، بأن هذا الغزو يمثل ثالث تدخل غربي خلال أقل من 150 سنة، لمنع هذا الشرق من النهوض، حيث كان التدخل الأول ضد ملك مصر والسودان محمد علي بعد أن حرّر الجيش المصري معظم بلا المشرق.
المرة الثانية كانت أيضا في مصر وضد الرئيس جمال عبد الناصر الذي استطاع في بضعة سنين من وضع مصر في قيادة آسيا وإفريقيا وأميريكا اللاتينية.
إذا، وكنقطة بداية، يجب التنبه إلى أن قيام دولة بالمعنى الكامل للكلمة في هذا الشرق مرتبط بشرطين أساسيين مرتبطين ببعضهما بشكل لا يمكن فصل الواحد عن الآخر دون أذية المشروع بالكامل،
التحرير، والوحدة أو الإتحاد في كيانات اكبر.
لذلك، عندما يجري الحديث عن لبنان، يجب التنبه إلى أن الكيان اللبناني هو جزء من كل، ويجب أن يتوصل يوما، إلى التكامل مع الأجزاء الأخرى.
لبنان في الحقيقة، لا يستطيع ضمن الوضع الحالي، سوى لعب دور تاجر المنطقة، سمسار المنطقة.
أقصى ما يمكن أن يملكه من مؤسسات هو ما استطاع فؤاد شهاب بناءه له، من كهرباء، ومياه، وزراعة، وصحة، وضمان وهاتف... الخ
ولكن حتى لبناء هذه المؤسسات البسيطة توجّب تأمين نوع من السلطة (الإستبداد) عبر المخابرات التي كانت تتخذ لنفسها اسم المكتب الثاني في تلك الأيام.
ما أن اُستنفذت هذه السلطة حتى وقع العجز في كل أركان الدولة التي ما عاد بإمكانها التقدم خطوة ولو واحدة إلى الأمام.
كان لنشوب الحرب الأهلية دور مهم في تعطيل هذه المؤسسات، حتى إذا ما جرى اتفاق الطائف، كان كل الهم في أن يعاود التاريخ نفسه.
وكما يقول ماركس أن التاريخ إذا أعاد نفسه فهو لن يكون سوى واحد من اثنين، إما مأساة، أو "مسخرة".
وكلا الأمران هما اختصار للمأساة التي يعيشها البلد هذه الأيام.
ولأن لبنان، كما المنطقة لا يعيش فقط أزمة اقتصادية واجتماعية؛ وبسبب وجود الكيان الصهيوني، طغت الأزمة الوطنية عل كل ما خلاها من الأمور.
فخرج من تخبّط السلطات غير المحسومة من أحزاب وتيارات وفصائل؛ خرج جسم لا زال منذ حوالي ثلاث عقود يقوى ويتمدد على حساب كل القوى الأخرى.
إنه جسم المقاومة.
منذ ظهور هذه المقاومة، خرجت إلى العلن جدلية العلاقة بينها وبين الدولة؛
وبما أن المقاومة هي سلطة شعبية تنبثق من حركة الجماهير، خرج إلى العلن مفهوم الثورة، في مقابل مفهوم السلطة الكلاسيكية.
وبما أن كل الآفاق شبه مسدودة أمام السلطات الكلاسيكية، اضطرت المقاومة، أو الثورة إلى سدّ الفراغ رغما عن ذاتها.
ولذلك يمكن القول إن اللحظات التي لعبت المقاومة فيها دور الدولة كانت معدودة أو محدودة، خاصة في قضايا الدفاع عن السكان، والتحرير.
ورغم تصميم المقاومة على عدم تخطي السلطات الكلاسيكية في الكثير من الأمور، إلا أن الظروف لا تلبث أن تُجبر المقاومة على تحمل مسؤولياتها التاريخية وبناء مؤسسات رديفة بدل مؤسسات الدولة التي تُحتَضر.
ولعل أبرز مثال على هذا المسار هو كلمة السيد نصرالله الأخيرة.
بعد الشيخ نعيم قاسم منذ حوالي الشهر، والسيد صفي الدين منذ حوالي الأسبوعين، خرج السيد نصرالله ليتكلم بكل الهدوء الممكن، ويشرح بكل البساطة الممكنة أن الحزب لا يريد الحلول مكان الدولة، لا في الصحة، ولا في الإقتصاد، ولا في السياسة، لينتهي إلى القول إنه حتى في العسكر، تُفضًل المقاومة أن تكون سندا للدولة.
