كتب الأستاذ حليم خاتون:
عندما ابتكر اليونانيون القدامى مفهوم الديموقراطية، ارتكزوا الى وجوب إجراء انتخابات حرة نزيهة، في مجتمع متجانس تنتهي بخروج أكثرية تحكم، وأقلية تراقب وتنتقد وتنتظر انقلاب موازين القوى، عبر التوصل إلى إقناع الكتلة الناخبة بفشل الحكّام وبصحة رؤيتهم، هم، للحكم.
تميزت الحضارة اليونانية القديمة بنظرة مثالية للأمور، في كل المجالات.
في فن النحت مثلا، نادراً ما نجد تماثيل تعكس بشاعةً ما، أو عاهة، أو أي شيء يمكن أن ينتقص من جمالية الإنسان الإلٰه...
إذا ما نظرنا إلى فن النحت عند الرومان مثلا، نجد أنّه يعكس الواقع كما هو...
هذه المثالية عند الحضارة اليونانية عكست نفسها،في بناء الدولة على الأسس الديموقراطية، حسب التعريف المذكور أعلاه... أي تجانس مجتمعي، يُفرز أغلبيةً وأقلية...
وكما تطور فن النحت من اليونان إلى الرومان، إلى يومنا الحاضر.... كذلك تطور مفهوم الديموقراطية.
الديموقراطية الكلاسيكية المثالية التي يتحدث عنها الجميع، والتي ترتكز على أغلبية تحكم وأقلية تعارض، هي في الواقع غير موجودة، حتى في أكثر "الديمقراطيات"
عراقة...
لقد تطور مفهوم الديموقراطية ليصبح ديكتاتورية للأغلبية،
ورفضاً لحق الأقلية دوماً، في التعبير وفي الحقوق الكاملة... خاصة عندما يدور الحديث عن مجتمعات غير متجانسة، ومن شبه المستحيل وجود مجتمعات متجانسة مئة في المئة.
في أمريكا،مثلاً، وباسم الديموقراطية البيضاء تم القضاءعلى السكان الأصليين واستعباد ذوي البشرة السوداء، واعتبار الملونين من اللاتينيين والآسيويين مواطنين من الدرجة الثانية، ورغم كل التحسينات التي أُدخلت على هذا النظام لا يزال يحمل الكثير من آثار هذه التفرقة.
حتي أقدمُ الديمقراطيات في العالم، أعني بريطانيا، مازال العنصر الأنكليكاني، هو العنصر المهيمن على الحياة السياسية هناك....
وما يحدث في الهند عامة، وفي كشمير تحديداً، يُسقط الغشاوةعلى مايُسمّى أكبرديموقراطية في العالم...
ما يحدث هناك هو مجازر مُقنّعة...
صحيح أنّ أوروبا، وبعد معاهدة ويستفاليا، تقدمت بتلك الديموقراطية المثالية أشواطا كبيرة إلى الأمام، إلّا أنّ الدخول في تفاصيل الأمور يُظهر أنّ المجتمع هناك ليس بالمثالية التي يدّعيها.
لكن الأوروبيين مشوا في الطريق الصحيح، ويكفي أن هناك ميثاقاً في ألمانيا، لا تستطيع قوة على الأرض تغييره، ومن أهم مواده، مثلا:
إن الذات البشرية لأي انسان، غير قابلة لأي نوع من المسّ، ولا بأي شكل من الأشكال.
إن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن العقيدة أو الأصل أو اللون أو الجنس، أو أي نوع من الِاختلاف...
إن حرية الفكروالتعبير مقدسة ولايمكن المسّ بها...الخ ...
لا يمكن القول إن هذا مُطبّق 100٪ في المانيا، ولكن يمكن القول إنه مُطبّق إلى حد بعيد...
على الأقل، هم في الطريق الصحيح..
ماذا عن البلاد العربية؟
ماذا عن بلاد العالم الثالث؟
الوضع مأساوي بكل ما في الكلمة من معنى.
ولأن لبنان هو موضوع الساعة، يمكن تناول ما حصل وما يحصل هناك لتبيان مدى تخلّف البنى الفوقية والتحتية لهذا البلد.
لبنان الذي يدّعي الحريات، هو مجتمع شبه قبلي، دخل في الرأسمالية دون أن يتخلى عن منظومة العلاقات الإقطاعية، فأصبح نظامه خليطا من العلاقات لا يمكن مزجها إلا إذا استطعنا يوما مزج الزيت والماء
كان رئيس الجمهورية في جمهورية ال 43، ملكاً غير مُتوّج لمدة 6 سنوات قابلة للتجديد بالوكالة المُقنّعة، كما حدث بين فؤاد شهاب وشارل الحلو.
جاءت جمهورية الطائف لتجعل رئيس الحكومة هو الملك غير المُتوّج.
رئيس الحكومة، هو نوع من ديكتاتور يجب ضبطه بشكل من الأشكال، وإلا نصل إلى مأساة كما حصل مع فؤاد السنيورة، الذي جعل البلد ساحة سيطرة للغرب والأمريكيين والسعوديين (ومن ورائهم، للصهيونية العالمية، حتى ولو تم تغليف ذلك بأكثر من قناع)...
عندما يتم الحديث عن الديموقراطية التوافقية، يستوجب هذا أول ما يستوجب وضع ضوابط لرئيس الحكومة، حتى لو كان نبياً مُرسلا، وهو في الواقع الحالي، أحد أكبر الفاسدين وابن ربً الفساد في هذا البلد.
كمااستطاعت شعبوية الشارع فرض مفهوم مسخ عن حكومة التيكنوقراط، استطاعت أيضاً ربط مفهوم حكومات الوحدة الوطنية بالفساد بالمطلق..
أساسا، كل الحكومات، بالأخص ما بعد الطائف، كان الفساد يتحكّم بمفاصلها، حتى عندما تواجد رجال صالحون فيها.
الحريرية السياسية زرعت الفساد في كل جهاز الدولة، لدرجة أنه حتى لو تولى الحكومة يسوع المسيح نفسه، لاحتاج الى تدخلٍ إلهي وإلّا فالفشل هو المصير.
لذلك سواء كانت الحكومات، حكومات وحدة وطنية أم لا، هي قطعاً، محكومة من الفساد.
في وضعنا الحالي ما نحتاجه ليس فقط حكومة وحدة وطنية، وليس فقط شفافية كاملة تؤمًن الضوابط في الحكم الوطني الرشيد... ما نحتاجه هو حكومات أنبياء أتقياء من شبه المستحيل إيجادهم؛ اللهمّ، إلا إذا تم إنشاء مجالس شعبية تبدأ فوراً بالقِصاص من كل الفاسدين، وتكون المصفاةَ التي يمرّ عبرها أعضاء حكومة الإصلاح العتيدة...
هذا شيء مستحيل!
ربما.... لكن أي طريق آخر، سوف يؤدي بنا إلى جهنم الموعودة، والتي عملت كل الطبقة الحاكمة على تعبيدها لنا، خلال كل تلك السنين الغابرة...
قد يكون الثلث الضامن عقبة...
لكن تسمية سعد الحريري رئيساً مكلّفا، هو بالتأكيد أحد أهم أسباب هذه العقبة، خاصة أننا في نظام الطائف المجبول من طين السوء والفساد...