كتب الأستاذ حليم خاتون:
من أجمل ما أعطانا إياه الإنترنت هو تجاهل بعض الشاشات، بعد أن تبيع نفسها.. دون خسارة الاستماع إلى ضيوف مميّزين، مع مقدِّمين مميّزين على شاشات خسِرَت التميّز.
المسألة لم تعد تحتاج إلى الكثير من البراهين على أن شاشة الجديد، التي كانت تتحفنا دوماً بالهجوم على فساد حركة أمل وبلطجيتها، باعت نفسها مؤخرا إلى جهات باتت تفرض فؤاد السنيورة وجماعة المستقبل، ومي شدياق وجماعة القوات، وبقية الشلة من جماعة وليد جنبلاط... إلى بولا يعقوبيان، وغيرها من جماعة أمريكا في حراك 17 تشرين المخطوف جزئياً ومرحليا... واكتفت بالاستمرار في تناول حركة أمل ...
على شاشة الجديد المخطوفة... بدورها، استضافت المميّزة سمر أبو خليل، الكاتب والمناضل من أجل لبنان وطني ديموقراطي علماني، الأستاذ نصري الصايغ.
حلقة كهذه لا تُفوّت بالتأكيد.... لكن هل رفع الأستاذ نصري، العلم الأبيض؟
للوهلة الأولى، ومع تأكيده أن الطائف لم يُطبق، ولذلك هو يطالب بتطبيقه، ربما لأنه يخشى الفراغ الدستوري... للوهلة الأولى، يتوهم المُستمع أن أحد أهم المناضلين من أجل الدولة المدنية، يرفع العشرة، على الأقل في الزمن الحالي... خاصة حين يقول باستحالة التخلص من الطائفية في زمن قصير... ويخلص حتى إلى رمي هذا الهدف، أي بناء الدولة المدنية، عشرات السنين إلى المستقبل...
يحدِّد الأستاذ نصري سبب هذه المطالبة بوجود مواد في دستور الطائف تدعو إلى إنهاء الواقع الطائفي في لبنان، وأنّ هذا تحديدا، ما لم يُطبّق.
إذا وافقنا أستاذنا الكبير هذا المنطق، فإنه يتوجب علينا العودة إلى جمهورية ما قبل الطائف، حيث كانت الطائفية أقل ضررا، وكان الفاسدون أقل حصانة وقوة، على الأقل بالشكل العلني للفساد.
جمهورية 43 أعطتنا على الأقل، إصلاحات فؤاد شهاب الذي حلم نصف حلم، لبناء نصف دولة...
أما بالنسبة للمطالبة بإنهاء الطائفية، فهذا أيضاً كان موجوداً في دستور ال43، الذي اعتبر النظام الطائفي حقبة مرحلية يجب تجاوزها بعد زمن، حين تستوجب الظروف، ولم يشترط لذلك إزالتها من النفوس قبل النصوص، كما أراد بعضهم إيهامنا لعشراتٍ من السنين..
هل كان بالإمكان تطبيق دستور الطائف؟
إذا كان الجواب سلبيا، أي لم يكن بالإمكان تطبيقه؛ فهذا يعني أن الحديث انتهى، وعلينا تجاوزه والتفتيش عن دستور جديد.
أمّا إذا كان الجواب بالإيجاب، فعندها يكون السؤال التالي،
إذاً، لماذا لم يُطبّق؟
دستور قابل للتطبيق، يبقى على الرّف لأكثر من ثلاثين سنة، نعيش خلالها أسوأ الكوابيس الدستورية، لبناء دولة وبناء وطن، وتتم في هذه الفترة أكبرعملية نهب منظمة ومقوننة، يقوم بها رجال النظام لشعب هذا النظام، ونواجه حتى اليوم، نفس القوى التي منعت تطبيقه، سواء عند المسيحيين أو عند المسلمين، بكل هيئاتهم وتفرعاتهم؛ ثم نقول، وبكل ثقة، يجب تطبيق الطائف.. آسف، هذا هُراء..
الحقيقة التي لا يجب التغافل عنها، هي أن وضع الستاتيكو الحالي أمنيا، ليس وضعاً ملائماً على الإطلاق؛ بل هو وضع لا يُطَمْئِن لفترة زمنية مقبولة نسبيا...