لكن، وفي نفس الكلمة، شدّد السيد على أن المقاومة لن تتراجع لا في المؤسسات الصحية، ولا المالية (القرض الحسن) ولا في الأمور العسكرية.
بالتأكيد، يتمنى حزب الله لو تستطيع السلطة الكلاسيكية القيام بكل الأمور، لينسحب هو إلى الخلف ويسلمها الأمور، تماما كما فعل بعد 7 أيار.
الحزب يريد فعلا تسليم الأمور إلى السلطات القائمة، دون أن يستطيع فهم استحالة هذا الأمر من منطلق العجز التاريخي لهذه السلطات.
الحزب الذي لا ينطلق من منطلقات ماركس الإقتصادية الإجتماعية، لا يستطيع أن يرى أن كل الآفاق مسدودة أمام السلطات الرسمية القائمة، لأنها وصلت إلى نهاية الطريق، ولكي تتقدم يجب تمزيق الكثير من القوانين والمواد الدستورية البالية والعائدة إلى حقبات، لم تعد موجودة، وهذا يعني تلقائيا تمزيق السلطات القائمة ذاتها.
الحزب، في كل أمر، وفي كل حالة، سوف يقف أمام أحد خيارين،
إما الغرق أكثر في الازمة،
وإما التقدم خطوة إلى الأمام عبر ملء الفراغ الذي تتركه السلطات الرسمية.
الحزب الذي تعهد بمكافحة الفساد، لا زال يتخبط أمام قضاء مهترئ.
وجاء انفجار المرفأ، وتعاطي القاضي صوّان مع المسألة ليُجبر السيد على بقّ البحصة.
القضاء مخطئ، كما قال السيد.
هو لم يقل أنه سوف يتجاوز هذا القضاء، الفاسد بكل المعايير.
لكن وكما أجبرت الأزمة المالية على تمدد القرض الحسن ليأخذ دوره ضمن الدورة الإقتصادية والمالية، لن تلبث المقاومة أن تجد صيغة تتخطى فيها هذا القضاء المهترئ.
إن الإمبريالية، ودون أن تدري، تحفر قبرها بيديها.
كلما أمعنت الإمبريالية في إضعاف الدولة اللبنانية، اضطرت المقاومة إلى التقدم خطوة إلى الأمام.
المقاومة التي رفضت، وبإصرار، لعب أي دور ثوري منذ الإنهيار الكبير في لبنان، تجد نفسها مُرغمة على اتخاذ قرارات
تجعلها في السلطة وعلى راس هذه السلطة، وألا، سوف تصل الى هزيمة المشروع الوطني والعقائدي للمقاومة.
حتى اليوم، دخل الحزب على الخط عبر دعوة الناس إلى إيداع أموالهم في القرض الحسن.
هذه الخطوة سوف تفرض على الحزب مسؤوليات جمّة، لعل أهمها حماية هذه المؤسسة ومنعها من الإنهيار أو الخطأ أو الفساد.
الناس سوف تندفع بالتأكيد لإيداع أموالها في القرض الحسن، لأنها تثق بالسيد وبضمانته.
هل سوف يستمر القرض الحسن في هذا الدور البسيط جدا الذي يقوم به،
أم أنه سوف ينتقل إلى مراحل أعلى من الإقتصاد المالي، استنادا إلى نظريات السيد محمد باقر الصدر الذي رسم أدوارا عصرية لمؤسسات المال الإسلامية؟
ليس السيد هو من يريد.
وليست المقاومة هي من تريد.
لكنها الحرب المفتوحة على كل الأصعدة ضد المقاومة. هذا ما سوف يُجبر المقاومة ، عاجلا أم آجلا، أن تكون هي المستبد العادل ولو على مقاييس صغيرة بانتظار التحرير.
مرة أخرى، تنجح نظرية الدكتور جورج حبش.
إن شراسة عدونا سوف تدفع بنا دفعا إلى خطوات ثورية لا بد منها كرد فعل، وسوف ينتهي بنا المطاف أن نكون ثوريين ولو رغما عنّا.
المقاومة، إذا أرادت النجاح هي المُستبد العادل لمنطقتنا.