كتب الأستاذ حليم خاتون:
في ذلك المساء، وكما كانت العادة، تكلم قائد الأمة العربية ورئيس كل العرب بإجماع جماهيري منقطع النظير، الرئيس جمال عبد الناصر...
لم يحتج الرئيس عبد الناصر الى أكثر من بضعة كلمات...
"منذ ايام،" قال الرئيس ثم أضاف، "منذ أيام، تقف أمام السواحل الأميركية الباخرة المصرية كليوباترا المحملة بالقطن المصري المورد الى اميركا لصالح بعض التجار وبعض المصانع الأميركية...
بضغط من النقابات التي يسيطر عليها الصهاينة، وبدعم كامل من الحكومة الأميركية، ترفض سلطات الموانئ الأميركية إفراغ الباخرة المصرية من حمولتها إلا إذا وافقت الجمهورية العربية المتحدة (وهو الاسم الذي احتفظت به مصر لنفسها بعد مؤامرة الانفصال السورية)؛ إلا إذا وافقت الجمهورية العربية المتحدة على إلغاء كل قوانين المقاطعة العربية لإسرائيل..."
كل ما فعله رئيس كل الأمة العربية، هو إخبار الأمة بما حدث للباخرة المصرية كليوباترا...
في اليوم التالي، كانت كل البواخر الأميركية المحملة بالبضائع الى معظم البلاد العربية والاسلامية تحاول دون جدوى الدخول الى تلك الموانئ...
قرر عمال وموظفو تلك الموانئ العربية أن قشة واحدة لن يتم إفراغها... إلا إذا أُفرغت حمولة الباخرة المصرية كليوباترا...
لم يختلف مرفأ بيروت عن أي مرفأ عربي آخر...
جن جنون رجل اميركا وبريطانيا في لبنان، كميل شمعون، ورجل الغرب بامتياز، الشيخ بيار الجميل...
أعطى الإثنان الأوامر باقتحام الجيش لمرفأ بيروت وإفراغ البواخر الأميركية بالقوة...
أصدر الضباط الأوامر... لكن الكثير من الجنود رفضوا التنفيذ...
وصل الخبر إلى أهالي بيروت، يوم كانت بيروت عاصمة العروبة الناصرية... ولم يكن رجس مملكة الخير قد وصل إلى أهلها واستباح شرفها...
ما هي إلا ساعات حتى كان أهالي بيروت يحاصرون المرفأ ويؤازرون العمال والموظفين الذين يرفضون إفراغ البواخر الأميركية قبل حل مشكلة الباخرة المصرية كليوباترا...
مقابل باخرة مصرية حرة واحدة تجمدت عشرات البواخر الأميركية...
نتف المسؤولون الاميركيون شعرهم... دون جدوى...
أخيرا، رضخت اميركا وتم إفراغ الباخرة كليوباترا دون أي تراجع عن قرارت المقاطعة العربية لإسرائيل...
في تلك الأيام، كان الرئيس عبد الناصر هو الذي يوبخ زعماء الدول الرجعية ورؤساء الدول الإستعمارية، ولا يجرؤ حتى رئيس اميركا على رفع صوته في حضور عبد الناصر كما يفعل هذه الأيام اصغر موظف في وزارة الخارجية أو الدفاع أو المال حين يوبخ ملوكا ورؤساء ويقول فيهم ما لم يقله جرير في أقل العبيد شأنا ومرتبة...
في تلك الأيام، وقف سفير الجمهورية العربية المتحدة في الأمم المتحدة، ووجه صفعة إلى وجه السفير البلجيكي الذي قامت حكومته بمعاونة الإمبريالية الأميركية باغتيال القائد الإفريقي الكبير ورئيس وزراء الكونغو المنتخب باتريس لومومبا...
هكذا كان سفراؤنا، وهكذا كان رؤساؤنا...
لا كان أمثال فيلتمان ولا أمثال شيا، ليجرأوا على فتح أفواههم حتى للتنفس... كما فعلوا وكما يفعلون اليوم...
بعد.طول رجاء...
وبعد طول صبر...
وبعد أن طفح الكيل، خرج السيد نصرالله ليعيد تصويب الأمور...
ما قاله أول أمس قائد المقاومة
الأسلامية في لبنان يرقى إلى مستوى تلك الأيام المجيدة...
لقد كان الناس بانتظار تنفيذ المقاومة بوعودها لجهة عدم السماح بتجويع الناس وإذلالها...
