كتب م. زياد ابو الرجا:
خلال حرب اكتوبر المجيدة التي حطم فيها الجيش المصري خط بارليف المنيع واندفع شرق القناة بزخم دمر معظم دبابات العدو ومصفحاته مما اضطر امريكا ان تقوم بامداد الكيان مباشرة بالدبابات والمصفحات الى ارض المعركة وخاض الجيش المصري اعظم معركة دبابات بعد الحرب العالمية الثانية واثبتت العسكرية المصرية افرادا وضباطا وجنرالات كفاءة عالية عز مثيلها وكتب عنها الصحافي الهندي المشهور عالميا ف مجلة BLITZ تحت صورة الفريق سعد الدين الشاذلي The Two Eyed Dayan
تقدم شارون على راس رتل من الدبابات قوامه مائتي دبابة واحدث ثغرة الدفرسوار وقدم الفريق الشاذلي للرئيس السادات القائد الاعلى للقوات المسلحة المصرية اكد فيه ان تدمير وابادة القوة الصهيونية في الدفرسوار يمكن انجازه في ساعتين. تبين فيما بعد ان السادات بيت النية منذ البداية على ان تكون الحرب اداة تحريك وليس اداة تحرير وسمح للثغرة بالتوسع حيث تم محاصرة الجيش الميداني غرب القناة والذي تبعه وقف لاطلاق النار على الجبهة المصرية مما اتاح للكيان بان يدفع بقواته شمالا على الجبهة السورية والتي احدثت خللا جوهريا في مسرح العمليات باتت فيه دمشق مهددة بالسقوط.
ادى وقف اطلاق النار على الجبهة المصرية الى مفاوضات " الكيلو مية وواحد" لفك الاشتباك .شكلت الثغرة ومفاوضات الكيلو المنصة والارضية التي انطلق منها السادات للوصول الى ما اسماه الحل الدائم للصراع حيث وقعت مصر اتفاقية كامب ديفيد التي اخرجت مصر من الصراع العربي الصهيوني والتي ادت الى تداعيات كارثية على المستوى العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص. لو ان حرب اكتوبر حصلت في عهد عبد الناصر لتغير وجه الاحداث والجغرافيا السياسية في ما يسمى الشرق الاوسط وشمال افريقيا ولتوجت مصر قائدة للعرب وافريقيا ولما كان بالامكان ان تتجرأ دولة مثل اثيوبيا الان على حرمان مصر من مياه النيل النهر الذي منح مصر هويتها الجغرافية ( وادي النيل) والذي غنى له محمد عبد الوهاب : ( يا نيل يا ساحر العيون).
على الجانب الفلسطيني ورغم كل التضحيات التي قدمها شعبنا البطل منذ انطلاقة الثورة المعاصرة والبطولات التي سطرها الدم الفلسطيني الاردني على الجبهة الاردنية ومن ثم الخروج من الاردن الى سوريا ولبنان حيث استطاعت الثورة بجهود وتضحيات ابناءها المخلصين من اعادة ترميم وبناء قواتها في لبنان وبمساندة القوى الوطنية اللبنانية حيث شكلت تهديدا وجوديا للمستعمرات الصهيونية في الجليل والشمال الفلسطيني كله. قام الكيان بالاعتداءات اليومية وغارات طيرانه الحربي على القرى والبلدات اللبنانية وقواعد المقاتلين حيث جوبهت بالصمود والرد بالدم والنار، وطور العدو عدوانه بالاجتياحات المحدودة وفشل في فرض ارادته، وامام هذه المعادلات قرر الكيان اللجوء الى ( اخر الدواء الكي) واخذ يعد العدة لاجتياح لبنان واحتلال بيروت لتصفية الثورة في عقر دارها. لقد تنبأ الشهيد سعد صايل ( ابو الوليد) بصفته عسكريا محترفا ومبكرا بما يخطط له العدو من اجتياح كامل للبنان وصولا الى اسقاطها. وطالب قيادة " فتح" ومنظمة التحرير بوضع خطة عسكرية لتحصين بيروت والدفاع عنها بحيث تكون جاهزة لمواجهة اي اجتياح لم تأخذ قيادة "فتح" على محمل الجد تقدير الموقف الذي قدمه ابو الوليد حيث كانت تستبعد كليا اقدام العدو على مثل هذا العمل. واكد ابو الوليد مرارا للقيادة بأن الاجتياح قادم عاجلا ام اجلا ولكن لا حياة لمن تنادي.
