كتب الأستاذ حليم خاتون:
في صغرنا، كان أستاذ التربية المدنية، يوم كانت هذه المادة لا زالت تحظى بالقليل القليل من الاهتمام، عكس ما هو مفروض؛ كان يحدثنا أن القضاة في بريطانيا يحددون هم بأنفسهم، ضمن المعقول طبعا، قيمة الراتب الذي بموجبه سوف يدخلون إلى سلك القضاء، وذلك لكي لا يجد القاضي نفسه في موقع حاجات ضرورية، فتزداد الاغراءات من حوله، والعمل على إفساده...
كبرنا وكنا نسمع أن تشرشل كان يسأل أول ما يسأل عن حال القضاء في بريطانيا، أثناء الحرب العالمية الثانية، أكثر مما كان يقلق عن الدمار الذي يلحقه قصف الطيران الألماني بالعاصمة، لندن...
لا شك أن هناك بعض المبالغة في كل ما قيل، لكن هذا لا ينفي أن هذه السلطة الثالثة يجب أن تتمتع ليس فقط بالاستقلالية عن السلطات الأخرى، بل بنوع من سلطة التحقيق والمحاسبة والمحاكمة، خاصة عندما يفتقد التشريع في بلد ما كل القيمة، بفضل انغماس المشرعين في هذا البلد في الفساد الذي غالبا ما يبدأ ويعم ضمن السلطة التنفيذية، بادئاََ ذي بدء...
في تونس، لم يكن بإمكان الرئيس قيس سعيد الإطاحة برئاسة الحكومة والبرلمان، لولا الدعم الذي حظي به ليس فقط من قسم كبير من الشعب، بل أيضا من هذه السلطة الثالثة التي استطاعت إيجاد الثغرة القانونية التي سمحت للرئيس بالقيام بما قام به...
صحيح أن قوة الإرادة عند الرئيس قيس سعيد كان لها الفعل الأساس في مجابهة مافيا الفساد الديني ومافيا الرأسمالية المتوحشة، لكنه استند أيضا إلى دعم الجيش ورجال السلطة القضائية... ( هذا ما افتقده المرء من خصائص عند من يدّعون العفة في ادغال السياسية اللبنانية)..
وسواء استطاع قيس سعيد إقامة نظام ديمقراطي مدني جمهوري، أو استمر بالحكم بمراسيم رئاسية كما هو يفعل الآن... يبقى أن الذي سمح له بذلك هو هذه السلطة القضائية الثالثة...
إذا كان القضاء في تونس قد لعب دورا إيجابيا في التخلص من اخطبوط الفساد المستشري في السلطة التشريعية والحكومة ومعظم الأحزاب، فإنه في البرازيل كان الأداة التي استطاعت المخابرات الأميركية النفاذ عبرها للإطاحة برئيسة الجمهورية روسوف والرئيس السابق لولا دي سيلفا، ما مهد الطريق لوصول الرئيس الحالي، وعميل الاستخبارات الأمريكية بولسانارو إلى سدة الحكم...
إنه نفس القضاء الذي استطاع الإطاحة بالرئيس اليساري، موراليس، ووضع الرئيسة الفاسدة جانين، الموالية للأميركيين مكانه، قبل أن يعود حزب موراليس للفوز بالانتخابات والعودة إلى السلطة... حيث كان أول أعمال الحكومة الجديدة هو محاولة تنظيف القضاء ومنعه من "السلبطة" السياسية...
مأساة العالم العربي بشكل عام، هي وجود سلطة ثالثة صورية وتابعة بالكامل تقريبا إلى حاشية السلطان، تحكم بسيفه الظالم وتُمجًد هذا الحكم، تمجيد العبيد للأسياد...
في لبنان، تنتاب الحيرة اي مراقب، حول المكان الذي يجب وضع هذا البلد فيه، وبالأخص، موقع السلطة الثالثة في هذا البلد الذي يتميز بكونه بناء دون قوانين طبيعية، جاءت نتيجة تطور طبيعي للمجتمع...
لبنان الذي يعتبر اتحاد مزارع طائفية مذهبية عشائرية إقطاعية رأسمالية وبالأخص، مافياوية إلى آخر ما يمكن أن يخطر على البال من أصناف البشر، وانواع الانظمة...
في هذا اللبنان، يجد المراقب أناسا من طينة السيد حسن نصرالله، وتنحدر الأمور إلى الوصول إلى مي شدياق مثلا او سمير جعجع... مرورا بأنصاف بشر آخرين...
في هكذا وضع، وفي هكذا بلد، كيف يمكن الحديث عن سلطات ثلاثة أو أربعة، وهناك خلطة عجيبة من القوانين، منها ما زال من أيام الخلافة العثمانية، ومنها من أيام الانتداب الفرنسي الذي خرج قبل أكثر من سبعين سنة من البلد...
مع تأليف حكومة نجيب ميقاتي كثر الحديث عن دور القضاة فيها، وعن إيجابية هذا الدور...
