كتب الأستاذ حليم خاتون:
عملية هروب فذة، نفذها أربعة ابطال من فلسطين استدعت الكثير من التمجيد الذي تستحقه بلا أي أدنى شك...
تَميّز هذه العملية، إن كان من الناحية التقنية أو كان من الناحية المعنوية ذات الروحية النضالية العالية... يستدعي لفت الأنظار إلى مدى الظلم الاستبدادي الذي يعاني منه الفلسطينيون عامة، والأسرى منهم، بشكل خاص...
ما قام به هؤلاء الابطال، يستحق أن يكون أحد افلام هوليوود من "مهمة مستحيلة"، ليس فقط بسبب البراعة في التخطيط، بل أيضاً، بسبب التقنية البسيطة التي استخدمت تحت نظر أكثر السلطات بوليسيةََ في هذا العالم... رغم الدعاية الغربية التي تركًز على كوريا الشمالية وتتغاضى عما يحصل في فلسطين...
أربعة من الستة أبطال وقعوا في الأسر مرة ثانية، ووحده الله يعلم ماذا وكيف يعانون...
الكل خائف على مصيرهم وعلى مصير الإثنين المتبقيين...
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: لماذا انتهت الأمور إلى ما انتهت إليه؟
كأن هؤلاء الستة لم يجدوا الحضن الذي كان يجب أن يلتقطهم ويحميهم...
كأن المجتمع الفلسطيني كان غير مهيئاََ لاستقبالهم وحمايتهم...
حتى الفصيل الذي ينتمون إليه بدا في غير ثيابه في تلك الأيام...
بعيدا عن الشعر... يجب رؤية الحقيقة...
ما حصل يعبر عن أزمة عميقة في قوة حركة المقاومة الشعبية.
كأن تلك الهبّة الشعبية التي أعقبت الشيخ جراح قد تم أخمادها...
التهديدات الفارغة التي تنطلق بين الحين والآخر تثبت أن الإسرائيلي المتأزم استطاع إلحاق شيء من الإحباط بالجماهير...
ما حصل في الشيخ جراح كان خطوات عديدة وليس خطوة جماهيرية متقدمة واحدة أمام كل الفصائل وكل القيادات...
عندما تهب الجماهير ولا تجد قيادة جديرة تحتضن وتعمل على استمرار الزخم، يكون هناك مشكلة...
عندما يخرج فصيل يرفع تهديدا فارغا، أو يضع خطاََ أحمراََ هو غير قادر على تثبيته... هذا يدعو إلى إعادة نظر بمدى جذرية القيادات المتواجدة اليوم على الساحة الفلسطينية...
من أطفال الحجارة، إلى عمليات الطعن والدهس... وصولا حتى التصدي باللحم الحي أمام جبروت نظام استعماري، كولونيالي، استيطاني مدعوم من قبل معظم الدول الكبرى وتوابعها... كل هذا يجري ببطولات فردية في غيابِِ شبه كامل لبرنامج تحرير وطني، تقوده منظمة ثورية لا تُهادن، ولا تساوم...
الاستثناء الوحيد في هذا الغياب المميت هو بعض الفكر اليساري الثوري الذي يضعف كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه... وبعض الفكر الإسلامي الذي يتراوح ما بين إخوانية متأرجحة في نضالها، وبين ثورية إسلامية لا زالت خافتة، سمعنا صداها في بعض المظاهرات التي خرجت احتجاجا على عمالة سلطة محمود عباس وأنظمة الردة والتطبيع والتبعية العربية للصهاينة والأميركيين...
منذ أيام، وفي مقالة جديرة بالقراءة للكاتب عصام سكيرجي عن أزمة اليسار الفلسطيني، ربط الكاتب انهيار هذا اليسار وتأثير هذا الإنهيار على نضال الشعب الفلسطيني في عملية التحرير، مقابل أزمة عضوية تطال التيار الديني الذي انتقل بدوره من اليسار الى اليمين...
حتى بين المتدينين، يوجد يسار ويمين...
اليمين يُهادن دوما ويتبع أيديولوجية بدنا نعيش، ولو على حساب الكرامة والتاريخ.
اليمين يجتهد لإيجاد التبريرات التي تسمح له بالجلوس مع المحتل والعودة إلى طروحات الهدنة الطويلة التي تلقفها يائير ليبيد بعد طول طرح من قبل حماس ايام خالد مشعل...
يبدو أن وزير خارجية العدو يسعى عبر قطر وتركيا إلى تكبيل الشعب الفلسطيني بنوع من الهدنة الطويلة التي ستجعل من سلطة غزة، سلطة تنسيق أمني يشبه سلطة محمود عباس في المضمون وإن اختلف معه في الشكل...
يجب الإعتراف أن هناك أزمة قيادة ثورية في فلسطين...
عندما تتقدم الجماهير على الفصائل والأحزاب... هذا يعني أن هناك أزمة قيادة ثورية...
لا احد يشكك بوطنية الكثيرين من هذه القيادات، لكن هناك نهجا يمينيا يعشعش في القيادة ويتغذى من التعامل ساعة مع قطر، وساعة مع الاتراك، وساعة أخرى مع "الوسيط المصري"!!
رحم الله جمال عبد الناصر...
كم كان تزامن الثورتين المصرية والإيرانية مهم جدا من أجل فلسطين...
كم كنا بحاجة إلى تزامن ثورة يوليو المصرية مع الثورة الإسلامية في إيران من أجل إشعار الجماهير الفلسطينية بوجود الأمل الذي تقوم قطر ومصر اليوم، والأتراك بتبديده...
في دولة الكيان، يُقال أن اليمين الصهيوني هو أكثر الأطراف قدرة على تقديم تنازلات من أجل هدنة مع الفلسطينيين...