بدأ الاجتياح الصهيوني للبنان في صيف عام ١٩٨٢ وكان واضحا من حجم القوات المندفعة والمتوغلة ان هدفها النهائي احتلال بيروت. قاتلت قوات الثورة ببسالة فائقة وسقط الساحل اللبناني بيد القوات المهاجمة واخذت القوات الصهيونية تتقدم لاحتلال بيروت بعد محاصرتها وبفضل الدفاعات التي شكلت على عجل وصمود المقاتلين الاسطوري عجزت القوات المعادية عن احتلال بيروت وفي خضم المعارك البطولية التي كان يسطرها المدافعون عن بيروت استغل اليمين الفلسطيني المتنفذ في قيادة منظمة التحرير حصار بيروت ( ثغرة بيروت مجازا) ليجعل منها المنصة والارضية التي ينطلق منها الى مشروع التسوية الذي قطع فيه شوطا بعيدا قبل الاجتياح ودخل في مفاوضات مع فيليب حبيب ادت الى خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان دون ضمانات عملية لحماية المدنيين في المخيمات الفلسطينية. وكما سبق وان تجاهل السادات خطة الفريق سعد الدين الشاذلى كذلك تجاهل ياسر عرفات طلب القيادات العسكرية بجعل لبنان ساحة مجابهة مفتوحة مع العدو وتحويلها الى مستنقع صعب وكانت مذبحة صبرا وشاتيلا التي يندى لها جبين الانسانية اولى تبعات الخروج من لبنان( ثغرة بيروت) .
بعد ذلك استفرد اليمين الفلسطيني المرتبط بنهج التسوية بقيادة منظمة التحرير وكانت اتفاقية اوسلو وملحقاتها وما ترتب عليها من ( السلطة/ الجيتو) تحت الاحتلال.
وحين كانت مصر تتعامل مع تداعيات ومتطلبات كامب ديفيد قامت الثورة الايرانية واطاحت بعرش الطاووس الشاهنشاهي راس الحبة الامريكية في جنوب الاتحاد السوفياتي وشرطي الخليج، اعلنت الثورة الايرانية موقفها من الصراع العربي الصهيوني بوضوح ان الكيان الصهيوني كيان مغتصب للحق والوطن الفلسطيني وانه سرطان يجب اجتثاثه من المنطقة وطردت ممثلي السفارة الصهيونية وحولتها الى سفارة فلسطين واعلن الخميني ان يوم الجمعة الاخير من شهر رمضان هو يوم التضامن العالمي مع القدس. كما اعلن ان ايران الجديدة تقف مع كل المظلومين والمستضعفين في الارض بصرف النظر عن دينهم وعرقهم ولونهم. وفيما ايران الجديدة ترتب اوضاعها الداخلية للخلاص من ارث الشاه حرضت امريكا صدام حسين على حرب بالوكالة عنها ضد ايران وبعد ثماني سنوات من الحرب العبثية فشل صدام في تحقيق اي من اهدافه وبقيت الثورة الايرانية متماسكة.