قد يضع السيد نصر الله كل قوة حزب الله لمنع الحرب الأهلية، وهو يضعها فعلا...
لكن ماذا عن الآخرين؟
ماذا عن القوى الإقليمية والدولية؟
ماذا عن الكيان الرابض على الأرض الفلسطينية؟
ماذا عن عامة الناس الذين نوهم أنفسنابأن جمعيات تعاونية أو بعض أعمال الإحسان، سوف تمنعهم من الِانفجار والخروج شاهرين سيف الفقر والجوع؟
ماذا عن المناضلين الذين لن يرضوا بالسكوت والصمت إلى ما لا نهاية، عن الاستبداد السلطوي وقمع الحريات المُطالِبة بالمُحاسبة وفتح السجون واسترجاع الأموال المنهوبة؟
لقد احتاجت أوروبا إلى حروب دينية اجتماعية اقتصادية عسكرية متقطعة دامت مئة عام، وتخللتها مجازر على النسق الداعشي وجبهة النصرة، قبل التوصّل إلى ويستفاليا، وبناء أوروبا العلمانية الحالية.
هل هذا ما نريده؟
هل نريد حرباً للوصول بعدها إلى ويستفاليا لبنانية ودولة مدنية؟
اليوم أيضاً، وعلى france24، حاولت مقدمة برنامج "حوار الصباح"، استدراج القيادية في حراك 17 تشرين، حليمة قعقور، إلى الحديث عن سلاح الميليشيات،والقصد طبعاً، هو الوصول إلى سلاح المقاومة... إنّه المادة الأساسية لدفع الناس إلى الحرب الأهلية...
جواب حليمة قعقور، لم يختلف عن جواب السيد نصرالله، والذي يلتقي مع أجوبةالكثير من منصات حراك 17 تشرين، وقد رأيناه عند تيار بناء الدولة:
السلاح موجود، لأن الدولة غير موجودة.
الدولة الوحيدة المقبولة من الجميع هي الدولة القوية العادلة...
الدولة القوية العادلة لم تكن دولة ال43.
الدولة القوية العادلة، هي قطعا ليست دولة الطائف، التي تعيد إنتاج كل الظروف لحرب أهلية طاحنة، تباشيرها ظاهرة في الأفق، وتعمل لها بكل جدية،القوى الإقليمية وحتى بعض القوى الدولية.
ألا نرى الحلف الإسرائيلي الإماراتي الجديد، الذي يعمل على محو لبنان عن خارطة الدول المستقرّة والمهمّة اقتصادياً واستراتيجيا.
إذا أردنا فعلا إنقاذ أنفسنا.
إذا أردنا فعلا إنقاذ لبنان.
يجب البدء البارحة قبل اليوم، في وضع دستور جديد لبناء دولة قوية وعادلة...
أمس، وقّع الإيرانيون اتفاق القرن مع الصين.
ماذا يمنع أن لا تقوم الصين غدا، بالتوقيع مع مصر، التي يحتاج تحريرها من الهيمنة الصهيونية الخليجية الأمريكية إلى أقل من عشرة مليارات دولار سنويا، ولبضعة سنين فقط، قبل أن يظهر مدى غنى هذه الدولة العربية المركزية التي تحوي من النفط والغاز والِاقتصاد والمؤسسات والقوى الأمنية، ما يؤهلها للعودة إلى قيادة العالمين العربي والأفريقي...
كانت الصين تتريث حتى لا تفتح عليها العيون الأمريكية.
أمريكا لم تعد عمياء.
أمريكا أزالت الغشاوة عن عينيها، وقرّرت التصدًي للصين.
هل ننتظر حتى يصبح لبنان الساحة المقبلة للصراع الأمريكي الصيني.
لبنان يستطيع الاستفادة من هذا الصراع إيجاباً، فقط إذا كان يعيش بسلام تحفظه دولة تستند إلى دستور عادل يساوي بين كل اللبنانيين،بغض النظر عن الجنس والمذهب واللون، وأي اختلاف آخر، سواء مما أوجده الله أو مما أوجده العبيد.
هل يمكن أن يكون هذا الدستور وهذه الدولة غير لبنان وطني ديموقراطي علماني بكل المقاييس؟
إمّا أن نكون ساحة الحرب القادمة... وإما ساحة الِاستفادة مما سوف تحمله الأيام الآتية... ماذا نختار؟