كتب الأستاذ حليم خاتون:
المعروف عن وليد جنبلاط أنه رجل الوقوف على التلة واتخاذ المواقف حسب اتجاه الرياح...
اللبناني، صاحب مقولة " مين ما اخذ أمي، بقله يا عمي"، معجب بسياسة وليد جنبلاط الذي لا يعرف احد ماذا يدور في رأسه إلا رنين النقود والسلطة الذي يتحكم بهذا الرأس ويقوم بتوجيهه...
وليد جنبلاط يميني يقف مع الإمبريالية والرجعية العربية...
يلتقي مع فيلتمان... وحتى مع بيريز... يعلن الثورة على أولياء نعمته في زمن الوصاية السورية على لبنان... يطوطح بعلم الإستعمار الفرنسي في الجبل، ويتمنى أن يكون زبالا في نيويورك، في الأمس القريب...
هو نفسه وليد جنبلاط، رئيس الحركة الوطنية اللبنانية، وحليف منظمة التحرير الفلسطينية والمعسكر السوفياتي في الأمس الأبعد...
كل هذا في خلطة غريبة بين الأممية الإشتراكية الثانية والأممية اللينينية الثالثة، خلطة لا يشبهها سوى خلطة رجل الإقطاع السياسي العقاري، مع الرأسمالي الذي يمتص دم اللبنانيين عبر صناعة الإسمنت وتجارة المحروقات الإحتكاريتين..
المبدئية الوحيدة عند وليد جنبلاط هو تغيير المواقف بدرجة ١٨٠، دون أن يُصاب بأي نوع من الدوار...
رغم كل غرابة مواقف بيك المختارة، تبقى حقيقة ثابتة:
إن هذا الرجل لا مبادئ ثابتة عنده... بما في ذلك خيانة أهم مبدأ قد يسمح للطائفة الدرزية بالتنفس،..
إقامة نظام الدولة المدنية
أما برنامج الحزب التقدمي الاشتراكي، فهو ببساطة:
وحدة مصالح البيك والحزب والطائفة...
للأمانة، يعتبر وليد جنبلاط مجرد النموذج الأكثر سطوعا لكل الرجالات والأحزاب اللبنانية...
لا تختلف الأمور كثيرا في حزب الكتائب أو القوات أو المستقبل أو المردة أو أمل أو...
هؤلاء جميعا ليسوا أكثر من مجموعات شعبية لبنانية انتهازية فاسدة بالطبيعة أو بالتطبّع... قلة فرق...
اليسار، من شيوعيين وقوميين سوريين وناصريين... منهم من انضم إلى قافلة السلطة الفاسدة، ومنهم من لم يُسمح له بالدخول اصلا...
لكن، شئنا أم أبينا، خرجت إلى النور ظاهرة لا زالت تثير الإعجاب في أمور... كما تثير الاستهجان والقرف في أمور أخرى...
إنها ظاهرة المقاومة الإسلامية التي خرجت لتتصدّى للإحباطات
التي نتجت عن عصر الهزائم من جهة وعصر الإستسلامات المتلاحقة التي بدأها محمد انور السادات ولم ينهها بعد محمود عباس، بطل تصفية المناضل نزار بنات بالأمس، واعتقال المناضل خضر عدنان منذ يومين...
اسهل الف مرة الطلب إلى "القحبة" أن تُقلع عن العهر... من الطلب الى سلطة عميلة وتابعة أن تُقلع عن الوجه الحقيقي للعهر في هذه الحياة...
أربعة عقود مرت منذ أن بدأ بعض الشباب المؤمن بتأسيس الخلايا الأولى لما سوف يصبح معروفا قريبا، بخلايا المقاومة المسلمة...
للرد على قرارات ياسر عرفات باعتماد سياسة الإنسحاب دوما أمام الهجوم الصهيوني...
فرض بعض المناضلين في قلعة الشقيف، ومن ثم في خلدة سنة ٨٢ ما سوف تصل أصداؤه إلى موسكو ودمشق وطهران...
فبدأت حركة تاريخية ما كان بالإمكان وقفها...
مقاومة مسلمة تستند إلى فكر استشهادي ضارب في التاريخ...
البحث في جذور هذا الفكر سوف يؤدي إلى مأزق ليس من السهل مواجهته إذا لم نتملك الجرأة على هذه المواجهة...
سرعان ما انتقل هؤلاء المقاومين من مرحلة العفوية النضالية الى مرحلة التنظيم النضالي...
وُجد هؤلاء في بيئة احتلال وخيانة وانهزامية مجتمعية مقيتة...
أغلب هؤلاء كان ينتمي عقائديا إلى حزب أهل بيت النبي...
