كتب الكاتب موسى عبّاس:
وتأتي ذكرى تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب من العام 2020 دون تحقيق أي بصيص أملٍ في كشف حقيقة ما جرى ، ولو على الأقل الوسيلة التي أحدثت التفجير ، إن كان بفعلٍ متعمّد على يد عملاء الصهاينة أو بفعلهم مباشرةً ، أو اذا كان السبب إجراء عمليّات تلحيم لإحدى البوابات كما أُ شيعَ بدايةً أدّى الشرار المتطاير إلى وقوع الكارثة التي حوّلت المنطقة ومحيطها إلى دمار زلزالي وإلى سقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى .
ويبدو أنّ عدم الكشف عن التقارير التي أصدرتها اللجان الأمنيّة المعنيّة بالتحقيق محليّة وأجنبيّة ومن بينهم أمريكيون وفرنسيّون يهدف عمداً إلى إبقاء الغموض
حول المسألة بهدف إبقائها وسيلة من وسائل الضغط على الشعب اللبناني لتحقيق غايات بات القاصي والداني يعلمها.
هذا هو لبنان الذي بات مرتعاً ومسرحاً لتجار السياسة الذين يتحكّمون بطوائفهم منذ عقود خلت من الزمن، أؤلئك الزعماء الذين لا يعرفون أبناء مذاهبهم سوى فقط عندما تتعرض مصالحهم لخطر التناتش من باقي شركائهم في المحاصصة أو حين يأزف موعد الإنتخابات النيابية.
-التحكُّم في نظام الحُكم بعد إتفاقية الطائف؟"
رغم كلّ ما جرى على اللبنانيين من مصائب ونكبات منذ تأسيس الكيان اللبناني ومنحه استقلالاً ممسوخاً قام على المحاصصة الطائفية وكرّسه من تولوا مسؤولية الحكم من زعماء الطوائف لا سيّما بعد "اتفاقية الطائف"، رغم كلّ ذلك إلاّ أنّنا نحن الشعب اللبناني لم نتعلّم الدرس الذي كان يجب أن نحفظه غيباً منذ ثلاثين عاماً ،ولا سيّما في المناطق التي تتحكّم فيها فعليّاً أحاديّة الزعامات السياسية والدينيّة أفراداً أو ثنائيًا ،مع وجود شخصيّات في تلك الطوائف والمذاهب ليس لها ذلك التأثير الفعّال أو الدور المؤثّر في مجرى الأحداث لإحداث تغيير سياسي أو إجتماعي على الكيان الطائفي والمذهبي الذي ينتمون إليه، علماً أنّ بعض تلك القيادات قد تنتمي إلى أحزاب وطنيّة لعبت في السابق دوراً هاماً في الأحداث التي مرّ فيها لبنان أو في مناطقهم على الأقل، والدرس المقصود هو السعي إلى تغيير الواقع من خلال تجديد القيادات وليس التجديد لها كما هو قائم.
إنّ إتفاقيّة الطائف التي تهرّب زعماء النظام المذهبي من تطبيق أهم بند فيها وهو "إلغاء الطائفية السياسية" ، فتحّول الحكم إلى سيطرة " الترويكا" المذهبية على مفاصل الدولة وإداراتها وذلك عبر أشخاص يتلبّسون لباس الحضارة والمدنيّة بينما هم في غالبيتهم "شبّيحة حكم "، لذا من الصعب جدّاً أن يعرف اللبنانيون في المنظور القريب أو المتوسّط الأجل شكل بناء الدولة الديمقراطيّة بمفهومها الحقيقي المبني على الحقوق والحرّيات وعلى المساواة والنزاهة وتكافئ الفرص وتداول السلطة.
ما أشبه واقع لبنان اليوم بواقع بلاد الأندلس في زمن حكم ملوك الطوائف ، فقد تحوّلت الطائفية فيه إلى جوهر الدولة وأساسها، حيث تمّ تبني نظام حكم قائم على احتكار جماعات معيّنة للسلطة واستغلال الدّين والمذهبيّة لأجل استقطاب الولاءات الشعبية، فأصبحت المذهبية وسيلة استثماريّة من جانب القوى السياسية الحاكمة استخدمتها في السابق وتستخدمها حاليّاً بشكل أقوى في صراعاتها على السلطة وللحفاظ على المناصب ، إلى جانب الإستقواء بدول اقليمية وأجنبيّة بهدف تحقيق مصالحها، ولم يتورّع البعض عن الإستقواء بدول معروفة بعدائها الشديد لمصالح لبنان ومصالح شعبه بل على العكس سعت وتسعى لتدمير مراكز القوّة التي تحافظ على حماية البلاد ، فضلاً عن تدميرها لقواه الإقتصاديّة والمالية ومنعه من استخراج ثرواته النفطية البحرية.
-فشل الإنتفاضات والثورات .