لكن السيد نصرالله لم يكتف بإعلان بسيط يعلن فيه البدء باستيراد النفط من إيران الى لبنان...
ما فعله السيد، هو رفع اصبع المقاومة إعلانا لفيتو في وجه اميركا وإسرائيل والسعودية والإمارات وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكل من تسول له أن نفسه أن يستصغر شأن هذه الأمة... بعد اليوم...
ما فعله السيد نصرالله، هو رفع مستوى التحدي من مجرد حاجات استهلاكية يحتاجها لبنان، إلى مسائل استراتيجية سوف تغير وجه الشرق الأوسط بالكامل...
كانت كلمات السيد واضحة وضوح الشمس حين أضاف العبارة التالية:
إن هذه السفن التي تحمل نفطا إلى لبنان، هي أرض لبنانية.
الرسالة واضحة...
السيد نصرالله يعلن الحرب على أي كان قد يتجرأ ويحاول التحرش ولو بسفينة واحدة من هذه السفن...
تحدث السيد عن هروب الأميركيين من سايغون... وأضاف إلى هذا الهروب الكبير هروبا أكثر إذلالاََ من أفغانستان...
بشّر السيد اميركا وكل اتباعها على اختلاف احجامهم وادوارهم، أن ما حدث في كابول، سوف يتكرر في بيروت، ومن سطح السفارة في عوكر تحديدا...
لقد طفح الكيل...
انتهى زمن الصبر...
وجاء وقت الفلاح وخير العمل...
لم يعد حزب الله بتلك السذاجة والبساطة التي كانت بُعيد اغتيال رفيق الحريري، يوم سمح تحت ضغط الفتنة المذهبية لبضعة عملاء من أمثال مروان حمادة وفؤاد السنيورة باللعب خارج المربع المسموح اللعب داخله...
ويوم سمح لأبناء الحريري ووليد جنبلاط بعرض مسرحية المحكمة الدولية مع كل المساوئ التي تحويها...
انتهى ذلك اليوم الذي يدخل فيه صعلوك اسمه ميليس، يقوم باعتقال ضباط كل ذنبهم كان أنهم لم يطأطأوا الرؤوس أمام جبروت الغرب ومزاجيته في تركيب القوانين على هواه...
أول أمس، قال حزب الله كلمته، إذا كان لا بد من الحرب المفتوحة... فلتكن الحرب المفتوحة...
في النهاية، حرب تموز ال٢٠٠٦ لم تكن ضد إسرائيل وحدها...
وراء إسرائيل كانت اميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكل الحلف الاطلسي، وفي خدمة هؤلاء، وتحت أرجل هؤلاء، كانت السعودية والإمارات والبحرين والنظام المصري وملك الاردن...
وخلف كل هؤلاء كان الصمت الرهيب لما يسمى مجتمعا دوليا بما في ذلك روسيا والصين والهند وكامل مجلس الأمن...
كان الكل ينتظر ذبح المقاومة اللبنانية ليتم بعد ذلك ذبح أي مقاومة ممكن أن ترفع صوتها في فلسطين أو في أي قطر عربي...
كانت اميركا تعلن سيادتها النهائية على كل ما يدور تحت الشمس، وخلف هذه الشمس...
العالم كله كان صاغرا خائفا، باستثناء بضعة آلاف من رجال الله كانوا قد قرروا أن هيهات منّا الذلة...
كان تقرير فينوغراد صادقا جدا عندما قال إن بضعة من تنظيم مسلح استطاعوا إلحاق الهزيمة بأقوى الجيوش في الشرق الأوسط وأكثرها سلاحا متطورا وتقف خلف هذا الجيش اقوى الدول العظمى،وتحني دول أخرى رأسها خنوعا....
كل هؤلاء مرّغ أنوفهم في الرمال حزب الله في لبنان...
أول أمس، أعلن السيد أن حزب الله قد بلغ سن الرشد...
من الآن وصاعدا، لن يصبر أكثر على إيذاء شعبه...
لقد ولى زمن الصبر، وحان زمن الانتصارات الآتية...
إذا تجرأ حلف الاطلسي أو الصهاينة... ستكون الحرب التي لا بد منها...
وإذا ابتلعوها، سوف تكون الهزيمة المرة دون أن يبذل الشباب المؤمن ما عاهدوا الله عليه...
في الحالتين، المقاومة منتصرة...
