كتب الأستاذ موسى عبّاس:
عبر تاريخ لبنان القديم والحديث كان ولا يزال من يتحكّم في مصير وحياة اللبنانيين هم عبارة عن مجموعة من الأشخاص الذين هم من المتلاعبين بلبنان من اللاعبين الأساسيين على ساحته إمّا دوليين مباشرةً أو عبر أدوات محليّة تواطأت على نهب البلاد وعلى حماية امتيازاتها السياسية والإقتصاديّة، سابقاً كانوا عبارة عن مجموعة من الإقطاعيين من كلّ الطوائف الذين كانوا يتحكّمون بالفلاحين حين كان يخضع لبنان لحكم العثمانيين، وبعدها مجموعة السياسيين المتحدّرين من أصول إقطاعية أو ينتمون إلى عائلات ثريّة في زمن الإنتداب الفرنسي وكذلك بعد الإستقلال، ومهمّة هؤلاء كانت ولا زالت نهب البلاد ومنع أيّ تغيير في النظام السياسي كي لا تُتاح الفرصة أمام الطاقات الشعبية لإعادة تكوين السلطة من جديد وبالتالي لتغيير مسار السياسات الإقتصادية والماليّة .
—ثورات حدثت في لبنان عبر التاريخ :
حكم العثمانيون لبنان لفترة طويلة من الزمن تجاوزت الأربعة قرون ، من العام 1516م بعد انتصارهم على المماليك في معركة "مرج دابق" (والتي قاتل فيها الى جانبهم " الأمير معن " زعيم قبيلة المعنيين فكافؤوه بتعيينه أميراً على جبل لبنان) وحتى أواخر العام 1918 عند هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى في مواجهة دول الحلفاء، وطيلة تلك الفترة لم تحدث ثورات فعلية ضد الحكم العثماني أو ضدّ من كانوا يتولّون الحكم من قبلهم في ولايات لبنان ، وما كان يحدث هو عبارة عن انتفاضات شعبية محليّة في بعض المناطق دون أن تشمل جميع الولايات، لذا كان من السهل القضاء عليها، ومن أشهر تلك الانتفاضات والتي أطلق عليها من قبل بعض المؤرّخين تسمية ثورات :
- ثورتيّ بلدتي " انطلياس 1820 و1840 " وبلدة "لَحْفَدْ 1827 “ضد حكم الأمير بشير الشهابي "حاكم جبل لبنان من قِبل العثمانيين في جبل لبنان الشمالي بعد فرضه لضرائب مرتفعة أرهقت كاهل الأهالي فرفضوا دفعها وأعلنوا الثورة ضد حكمه وقُمعوا من قبل جيش الأمير الذي سانده الإقطاعيّون من الدروز والموارنة في الجبل .
إضافةً لبعض الإنتفاضات التي حدثت في بعض المناطق أيضاً احتجاجاً على فرض الضرائب ،كما في بلدات ( غزير والذّوق والنبطية) سرعان ما تمّ القضاء عليها.
- في العام 1858 انتفض الفلّاح "طانيوس شاهين" المسيحي ضد الإقطاعيين الموارنة من "آل الخازن " في منطقة "كسروان"في جبل لبنان والمدعومين من الإكليروس الماروني ومن الولاة العثمانيين وطردهم إلى بيروت وقام بإعلان "الجمهوريّة"، وبادر في العام 1860 إلى إرسال مناصريه لطرد الإقطاعيين الدروز في جبال الشوف فتسبّب ذلك لاحقاً في اندلاع حرب أهلية بين الموارنة والدروز في العام 1861 ، ففشلت حركته وسهُلَ القضاء عليها.
— في العام 1952 قامت مجموعة من السياسيين الرافضين للتجديد لولاية رئاسية جديدةً " لرئيس الجمهورية بشارة الخوري" بتحركات سميّت "الثورة البيضاء"، وادّت إلى استقالته ومنع نشوب حرب أهلية .
- في أيّار من العام 1958 ثار قسم من اللبنانيين ضد حكم الرئيس"كميل شمعون" الذي كان قد عمل على ادخال لبنان في حلف بغداد الذي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإتحاد السوفياتي إضافةً إلى أنّ وزير الخارجية الأمريكية أنذاك"جان فوستر دالاس" كان قد حدّد "لبنان والكيان الصهيوني والمملكة السعوديّة" كمواقع أمريكية ينبغي حمايتها .
اتخذت تلك الثورة طابعاً دينيّاً وسياسيّاً حيث قُتل العديد من الناس على أساس هويّتهم الطائفية، واستنجد كميل شمعون بالأمريكيين الذين أنزلوا قوات المارينز في بيروت وقمعوا الثورة التي استمرت حوالي خمسة اشهر وانتهت بإيصال قائد الجيش آنذاك "فؤاد شهاب" إلى سدّة الًرئاسة بعد توافق ً امريكي مصري، انتهت تلك الثورة التي رُبّما كانت محاولة فاشلة لإحداث تغيير على غرار ما جرى في مصر والعراق وسوريا بعد الإنقلابات العسكريّة التي وقعت في تلك البلاد، ولكنّها كانت مُمهِدة للحرب الأهلية التي وقعت عام 1975 والتي استمرّت حتى العام 1990. تلك الحرب التي تدخلت فيها قوى عربية ودولية وانتهت باتفاق "لا غالب ولا مغلوب". حرب لبنان التي بدأت عام 1975 ودامت خمس عشرة سنة، لم تكن ثورة، بل لعبة صراعات جيوسياسية شاركت فيها كل القوى الإقليمية والدولية وانتهت باتفاق الطائف الذي حافظ على النظام مع تعديل في التوازنات الطائفية وإدارة السلطة.
