تحت عنوان "حرب واشنطن وطهران مستمرة", كتب الكاتب العراقي نجاح محمد علي, مقالاً تحليلياً هاماً عن الأحداث في العراق , كتب الكاتب عن المظاهرات التي سقط على إثرها قتلى وجرحى, ولأننا في إضاءات نعلم أن معظم مطالب المتظاهرين حق "حق يراد به باطل" فاللا عدالة الإجتماعية والفساد والمحاصصة المذهبية, الطائفية والإثنية مرفوضة من حيث الشكل والمضمون والمبدأ بالنسبة لنا, ولأن المحرك الحقيقي لهذه الأحداث مشبوه, ولا يخدم المطالب الحقة للشعب العراقي والتي كان من المفروض أن تكون المطالب, تغيير نظام المحاصصة المذهبية, الطائفية والإثنبة المقيت, بالتوازي مع مطلب رفض الوجود الأمريكي أو الإحتلال الأمريكي بتعبير صريح فمعظم مصائب العراق سببها الإحتلال الأمريكي, هذا المطلب الوطني الهام غاب عن المطالب, ولم يكن له وجود في مطالب المتظاهرين, بل ببالمقابل, رفعت في المظاهرات شعارات مشبوهة معادية لإيران, بالرغم من الدور الإيجابي الذي لعبته إيران في محاربة داعش والذي حال دورها دون سقوط العراق بيد داعش أو بتعبير آخر بيد أمريكا و "إسرائيل", وكما دورها الإيجابي بدعم قوى مقاومة الإحتلال الأمريكي سابقاً ولاحقاً, الأمر جعل ريبتنا من ما يحصل تزداد, لذلك باتت قناعتنا أن الحراك مشبوه وأن قوى معادية تقف وراءه, في محاولتنا لسبر الحدث, رأينا أن نضع بين أياديكم مقال الأستاذ "نجاح محمد علي" لما فيه من موضوعية وفائدة في معرفة خلفية ما يدور.
إضاءات
حرب واشنطن وطهران مستمرة
الجزء الظاهر من جبل الجليد في المظاهرات التي تتكرر كل عام في بعض أجزاء العراق وغالباً ما تكون في الصيف هو أنها مطلبية مشروعة يسمح بها القانون ويؤيدها الجميع، وسرعان ما تتحول إلى اضطرابات تسفر عن قتلى وجرحى وتنتهي كل مرة بعودة المتظاهرين إلى منازلهم ليدفنوا ضحاياهم ويضمدوا جرحاهم، ولا يحصدون غير المزيد من الخيبة من العملية السياسية والسياسيين الذين يعيدون تدوير أنفسهم، وزعماء الكتل يواصلون إنتاج المزيد من الفاسدين.
لكنْ في المظاهرات الأخيرة فإن ما سبقها من تحضيرات وتصريحات وصراعات تجاوزت حدود المتعارف في العراق بعد عام 2003 كان يشي بوجود مخطط كبير تشارك فيه قوى فاعلة (شيعية وسنية) داخل العملية السياسية نفسها وداخل الحكومة (شريكة أساسية) أيضاً بأن ما خفي كان أعظم.
المظاهرات الأخيرة جرى التركيز فيها على العاصمة بغداد وبعض مدن الجنوب، بل وكانت الدعوات التي انطلقت فجأًة على صفحات محددة في وسائل التواصل الاجتماعي وتبنتها بشكل مدروس ومرتب، قنوات فضائية محددة، تحث على انتقال متظاهري الجنوب إلى بغداد لتبدو كبيرة، وحدد موعد الأول من تشرين الأول/اكتوبر موعداً لها حتى قبل الإعلان عنه وذلك ما تحدث عنه زعيم عصائب أهل الحق الشيخ قيس الخزعلي قبل الموعد بنحو شهرين.