لذلك، كان من الطبيعي أن يحلموا ليس فقط بالتحرير، بل أيضا بإقامة دولة إسلامية... في مجتمع لبناني تعددي...
اصطدم هؤلاء ليس فقط مع المختلفين عنهم في العقيدة؛ اختلفوا حتى مع من يماثلهم العقيدة ولكنه كان قد اندمج مع سلطة اتحاد سلطات الطوائف...
اصطدم هؤلاء حتى مع امل التي لم تستطع هضم وجودهم لأكثر من سبب...
فهم يمثلون فكر امل الأول قبل تخليها عن خط الثورة لصالح خط "الدولة!" الطائفية المسخ، والذي تكرس بدخولها إلى النظام اللبناني رغم عدم وجود أية إمكانية حياة لهذا النظام خارج المحاصصة والفساد والتبعية...
منذ أربعة عقود، خرج حزب الله ببرنامج يدعو بعفوية إلى تأسيس جمهورية إسلامية في لبنان... على نسق الجمهورية الإسلامية في إيران... رغم أنه ما يحمل في ثناياه ايضا فكرة نقيضة الدولة الإسلامية...
فكرة الدولة المدنية
كما تمت الإشارة أعلاه، اصطدم هذا الموقف مع مواقف الكثيرين في المجتمع اللبناني التعددي...
وجد حزب الله نفسه في وضع جعل هو نفسه منه وضعا مأزقيا...
حزب الله اراد استقطاب حب الناس إليه إنطلاقا من النقاء الفكري عنده، لذلك لجأ إلى التخلي عن فكرة الدولة الإسلامية، على الأقل في الأدبيات العامة...
لكسب حب الجموع التعددية أخفى هدف إقامة جمهورية إسلامية... ولنفس السبب لا يترك فرصة إلا ويؤكد فيها زهده في استلام السلطة... رغم أنه متواجد فيها ويتحمل كل موبقات هذا التواجد...
هنا كانت الضربة القاضية...
لأن الحزب لا يريد التخلي فعليا عن فكرة الدولة الإسلامية، وفي الوقت نفسه يخاف من التبني العلني لهذه الفكرة، سرعان ما وجد نفسه يفصل بين الثورة والدولة في اغرب عملية انفصام في التاريخ...
إذ أن من حقه أن يحلم "بجمهوريته الفاضلة" ويقوم بطرحها ويتلقى النقد الكافي إما لتطويرها أو حتى لرفضها ضمن احترام حقوق الآخرين...
إذ أن الجمهورية الإسلامية التي آمن هو بها هي قطعا بعيدة كل البعد عن الدولة الإسلامية الأوتوقراطية التي يحملها السلفيون أو الٱخوان أو مفرزاتهم من التكفيريين...
وجد الحزب العزاء في وضع التحرير الوطني والدفاع عن المقدسات في سلم الأولويات مقابل التخلي عن فكرة الدولة الإسلامية...
إلى أي مدى كانت مقاربة الحزب لهذا الأمر صحيحة؟
يبدو أن التاريخ بدأ في الإجابة..
حزب الله نشأ داخل دولة ليس فيها أية مقومات قيام دولة...
ما يسمى زورا بدولة لبنان الكبير هو في الحقيقة مجرد اجزاء من بلاد الشام اقتطعها الاستعمار الفرنسي حين حاول تقسيم شعب هذه الأرض إلى دولة درزية ودولة مسيحية واحدة على الاقل، ودولتان سنيًتان ودولة علوية...
رفضت كل تلك المناطق في سوريا المعاصرة سياسة التفريق وأقامت وحدة فيما بينها مكرسة
ظهور الجمهورية العربية السورية...
أما في لبنان، الكل يعرف أن الجنوب والشمال والبقاع وبيروت كانت تتبع لسوريا الكبرى الطبيعية...
قام الفرنسي بضم هذه الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان لخلق دولة مسيحية تتآخى وتتكامل مع الكيان الصهيوني في سبيل منع إقامة أي كيان في هذا الشرق له مقومات قيام دولة حيث بلاد الشام، وبلاد ما بين النهرين ومصر هي البلاد الوحيدة التي تحوي إمكانية وجود هذه المقومات، تاريخيا واجتماعيا...
وبما ان الحزب كان قد وضع لنفسه أهدافاً وطنية تستند إلى حقائق تاريخية هي أكبر من دولة
يمكن ببساطة القول أن حزب الله هو اكبر من الدولة التي يتواجد فيها.... في بلد لم يكن، ولا يستطيع ان يكون دولة بالمعنى الفعلي للأمور، إلا إذا أقام روابط مع بقية دول الإقليم...