تعرضت ايران بعد ذلك الى حروب من نوع اخر كتأليب الداخل عليها وفرض العقوبات الاقتصادية والحملات الاعلامية المضادة والانشطة المخابراتية والعمليات الارهابية واغتيال العلماء وكلها فشلت في احداث التغيير المطلوب. ان ايران
دولة وشعبا ليست استثناءا عن بقية الدول والشعوب وكما الحال في اي دولة وامة تتكون من عدة طبقات اجتماعية( البرجوتزية ، البرجوازية الصغيرة الوطنية وطبقة الفقراء والمستضعفين) وكل طبقة من هذه الطبقات لها مصالحها التي تتعارض مع مصالح الطبقات الاخرى ولها امتداداتها في الوطن والخارج وتخوض صراعها داخل مجتمعاتها ايديولوجيا وسياسيا وثقافيا واعلاميا. على مدى اربعة عقود من عمر الثورة التي شهدت فيها ايران تداول السلطة من هذه الطبقة او تلك الا ان المحصلة النهائية كانت في صالح قوى السيادة الوطنية والاستقلال الاقتصادي معززا ومدعوما بثورة علمية وتكنولوجية وفتح الجامعات والمعاهد ومراكز الابحاث العلمية لكل ابناء الشعب بالمجان واصبحت مشاركة ايران في الابحاث العلمية كافة ووصلت الى ما نسبته اربعة عشر بالمائة.
عندما جاءت حكومة المعتدلين الى السلطة بقيادة الثنائي روحاني - ظريف كي تتصدى للتحديات التي تواجهها ايران
واهمها الملف النووي وادارتها بحنكة واقتدار وتم انجازه بعد مفاوضات عسيرة ووقعت عليه الدول الدائمة العضوية في مجلس الان بالاضافة الى المانيا وايران صاحبة الشأن وتم ايداعه رسميا لدى هيئة الامم المتحدة. بعد توقيع الاتفاق شد حسن روحاني رحاله الى الغرب عارضا عليه المشاريع المليارية في ايران كصناعة السيارات والبترو كيماويات لالمانيا والتنقيب عن النفط والغاز لفرنسا وطائرات الايرباص الاوروبية وطائرات البوينج الامريكية .. .الخ. ابتهجت البرجوازية الطفيلية التي لا تؤمن بالاقتصاد الوطني والصناعة الوطنية المستقلين الا ان وصول ترامب الى البيت الابيض قلب الاوضاع راسا على عقب وانسحب من الاتفاق النووي الذي وقعت عليه ادارة اوباما وعلى الرغم من بقاء بريطانيا وفرنسا والمانيا في الاتفاق الا انها عجزت عن الايفاء بالتزامتها وانصاعت لاملاءات ترامب والكيان الصهيوني.
بعد رحيل ترامب من البيت الابيض ومجيئ بايدن الذي اخذ يمارس سياسات مغايرة لسياسات ترامب ظاهريا وهي في جوهرها نفس سياسة الدولة العميقة لكن باساليب مختلفة ووعد بايدن بالعودة الى الملف النووي الايراني ملمحا الى رفع العقوبات عن ايران وفي الوقت الذي كانت فيه مفاوضات فيينا وقعت ايران مذكرة التفاهم طويلة الامد مع الصين كمعادل للغرب الذي يحاول ان يكسب ايران الى صفه. ان اتجاه ايران شرقا يشكل خسارة استراتيجية لامريكا لان ايران بموقعها الجغرافي الاستراتيجي الهام الذي تعتمد عليه الصين في مشروع الحزام والطريق العملاق الذي تشكل فيه ايران ممرا ومقرا ومفترقا ومصدرا للمواد الخام والطاقة ومعبرا الى العراق وسوريا الغنيتين بثرواتهما النفطية والغازية. ان امريكا في محاولاتها كسب ايران الى صفها سيجعل ظهر سوريا وحزب الله مكشوفا ايضا وبلا سند او ظهير ويخدم امن الكيان.
اما وقد بدات مفاوضات فيينا لعودة امريكا الى الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن ايران فان الوقت يداهم كل الاطراف المشاركة والمتابعة نظرا لقرب الانتخابات في ايران خلال شهر يونيو / حزيران المقبل. ان عدم عودة امريكا الى الاتفاق ورفع العقوبات عن ايران الذي يسعى اليه ثنائي روحاني - ظريف وفشلهما في تحقيق ذلك يعني عودة القوى الاصولية الراديكالية الى السلطة في ايران والتي ستتخذ مواقف متشددة تجاه امريكا والغرب وتتبنى سياسة اخطر ما فيها انتاج السلاح النووي والمزيد من الدعم بالمال والسلاح والتدريب لقوى المقاومة في لبنان وفلسطين.