وتتحدث مصادر عن خطة انقلاب عسكري شامل تطيح بالنظام السياسي باستثمار أجواء السخط الشعبي ضد العملية السياسية وضد الحكومات المتعاقبة، وأن القائد العام للقوات المسلحة عادل عبد المهدي وجه للانقلابيين “ضربة استباقية” بقرار إحالة قائد جهاز مكافحة الاٍرهاب الفريق ركن عبد الوهاب الساعدي إلى وزارة الدفاع الذي كان يُراد توظيف شعبيته، ليكشف المستور ويظهر (الانقلابيين المحليين) في الداخل إلى السطح الذين كان جزءا حيويا وفاعلا منهم شكل يوم 14 أيلول/سبتمبر أي قبل قرار الإحالة، جبهة إنقاذ أعلنت على لسان بعض متحدثيها بُعيد اندلاع المظاهرات، عن دعم الجبهة لمطالب رفعها متظاهرون بإسقاط النظام السياسي وتشكيل حكومة إنقاذ بدعم أمريكي .
إيران كانت حاضرة بقوة هذه المرة وأكثر من أي وقت مضى في هذه المظاهرات وفي كل ما قيل ويقال عنها لجهة الضغوط التي تتعرض لها طهران لتجلس على مائدة المفاوضات مع الولايات المتحدة وحاجة كل طرف استخدام ما يملك من أوراق .
فقط حظيت المظاهرات الأخيرة بدعم لافت من السفارة الأمريكية (أصدرت بيانا) ومن السفير البريطاني في بغداد جوناثان ويلكس الذي غرد مؤيداً وكان أشار العام الماضي إلى تفاهم بينه وبين السفير الإيراني في بغداد ايرج مسجدي بشأن تشكيل الحكومة العراقية الحالية وذلك قبيل الإعلان الرسمي عنها، ما اعتبر من قبل طهران انقلاباً على الحكومة وخرقاً للتفاهم وما يمكن أن يجر هذا البلاد إلى صراع أجندات داخلية خصوصاً وأن تشكيل الحكومة (محلياً) تم بعد ذلك التفاهم الإيراني البريطاني بالتوافق بين مقتدى الصدر زعيم كتلة “سائرون” وهادي العامري زعيم كتلة “البناء” وأن توزيع الحصص الحكومية الأكبر جرى كله بالاتفاق بين الكتلتين، ما أزعج الكتل الأخرى التي رأت أنها لم تحصل من الغنيمة على ما يتوافق مع حجمها واستحقاقها الانتخابي.
لكن في المعادلة الكبرى يبقى الصراع الإيراني الأمريكي على النفوذ في العراق والمنطقة تحت غطاء الملف النووي يخيم، على الأزمة الراهنة في العراق، ويُعتقد على نطاق واسع في طهران أن ما يجري في العراق هو مواصلة تطبيق خطة مارتن إنديك السفير الأمريكي الأسبق في تل أبيب لقطع نفوذ إيران في العراق عبر احتواء السعودية والإمارات لزعامات شيعية عراقية، ويربط البعض بين دعم مقتدى الصدر المظاهرات من دون أن يشارك فيها بشكل مباشر، وبين زيارة لافتة قام بها قبل أيام من المظاهرات زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم إلى الإمارات، والذي تبنت وسائل الإعلام التابعة له مطالب متظاهرين طالبوا بإسقاط حكومة عادل عبد المهدي، وأيضاً إسقاط النظام السياسي.