-في التاسع عشر من شهر تشرين الأوّل من العام 2019 انتفض القسم الأكبر من اللبنانيين ومن جميع الطوائف والمشارب السياسية ضد النظام السياسي القائم في البلاد واحتجاجاً على السياسات الإقتصادية والماليّة التي تتبعها الحكومات المتعاقبة،وتأمّل المجتمع اللبناني خيراً بسبب التوافق الطائفي الذي حدث والذي تخطّى القيادات السياسية الحزبية والدينية، ولكن الأمور جرت بما لا تشتهي سُفُن الحالمين بإحداث خرق في النظام القائم على المحاصصة بين سياسيين تحكّموا برقاب طوائفهم منذ ما يربو على ثلاثين عاماً جُلّ حرصهم تكديس الثروات هم وعائلاتهم في الداخل والخارج ، فسرعان ما أجهضها وأفشلها التدخل فيها وحرفها عن مسارها.
-أسباب فشل الثورات في لبنان:
في قراءة هادئة وواقعية لأسباب فشل أي حراك سياسي في لبنان بهدف تغيير نمط الحكم القائم على التوافق والمحاصصة الطائفية نجد التالي :
—عدم وجود نظام تعليمي في لبنان يعتمد فعليّاً المعيار الوطني في بناء الأجيال، فبعد مرور عشرات السنين على الإستقلال إلّا أنّه لم يتم الإتفاق على كتابة تاريخ موحّد للبنان الأمر الذي أدى إلى إختلاف حول مفهوم الوطن والوطنيّة ، وباتت كلّ طائفة لها تاريخها الخاص وتتعايش مع بقية جاراتها لأنّ الجغرافيا فرضت عليها ذلك ولا تعيش وتتآلف معها.
— إنّ الطائفية المتجذرة في النفوس عند غالبيّة المواطنين وفي النصوص الدستورية تُشكّل العائق الأساسي لنجاح أي ثورة، فلو قرّر أحدٌ ما إعلان الثورة سوف يُنظر مباشرةً ليس إلى دينِه وطائفته فقط وإنّما إلى مذهبه أيضاً وليس إلى فكره والمبادئ التي ينادي بها ويُقيَّم على هذا الأساس ، ولذا يندثِر تحرُكهُ دون أي نتيجة إيجابية، لأن الطبقة السياسية الحاكمة ومن جميع الطوائف أبدعت في استغلال الإنتماء الطائفي والمذهبي لإحباط أي حراك ثوري ينادي بإسقاط النظام أو على الأقل بالإصلاحات فيه.
— عدم وجود معارضة فعلية ، فالمعارضات الموجودة هي بدورها طائفية تخدم من حيث لا تدري النظام القائم.
—إنّ أي ثورة هي بحاجة لنُخبَة مفكّرة ومبدعة ولقائد يتخطى بشخصه وبفكره الحواجز الطائفية يستطيع جمع وجذب الفئات الشعبية للإلتفاف حوله وحوْل مشروعه الإصلاحي التغييري، والنُخبة اللبنانية المعارضة هي أكثر سوءاً من الطبقة الحاكمة والقائد الجامع للطوائف مفقود والأفكار المطروحة مُستوُردَة في الغالب ولا تتناسب مع ثورة حقيقية على الواقع اللبناني .
— التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية ، فكل طائفة في لبنان لديها حماية خارجية، اذ أنّ أي ثورة في لبنان ومهما كان حجمها تأخذ بُعداً خارجيّاً ، فعندما ثار طانيوس شاهين تدخلّت الدول الأوروبية وأعلنت رفضها لثورته مُعتبرةً إيّاها غير قانونية .
وفي ثورة 1958 ضد كميل شمعون تدخل الأمريكيون تحت ذريعة أنّها ثورة اسلامية استجابةً للناصرية في مصر وفي العالم العربي .
—تعدُد رؤوس الحكم في لبنان أحد العوائق المانعة لإسقاط نظام الحكم، حيث أنّ إسقاط نظام حُكم برأس واحد أسهل بكثير من إسقاط نظام سياسي أخطبوطي متعدّد الرؤوس، ففي لبنان إضافةً للرؤساء الثلاث يوجد زعماء الأحزاب الذين لديهم تأثير كبير في الأحداث التي تقع سلباً أو إيجاباً بحيث لا يُمكن تخطيهم بأي شكل من الأشكال، لا سيّما في الأحداث المصيريّة.
— فشل الثورات ولا سيّما حراك تشرين الأوّل 2019 في ايجاد هيكلية قيادية تنظيمية موحّدة تنظّم الحراك وتتحدّث باسمه، إضافةً إلى تشتُت الرؤى والأهداف لدى مجموعات الحراك فلم تتمكن من التوحُد ولو بالحد الأدنى وأدّى الصراع في ما بينها إلى القضاء على الحراك .
ختاماً ، إنّ النظام الطائفي في لبنان متجذّر في التاريخ لأكثر من قرنين من الزمن، لذا من الصعب إسقاطه لأنّه بات جزءاً أساسياً من ثقافة الشعب وهويته وقِيَمِه وسلوكه،وللقضاء عليه نحتاج إلى نُضْجٍ شعبي في المجالات الثقافية والإجتماعية والسياسية يقتنع معه الشعب بضرورة التخلّي عن الطائفية سلوكاً وتفكيراً ، وهذا ليس بالسهل أبداً بل يحتاج إلى نضال طويل وربما إلى أجيال وأجيال قبل الوصول إلى الهدف.