وبناءا على ما تقدم فان بايدن يسعى بكل قوة الى احداث ثغرة في ايران عن طريق المفاوضات الجارية في فيينا وفي سبيل تحقيق تلك الثغرة وفي الوقت المحدد الذي بدا ينضب. تجاهلت امريكا كل الاعتراضات والتحفظات والاشتراطات التي صدرت عن الكيان الصهيوني وحلفاءها في الاقليم وحاول الكيان عبر مبعوثيه الى واشنطن ان يعدل في موقف بايدن الا انه فشل وفشلت محاولات الكيان بجر امريكا الى حرب مع ايران التي يعجز الكيان منفردا عن شنها .وامام هذا الموقف الصارم للادارة الامريكية باشرت القوى الاقليمية المتحالفة مع امريكا باعطاء اشارات وتوجيه رسائل فحواها التعاون والتهادن وحسن الجوار مع ايران. امام التناغم الايراني ( المعتدل) كانت تسريبات ما اطلق عليه ( تسريبات ظريف) المهمة في توقيتها وجولة ظريف بعدها على دول الجوار. ان التسريبات وجولات ظريف والوصول الى اتفاق نهائي في فيينا قبل حزيران القادم هو ما تعول عليه ومن خلاله امريكا لاحداث الثغرة (( ثغرة فيينا)) والامساك بالورقة الايرانية مستقبلا.
هل هذا ممكن؟
للاجابة على هذا دعنا نعود الى مصر كان سهلا على امريكا التوصل الى معاهدة كامب ديفيد لان المرجعية السياسية وكامل الصلاحيات كانت بيد الرئيس السادات هو المفاوض والمشرع والمنفذ. كذلك الحال في منظمة التحرير الفلسطينية حيث جمع ياسر عرفات كل الصلاحيات والسلطات في يده فكان هو المرجعية السياسية والتشريعية وكان هو اللجنة التنفيذية والمجلس الوطني ( حين الغى الميثاق الوطني بكلمة واحدة صدرت منه حين قال " كادوك" ) ووقع اتفاق اوسلو وملحقاته.
اما في الحالة الايرانية فالمسألة صعبة جدا وشديدة التعقيد حيث ان الدولة العميقة والمرجعية في ايران ليست بيد الحكومة ولا بيد البرلمان ولا مصلحة صيانة الدستور ولا تشخيص النظام انها بيد المرشد الاعلى الممسك بكل الخيوط وهو راس الهرم الفعلي. لم يمانع المرشد العودة الى المفاوضات بشان الملف النووى في فيينا ولكنه حدد سقفا زمنيا وشرطا رئيسيا لا يمكن لاحد الخروج عليه او تجاوزه وهو رفع العقوبات بالكامل واخضاعها للتجربة والتنفيذ عمليا وتعويض ايران عن الخسائر التي نجمت عن خروج امريكا من الاتفاق.
نحن الان امام مفاوضات فيينا الاشد تعقيدا من مفاوضات باريس بين امريكا وفيتنام وان اطرافها امام استحقاقات لها تداعياتها الاقليمية والدولية ام ان تنجح امريكا باحداث الثغرة او تسلم بالامر الواقع الذي باتت تفرضه ايران مدعومة من روسيا والصين والذي سيقضي على كل ما حاولت امريكا ان تحققه من غزوها لافغانستان والعراق وحربها الارهابية على سوريا وان خروجها من المنطقة صار قريبا وهي بكل الاحوال ذاهبة الى الباسيفك لملاقاة التنين الصيني.
نلاحظ الان تسارع القوى الاقليمية الى مراجعة حساباتها وترتيب اوضاعها كي تتلائم مع المتغيرات المقبلة ونسمع خطابا اعلاميا جديدا يدعو الى حسن الجوار والسلام ونبذ الارهاب. نامل ان يحل السلام بدل الخصام وتشابك المصالح الاقتصادية والثقافية بدل الاشتباك وكلنا امل ان يعم السلام والامن والامان والتقدم والعمران والازدهار في اوطاننا. وما احوجنا الى هذا بعد عناء السنين وفتك جائحة الكرونا بملايين الناس.