وفي هذا الواقع يربط كثيرون أيضاً بين ذكرى اغتيال الصحافي المغدور جمال خاشقجي والاهتمام الإعلامي العالمي بقضيته والحرج الذي وقع فيه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وتحميله المسؤولية ومحاولته تخفيف الأعباء الإعلامية عنه، وبين توقيت المظاهرات واهتمام الإعلام السعودي الواسع الذي تبناها بشكل غير مسبوق فاق ما كانت تقوم بها القنوات الفضائية السعودية والرديفة خلال مظاهرات الأنبار عام 2014 وبعد سقوط الموصل بيد “داعش” عندما كان الإعلام السعودي يسمي عناصر التنظيم الاٍرهابي “ثوار العشائر” ويقول جمهور الحشد الشعبي ووسائل إعلام مؤيدة له (من دون أن يقللوا من شأن المطالب المشروعة للمتظاهرين) إن السعودية ضالعة في تحريك المظاهرات الأخيرة، وأنها جزء من خطة إسقاط الحكومة بعد جهود لافتة بذلها عادل عبد المهدي لإيجاد تقارب إيراني أمريكي من خلال حل أزمة الناقلات في مضيقي جبل طارق وهرمز، وحل الأزمة بين الرياض وطهران وبين الأخيرة وواشنطن وهذا ما يعتبره محور أمريكا السعودية انحيازاً لإيران خصوصاً بعد اتهام عبد المهدي رسمياً إسرائيل بالوقوف خلف استهداف مقرات الحشد الشعبي الذي رفض عبد المهدي حله وقام بدلاً من ذلك بتكريس وجوده في هيكلية القوات الأمنية، ورفضه الانضمام إلى صفقة القرن والتحالف الذي دعت له أمريكا وأيدته السعودية والإمارات لتأمين الملاحة في المنطقة الخليجية، إلى جانب توجهه لمنح عقود اقتصادية ضخمة لألمانيا “زيمينس” والصين في مقايضة النفط إعادة إعمار البنى التحتية وإنشاء مشاريع اقتصادية حيوية (وهذا لا يريح الفاسدين في الداخل وحماتهم الخارجيين).
المرجعية
وبالرغم من أن المرجعية العليا أيدت حق المتظاهرين في النزول للشارع وحسمت أيضاً في خطبة الجمعة موقفها من أمر أهداف المحرضين على الانقلاب على العملية السياسية، بتأييدها العلني للنظام السياسي الراهن مع كل ملاحظاتها عليه، وحملت البرلمان والحكومة والقضاء المسؤولية للخروج من هذه الأزمة ودعت إلى تفعيل دور البرلمان، فهي أشارت من طرف خفي إلى رفضها أيضا إسقاط عادل عبد المهدي لدرء مفسدة أكبر خاصة إذا أدى ذلك إلى انهيار العملية السياسية وجر العراق إلى نفق مظلم مجهول.
وعموماً وكما هو واضح من هذه التطورات ورغبة الرئيس الأمريكي في لقاء الرئيس الإيراني حسن روحاني تحت يافطة حل الأزمة النووية، فان كلا الطرفين يلجأ إلى حلفائه في العراق والمنطقة للضغط عبر العراق وتحسين موقفه، إذ لا تستبعد أوساط عارفة أن يعمد أنصار الله في اليمن إلى تنفيذ تهديد أطلقه الأربعاء المجلس السياسي الأعلى يحذر فيه السعودية من مغبة عدم قبول مبادرة السلام، مؤكداً أن هناك تحضيرات واسعة لضربات لا محدودة وبالغة الأثر بنطاقات زمنية واسعة ستكون كفيلة بهزيمة العدوان وسحق قدراته إذا لم يجنح للسلام والحوار، وطبعاً لتخفيف الضغوط عن العراق الذي يرى نافذون فيه أنه يتحمل ما يتحمل بسبب موقفه الساعي إلى حل الأزمة اليمنية بوقف الحرب، والذي تتهمه أوساط في السعودية باستخدام أراضيه لشن هجمات على أهداف في السعودية رغم النفي العراقي الأمريكي الرسمي.
قد تحدث أشياء كثيرة تغير الصورة بشكل كامل إذا استمرت المظاهرات، وفيها تظل المفارقة وهي أن المتظاهر الذي يُقتل على أيدي قوات الأمن يعامل من قبل الحكومة كشهيد وتحظى أسرته بحقوق الشهداء، ورجل الأمن هو أيضاً شهيد، بينما الفاسدون لا يجري تدوير زعمائهم وحسب بل تنتج كتلهم من الفاسدين المزيد.