على ما يبدو فإن بعض الإسلاميين، هم الأكثر قدرة على تخدير الشعب الفلسطيني وتكبيله بهدنة تحاكي صلح الحديبية رغم الفرق الكبير، ومن كل الجوانب، بين الحالتين...
نظرة سريعة إلى تطور النضال الفلسطيني منذ الستينيات، يُظهر بوضوح أن عمليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تحديدا، هي من وضع القضية الفلسطينية على شاشة مسرح الاحداث، واجبر الصهاينة على الاعتراف بوجود شعب فلسطيني يرفض التخلي عن حقوقه الوطنية والضياع داخل صراع عربي / صهيوني مطاط.
قد أثبتت عمليات التطبيع وتنازلات الأنظمة الرجعية الرسمية العربية... إن الإرتهان إلى هذه الأنظمة أو محاكاتها لن يعيد حقاََ، ولن يبلسم جرحاََ...
إنها نفس نظرية ستالين التي أجبرت الحزب الشيوعي الصيني على التحالف مع عميل الغرب وأميركا، تشان كاي تشيك، لتشكيل جبهة وطنية واحدة لمقاتلة الغزاة اليابانيين...
إنها نفس سياسة العقم التي تجعلنا نسكت عن محمود عباس باسم الوحدة الوطنية...
إن هكذا وحدات وطنية تكون مقابر لأية عملية تحرير أو بناء وطني...
لا يمكن الدخول في تفاهم مع من يخدم جنود الاحتلال كما يفعل محمود عباس...
إن التحالف والوحدة الوطنية في هذه الحالة يؤدي إلى فشل عملية التحرير الوطني، ويؤدي إلى فشل مماثل وربما أكثر خطورة في عملية بناء دولة...
حتى قوى لا غبار على تاريخها النضالي وأهدافها السامية تتلطخ حين تدخل في وحدة وطنية مع عملاء الرجعية والاستعمار...
لعل حزب الله اكبر دليل على هكذا سياسات عقيمة...
حيث ساهمت حكومات الوحدة الوطنية التي ضمتهم إلى المستقبل والتقدمي وحتى القوات في لبنان... ساهمت من حيث لا تدري، الى كارثة في عملية بناء الدولة...
إذا كانت الأمور في لبنان "ملحوقة" ويمكن معالجتها من قبل قيادة حكيمة ورشيدة لا زالت على فطرية نضاليتها، فإن الأمور في فلسطين ليست كذلك.
في فلسطين، لا يمكن المهادنة مع المحتل، وكفى استغلال الحديبية في أمور دُبرت بليل...
حتى الفكر الديني الذي يأخذ منحى يمينياََ، ويبدأ في الحديث
عن مفاوضات هدنة ووقف نار وغيرها مما يريح العدو من دفع أثمان احتلاله للأرض... حتى هذا الفكر الديني سوف يؤدي في النهاية إلى نفس المآسي التي أوصلنا إليها اليمين الإخواني داخل فتح ومنظمة التحرير عبر أوسلو التي أجهضت أحدى أجمل انتفاضات الشعب الفلسطيني...
كما في فلسطين وكما في لبنان وكما في كل مكان، لا بد من مواجهة عدو الداخل التابع بشكل أساسي إلى سياسات الإندحار الوطني والقومي...
ألم نر الإخوان وقطر وتركيا تعمل على تدمير بنيان الدولة الوطنية في سوريا والعراق وحتى في مصر التي استطاعت عدم الإنزلاق بفضل تحرك الجيش، بغض النظر عن كل مساوئ نظام هذا الجيش، إلا أنه انقذ مصر من نفس هذه الفتن...
الوضع في فلسطين لا يحتمل أي خطوة باتجاه أية هدنة يعمل على تغذيتها نهج يميني مقيت يجب لفظه...
فلسطين لا يمكن أن تتحرر عن هذا الطريق...
لو كان احتلال فلسطين قد جرى من قبل دولة شرعية قائمة كما كان الأمر مع بريطانيا، لكان من الممكن التفاوض مع المحتل كي يرحل وإفهامه أن ثمن بقائه سوف يكون غاليا جداََ...
أما مع احتلال استيطاني يهدف إلى طمس التاريخ واغتصاب الجغرافيا... الأمور تختلف...
هذا الإحتلال ظهره إلى الحائط..
لا يمكن التفاوض مع أيديولوجية قائمة على إلغاء الآخر والحلول مكانه...
لا يمكن التفاوض مع من يريد حل المسألة اليهودية على حساب شعب آخر...
لا يمكن التفاوض مع من يريد مداواة هولوكست اليهود بارتكاب هولوكوست جديد بحق الشعب الفلسطيني...
طالما أننا ضعفاء، وطالما أن الإسرائيلي قوي جدا لا مجال للتفاوض... لا مجال لغير
"الكلام بالرصاص"، كما يقول الشيخ أمام...
إن النضال الثوري الجذري هو قدر الشعب الفلسطيني...
الشعب الفلسطيني محكوم بمهمة شبه مستحيلة على حدً قول الحكيم جورج حبش...
هذا قدرنا...
على الأقل، يجد الشعب الفلسطيني لنفسه اليوم حلفاء وإخوة كما إيران وحزب الله والحشد والأنصار في اليمن...
لقد فاوض الهنود الحمر الاستيطان الأوروبي الأبيض...
كذلك فعل سكان استراليا الأصليين، ونيوزيلندا وغيرها...
أين هؤلاء اليوم على الخريطة البشرية...
التفاوض طالما انت ضعيف وغير قادر على فرض اقتلاع المحتل هو نهاية التاريخ لحضارتك...
بين الموت والحياة...
بين الذل والكرامة...
لا مجال للخيار...
"ده منطق العصر، عصر الزنوج والأمريكان"...