نفس الأشخاص الذين يمجًدون هذا القاضي أو ذاك اليوم، هم أول من خرج بعد اغتيال رفيق الحريري للمطالبة بمحاكمة دولية لأنه لا ثقة بالقضاء العدلي اللبناني...
تحديد الموقف من هذا القضاء عند اللبنانيين، يرتبط بما هو مطلوب من هذا القضاء، حتى لو كان في هذا كل "الشرشحة" التي يمكن تخيلها...
إن سار القضاء في إدانة الخصوم، يكون قضاء نزيها؛ أما في الحالة الأخرى، فهو إما القضاء التابع للنظام الأمني السوري اللبناني، أو القضاء الخاضع لسلطة حزب الله في دولة يسمونها دولة حزب الله، رغم أن هذا الحزب لا يمون على صوص فيها، بإرادته هو، وليس بإرادة الناس...
لكن بعد اغتيال الحريري، اكتشفنا أن الكثيرين من القضاة تحولوا إلى أداة طيعة في يد القضاء الدولي الذي هو بدوره ليس سوى أداة طيعة في يد الغرب الاستعماري المقنّع...
أسوأ ما في الأمر أن هذا القضاء يتمتع بحماية تجعل المراقب يتساءل عن آلية المحاسبة التي يمكن أن يخضع لها... هو لديه كل السلطة لمحاسبة الآخرين، وليس من سلطة لمحاسبته هو...
القضاة الذي اتخذوا إجراءات تعسفية وبعيدة كل البعد عن المهنية والضمير في قصة اغتيال الحريري، والذين شاركوا في فبركة شهود الزور، وقبلوا بشهادات دون أساس... هؤلاء لا زالوا يعيشون بسلام، ويتنقلون دون محاسبة على كامل أراضي الجمهورية...
تم سجن الضباط الأربعة، ثم تم إطلاق سراحهم، ولم يستطع أحد فهم ما جرى، وكيف جرى، ولماذا...
منذ تفجير الرابع من آب، والمسرحية نفسها تكرر نفسها...
المراقب العادي يقرأ الكثير من الاستنسابية والخبث السياسي، ويتساءل... فتخرج إجابة المحامي صاغية على الجديد وهو يبتسم ابتسامة لا تعني سوى الضحك على الناس...
يقول المحامي صاغية، أن هناك سرية التحقيق، ويضيف أنه حتى هو لا يحق له معرفة هذا التحقيق السري...
قد يقبل المحامي صاغية بهكذا تفسير لما قام به قبلا القاضي صوان وما يقوم به الآن القاضي بيطار... لكن هذا لا يشفي غليل اي مراقب مستقل عن كل التجمعات المدنية غير الحكومية، سواء كانت تابعة للسفارات، ام كانت مدنية ومستقلة فعلا...
ليس دفاعا عن حسان دياب، لكن يبدو أن الرجل يعاقب على مواقف لم تعجب أحدا ما في فترة ما، فقام القاضي صوان في البدء، ثم تبعه القاضي بيطار بتنفيذ أجندة ما ضده...
قد يكون المراقب مخطئاً... لكن حجة سرية التحقيق التي قد تكون مبررة في مجتمعات أخرى لا يمكن القبول بها هكذا، وببساطة، في المجتمع اللبناني المريض بكل ما سلف ذكره أعلاه...
في النهاية، يجب الإعتراف أن كل السلطات في لبنان بما في ذلك السلطة الثالثة مذنبة، ومُدانة، حتى قبل إثبات ذلك...
في لبنان، من المرفوض الاختباء وراء أية سرية أو غموض...
يجب أن تجري الأمور بشفافية تامة وأمام كل اللبنانيين...
العلنية هنا مطلوبة وتخدم العدالة فعلا لأن لا ثقة لأحد بكل الطبقة الحاكمة على اختلاف السلطات...
في لبنان، كل شيء يُشرى بالمال الحرام، بما في ذلك السلطتين الثالثة والرابعة...
إذا كانت مطالبة القاضي بيطار الوضوح والشفافية وعدم الاستنسابية، تعتبر تهديداً، فهذا أبسط ما يفرضه الواقع اللبناني المريض...
أما القضاة الذين يستهدفون من الشعبوية الفئوية، تقمص ادوار بطولات زائفة في مجتمعاتهم الضيقة... هؤلاء يجب إحالتهم فورا وقبل اعتذارهم إلى المحاسبة...
في لبنان، السياسيون والقضاة والمحامون ورجال الأعمال ورجال المال ورجال الدين وكل فرد من هذا المجتمع يجب أن لا يتمتع بأية حصانة عند المساءلة وفي أي أمر كان...
ولا يحق لأحد مهما كان، أن يختصر رفع الحصانة على حادثة معينة وفي ظرف معيّن...
رفع الحصانات يجب أن يكون عاما وفي كل الامور...
مطلوب محاكمات كاملة علنية على الشاشات وفي كل القضايا دون استثناء والذي يرفض، هو مدان موضوعيا ويجب محاكمته فورا...