في السابع عشر من تشرين الأول من العام 2020 شهد لبنان انتفاضة شعبيّة ضد نظام المحاصصة الطائفية، حدثت تلك الإنتفاضة التي جمعت الآلاف من مختلف الطوائف والمذاهب كرغبة عارمة من غالبيّة الشعب اللبناني في اسقاط نظام المحاصصة القائم على" الرَيْعْ وتقاسم السلطة والثروات"، لكن ما حدث هو أنّ غالبيّة الشعب الذي كان مسانداً ومؤيّداً انقسم على ذاته بعد أقل من أسبوع على بداية الإنتفاضة وضاع الأمل في التغيير وذلك لأسباب أهمها:
- فشل الإنتفاضة في إبراز قيادة واعية وحكيمة تستلم زمام قيادة الأمور وتمنع دخول المخرّبين وتحُول دون شرذمتها.
- دخول بعض السفارات الأجنبية والعربية
( الأمريكية والبريطانية والسعوديّة والإماراتيّة ولاحقاً التُركية) عبر سفرائها ومخابراتها على خطّ الإنتفاضة فأدخلت بين صفوف المنتفضين مثقفين واعلاميين وفنّانين ورجال دين مدعومين بملايين الدولارات بهدف حرفها واسقاط الشعارات التي رفعتها وتحويلها باتجاه شعارات تطالب باسقاط سلاح المقاومة، فضلاً عن السعي لإفتعال أحداث تُنذر بإشعال فِتن طائفية ومذهبية.
- وقوف الزعامات التقليدية السياسية والدينية بكلّ قواهم ضد المطالبة بالتغيير وسخّروا نفوذهم لأجل إفشالها.
-محاصرة الغالبية العظمى من الشعب اللبناني اقتصاديّاً وماليّاً من قبل تحالف حاكم مصرف لبنان وأصحاب المصارف بتغطية من كبار الزعامات السياسية والدينية الذين نهبوا الأموال العامة والخاصّة وهرّبوها إلى الخارج الأمر الذي بات معه أكثر من 80 بالمئة من هذا الشعب تحت مستوى خط الفقر .
-هل من إمكانيّة للتغيير في النظام؟
إنّ النظام الطائفي المُغلق لا يُمكِن أن يكون مساوياً للديمقراطية فضلاً عن أنّه يمنع التقدّم الإجتماعي،على عكس ما أيّده ونادى به "دكتور ألبير داغر"مؤلّف كتاب "حول بناء الدولة في لبنان" الذي أورَد أمثلةً عن مجموعة كتّاب غربيين يؤيدون مثل هذا النظام، لأنّهم هم أصلاً لا يقبلون به ويرفضونهُ في بلادهم بل يريدونه في الدول الفقيرة في ما يطلق عليه"دول العالم الثالث"ليسهُل للغرب التدخل حيث يريدون لتحقيق مصالحهم السياسية والإقتصادية،
فقد كانت تتحكّم الطائفية وزعماء الطوائف في بلاد الهند إلى أن تولى " جواهر لال نِهرو" "رئاسة الوزراء في الهند في العام 1947 فأحدث ثورة مجتمعية لإلغاء النظام الطائفي ونجح فيها ورضخ الغرب وعلى رأسهم دولة الإستعمار الكبرى "بريطانيا" واعترفوا بتلك الثورة .
كذلك فإن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لجأوا إلى اصدار قوانين تساوي بين أجناس وألوان البشر منعاً لنشوب حروب أهلية عنصريّة.
ختاماً ، لو كان النظام الطائفي التوافقي في لبنان أو في غيره يؤمّن الإستقرار للمجتمع وللبلاد لما حصلت الحروب الأهلية ودورات العنف والخوف المستمر من قيامها كلّما وقعت حادثة مُخطّط لها أو عَرضيّة كما نشهد باستمرار في لبنان، وهذا يؤكّد أنّ النظام الطائفي يقود البلاد إلى الإنهيار المُدمِّر ، وذلك لأنّ ما تسعى إليه كلّ طائفة قد لا تقبل به طائفة أخرى ، في الوقت الذي تتّحد فيه غالبية زعامات الطوائف السياسية والدينية في مواجهة أي مُطالبة بقيام الدولة المدنيّة أو دولة المواطنية ولأجل ذلك تمنع تغيير القوانين التي تمنع التغيير في الأحوال الشخصيّة.
لذا لا حلول لأزمات البلاد المتتالية منذ عشرات السنين والتي وصلت إلى ما وصلت إليه حاليّاً (شعب في غالبيته على شفير مجاعة يتم مداواتها بمهدّئات تُعطى وتُمنح في الغالب للمحسوبيات عشائريّاً وعائليّاً واستنسابيّاً )، لن يُعالج ذلك إلّا من خلال إلغاء الطائفية السياسية وقيام قانون انتخابي على أساس النسبية المُطلقة على كامل الأراضي اللبنانية ينتج عنها مجلس نيابي غير مذهبي يجعل همّه الأوّل تحديث الدستور والقوانين ، وليس كما في القانون الذي جرت على أساسه الإنتخابات السابقة(النسبية المجتزأة) الذي كرّس الزعامات المذهبية بسبب التحالفات التي فُرِضت لا سيّما في المناطق التي تعاني من الفقر والحرمان أو ما يُسمى "مناطق الأطراف".