أكيد أن حزب الله لا يكذب حين يقول انه لا يريد لعب دور السلطة،
لكن الصحيح أيضاً، هو انه يجد نفسه مجبرا على القيام بمهمات كان من المفروض على السلطة الحاكمة ان تقوم بها لو كان عندها أي مقومات من مقومات الدولة....
في البدء كان واجب التحرير...
لم تستطع السلطة في هذا البلد بناء جيش وطني أو سياسة وطنية تقوم بأبسط الامور التي يجب ان تقوم بها أي سلطة...
كانت دوما ولا زالت حتى اليوم عاجزة امام أي مهمة دفاعية...
بالتأكيد، كان لوجود الجمهورية الإسلامية أهم الأثر في تبلور الفكر الدفاعي، ثم التحريري لحزب الله...
لكن الحزب الصدامي في مسألة التصدي لإسرائيل، ظل فترة طويلة متقوقعا في سياسة توافقية يسميها اللواء جميل السيد والوزير شربل نحاس، سياسة أبو ملحم في محاولة جمع الأضداد، أو محاولة التوفيق بين الفاسدين والسارقين... سياسة تبويس اللحى...
طويلا حمل حزب الله فكرة الصبر والبصيرة، في محاولة تجنب اتخاذ مواقف ضد اللصوص والفاسدين في المجتمع...
مرة أخرى ربما، شكرا اميركا، شكرا للغرب... وشكرا للرجعية العربية...
هؤلاء لم يملّوا واستمروا في محاولة ضرب المقاومة بشتى الاساليب...
في كل مرة هم يحاولون، يضطرون المقاومة ان تمشي خطوة إلى الأمام في التصدي والتحدي...
منذ اندلاع الأزمة والحزب يضطر مرغما، وفي كل مرة إلى الحلول مكان السلطة العاجزة عن ابسط المهام...
يحاول الحزب كسر الحصار عن لبنان، وكسر الحصار لا يمكن ان يجري بباخرة أو اثنتين أو حتى بضعة بواخر...
هل سوف يتراجع الحزب ويقبل
بمجيء البواخر إلى لبنان عبر سوريا؟
هل يمكن كسر الحصار بوجود سلطة عميلة أو متواطئة؟
ماذا إذا وصلت البواخر ورفضت السلطات الرسمية اللبنانية شرعنة دخولها إلى لبنان؟
السيد تحدى الكيان، وتحدى أميركا... إذا، قريبا سوف يُجبر الحزب، أو تُجبر السلطة على اتخاذ موقف من الحصار الأميركي...
هل سوف نكون في ظروف مواجهة بين مقاومة اكبر من دولة وسلطة تابعة هزيلة لم تقف يوما موقفا مشرفا... بل كانت دوما عميلة ومتعاملة مع الغرب الذي يحضن عدو الأمة الوجودي؟
لم تكن خطوة المقاومة هذه سوى حلقة في مسلسل لن يتوقف عن التجذر كل يوم أكثر...
في حديثة الأخير، خطا السيد نصرالله خطوة أخرى حين هدد
بالانتقال إلى سياسة التنقيب...
يبدو أن حزب الله قد اقترب أكثر وأكثر من وضعية الاشتباك الفعلي مع الأميركي...
مرة أخرى شكرا أميركا...
اصرار الأميركيين سوف يؤدي بحزب الله الى الأقتناع بأن هذه السلطة أعجز من أن تدافع حتى عن أبسط الحقوق...
في النهاية لن يكون هناك من بد لعزل هذه السلطة الصورية وإيجاد أطر أخرى لإعادة بناء سلطة جديدة تكون على قدر المسؤولية...
إلى يوم الجمعة،
ماذا سوف يعلن الحزب...؟
ماذا سوف تكون الخطوة الجديدة بالتحديد ؟
يبدو أن الحزب يسير، حتى لو كان رغما عن إرادته، بإتجاه كسر أمريكا في لبنان وفي المنطقة..
أنتهى زمن الصبر
وجاء زمن التحدي...
صحيح أن الكل يلعب وفقا لأجندته...
عون يمشي بالمغامرة إلى حد حافة الهاوية مستندا الى أن هذه النهاية سوف تنهي اتفاق الطائف إلى الأبد...
وميقاتي ومن يمثل، يأخذ نفس المنحى، لاعتقاده أن هذا النوع من اللعب سوف يكرسه خليفة لرفيق الحريري في الملعب السني...
الكل يلعب... إلا التاريخ...
التاريخ يمشي دوما إلى الأمام...
هو اليوم يجر معه المقاومة الإسلامية التي سوف تضطر للعب الدور القيادي لأن البديل عن ذلك سوف تكون مزبلة التاريخ التي سقط فيها بقايا المناضلين القدامى إياهم، الذين استبدلوا المجد بحقنة من الدولارات...