وأهم من ذلك كله أن لهذا النصر
في الداخل اللبناني أثمان يجب أن تُدفع....
نحن لم نعد بُعيد التحرير سنة ٢٠٠٠...
لم يعد بمقدور المقاومة العفو عن العملاء والمرتكبين...
لم نعد في زمن عفى الله عما مضى...
الخطوة الجبارة التي خطاها حزب الله اول من امس يجب أن تتبعها خطوات لا تقل أهمية...
مجرد اعلان إبحار السفن، هو إعلان لنصر سوف يتحقق بإذن الواحد الأحد...
من غير المسموح جلوس المقاومة على طاولة واحدة مع الفاسدين بعد اليوم...
آن أوان بناء الدولة القوية العادلة...
ما فعله سيزار معلوف ليس سوى نقطة من بحر ما سوف يفعله كل مواطن يرى الحقائق أمامه تُرسم بوضوح...
صحيح أن قوة حزب الله حتى اليوم تنطلق من آفاق وأسس ودعم شيعي...
لكن الصحيح أيضا أن لهذا الحزب اليوم أتباع في العالم السني لا يقل عددا عن الشيعة... يكفي أن شعب فلسطين لم يعد يرى نصيرا له في هذا العالم إلا في إطار حزب الله...
كذلك مسيحيو هذا المشرق واقلياته...
لم تنس سوريا، كما لم تنس معلولا سواعد من حررها من طغاة العصر الحجري من أكلة لحوم البشر...
سوف يتكلم سيد المقاومة بعد غد الأحد...
سيد المقاومة الذي يرفض الإسقاطات التاريخية أحيانا...
عليه إعادة قراءة سقوط قرطاجة...
قام هنيبعل ببناء أحد أكبر الجيوش في العالم لإنهاء الصراع الابدي الذي كان يجري بين القوتين الكبيرتين على البحر المتوسط:
روما وقرطاجة.
زحف جيش هنيبعل على روما عبر جبال الألب من حيث لا ينتظر شعب روما...
كان رد روما استباق هجوم هنيبعل بهجوم مباشر على قرطاجة نفسها...
أُسقط في يد هنيبعل وخسر الحرب حتى قبل أن تبدأ وسقطت قرطاجة في يد روما...
أمس، كما عشرات ومئات المرات، اغار الطيران الصهيوني على دمشق...
تصدت الدفاعات الجوية السورية، وأسقطت معظم الصواريخ الصهيونية "قبل أن تصيب اهدافها...
هذا ما نقلته وكالات الأنباء...
هذا ما صرح به الناطق السوري...
لكن الذي كان يجب أن يحدث، هو أن يتم الرد على كل صاروخ صهيوني يستهدف دمشق أو حمص أو اللاذقية، بصاروخين يستهدفان تل أبيب وحيفا وكامل القدس الغربية...
قد يخرج من يسرد قصصا عن إدلب وإردوغان...
كل هذا له جواب واحد...
في الثمانينيات حشد الاتراك وبدعم من اميركا الجيوش التركية من اجل غزو سوريا...
هل تعرفون ماذا كان رد فعل الرئيس الراحل حافظ الأسد؟
سحب الرئيس الأسد كل الجيوش السورية من الجبهة التركية إلى الحدود مع فلسطين...
قراره كان أن يبدأ الحرب ضد الصهاينة بمجرد أن يدخل اول جندي تركي إلى الأراضي السورية... وليتحمل النظام التركي وصمة العار التي سوف تلحق به...
قرار السفن الإيرانية المحملة بالنفط... هو قرار تصعيد استراتيجي... انتهى بالنصر حتى قبل أن يبدأ وبغض النظر عما سوف يحدث... مهما كانت ردة الفعل، نحن منتصرون...
قرار حافظ الأسد في الثمانينيات حشد الجيوش السورية على حدود فلسطين كرد على الغزو التركي... انتهى برد الغزو التركي حتى قبل أن يبدأ...
في الحالتين، البوصلة واحدة...
فلسطين....
عندما تكون البوصلة فلسطين لا بد أن ننتصر مهما بلغ جبروت المحور المقابل...
لذلك نحن سوف ننتصر...
المهم أن لا نتسامح مع العملاء والفاسدين ونعمل على بناء الدولة القوية العادلة العابرة لكل الطوائف والمذاهب، تماما كما كانت الدولة التي أراد ابن ابي طالب بناءها...