قد يُفكّر بوتين وترامب الآن في جمع الكرد إن لم يكن بالرياضيات والجغرافيا بل بالتاريخ والثقافة والأخلاق والإنسانية. وهذا ما يُفسِّر التنسيق والتعاون الأميركي - الروسي لمُعالجة المشكلة السورية نهائياً بانعكاسات ذلك على تركيا والعراق والكرد لاحقا
مع الاستمرار في الحديث عن تفاصيل عملية مقتل البغدادي والتشكيك بذلك، فقد شهدت المنطقة تطوّرات مُثيرة وسريعة ومُتتالية منذ بداية الشهر الجاري خاصة بعد موافقة الرئيسين ترامب وبوتين على التوغّل العسكري التركي شرق الفرات، وهو ما أدّى إلى اتفاق "سوتشي" الأخير الذي غيَّر قواعد اللعبة العسكرية والسياسية في المنطقة.
ولم تكن هذه المحاور هي فقط التي حدَّدت ملامِح الأسابيع الثلاثة الأخيرة، فقد تحوَّلت "قسد"، وبشكلٍ خاص الجناح الكردي منه، إلى عنصرٍ أساسي في مُعادلات المنطقة بعد تبنّي واشنطن وموسكو والعواصم الأوروبية لها ولزعيمها مظلوم عبدي (كوباني)، أحد تلامِذة عبد الله أوجالان، زعيم حزب العمال الكردستاني، وقد يتحوَّل قريباً إلى مانديلا جديد مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية التي ازدادت فيها حظوظ ترامب بعد مقتل البغدادي، كما زاد مقتل بن لادن في أيار/مايو 2011 من حظوظ أوباما في انتخابات 2012، خاصة بعد اعتراف ترامب بأن العملية قد تمَّت بدعمٍ من الكرد، وهو ما سبق وأن أعلن عنه مظلوم عبدي حتى قبل ترامب، كما أعلن عن مقتل أبو حسن المهاجر قرب مدينة جرابلس التي تسيطر عليها القوات التركية، التي تسيطر على جميع المناطق المحيطة بقرية بريشا التركمانية التي قُتِلَ فيها البغدادي.
ويعرف الجميع أن تركيا التي لها علاقات جيّدة مع "النصرة" وتسعى إلى عرقلة دخول الجيش السوري إلى إدلب، تتواجد في المنطقة الممتدة من جرابلس إلى إدلب وعفرين بكثافةٍ عاليةٍ عسكرياً واستخباراتياً، ومن خلال العشائر ومُسلّحي فصائل ما يُسمَّى بـ "الجيش الوطني" التي كانت أنقرة تعرف من خلالها كل صغيرة وكبيرة في المنطقة، بما في ذلك كيف جاء البغدادي إليها وأين كان يختبىء مع زوجاته ومساعديه.
وهنا يبدأ الحديث عن العديد من السيناريوهات التي تتوقَّع سماح موسكو للطائرات الأميركية بالتحليق في الأجواء السورية (على طول الحدود مع تركيا)، خاصة أن بريشا التي تبعُد عن الحدود التركية 6 كم كانت على بُعدِ ثوانٍ من قاعدة حميميم التي أضاءت الضوء الأخضر لواشنطن للقيام بعمليتها هذه، مقابل عملية روسية مُماثِلة ومُحتَملة وقريبة ستستهدف الجولاني في حال عدم اتفاقه مع تركيا لحل التنظيم وتسليم الأسلحة الثقيلة والانسحاب من إدلب خلال الأيام القليلة القادمة.
وجاء كلام فخر الدين آلتون، المُتحدِّث باسم الرئيس إردوغان، الذي قال "لقد حان الأوان للتخلّص من جميع زعماء التنظيمات الإرهابية" كمؤشِّرٍ للمرحلة القادمة للتخلّص من الجولاني، سِلماً كان أمْ حرباً، وتلبيةً للإرادة الأميركية - الروسية التي حسمت موضوع البغدادي ومَن معه بالتنسيق مع دول المنطقة وهي سوريا والعراق وتركيا، وحسب كلام ترامب الذي شكر الكرد شكراً خاصاً، فيما قال مظلوم عبدي "إن العملية تمَّت بعد 5 أشهر من التنسيق والتعاون المُشترك مع الأميركان".
وقد يكون هذا الكلام مؤشِّراً على الدور الذي يلعبه وسيلعبه الكرد لاحقاً للتخلّص من جميع قيادات وعناصر "داعش" المُعتقلين في المخيّمات التي يسيطرون عليها شرق الفرات. وبعد أن فرض ترامب على إردوغان استلام المئات منهم وقام هو بنقل آخرين إلى القواعد الأميركية غرب العراق، وربما سيقوم بتسليم ما تبقَّى منهم للدولة السورية بعد الاتفاق النهائي بين "قسد" ودمشق وهو ما سيعني الانسحاب الأميركي من المناطق النفطية السورية قبل انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني/نوفمبر العام القادم، ولكن قبل حسم موضوع الجولاني والنصرة.
وترشّح هذه المُعطيات والاحتمالات المنطقة لتطوّراتٍ مهمةٍ ومثيرةٍ ستتميّز بالتخلّص من جميع التنظيمات الإرهابية التي أسَّسها أوباما ومعه هيلاري كلينتون حسب كلام ترامب، وعلى الرغم من كل ما قدَّمته هذه التنظيمات من خدماتٍ عظيمةٍ لأميركا والدول الإمبريالية و"إسرائيل" المستفيد الأكبر مما يُسمَّى بـ "الربيع العربي".
وقد تحمل المرحلة القادمة أيضاً في طيّاتها تحوّلاً مُثيراً في الموقف الأميركي - الروسي المشترك للاعتراف بفضل الكرد في القضاء على "داعش" في سوريا والعراق معاً، وهو ما قد يعني الضغط أولاً على دمشق ومن ثم على تركيا والعراق للتفكير بصيغةٍ جديدةٍ للحوار الوطني داخل كل دولة من أجل الاعتراف للكرد بالمزيد من الحقوق الإنسانية والثقافية والسياسية.
وقد تُحدِّد زيارة القائد العسكري لـ "قسد" مظلوم عبدي إلى واشنطن ولقائه الرئيس ترامب وبعدها الرئيس بوتين ملامِح هذه التحوّلات المُحتمَلة، خاصةً إذا سبقت هذه الزيارات زيارة الرئيس إردوغان إلى واشنطن 13 الشهر القادم، بعد أن طلب ترامب منه الحوار المباشَر مع مظلوم عبدي.
وقد يُفاجئ عبدي الجميع قبل أو بعد هذه الزيارات بزيارةٍ تاريخيةٍ سيقوم بها إلى دمشق وهو ما رحَّب به مفتي سوريا أحمد حسون ومن قبله فيصل المقداد. وقد بات واضحاً أن مظلوم لن يتردَّد بالقيام بمثل هذه الزيارة بضوء أخضر أميركي وتشجيع روسي، بعد أن يتأكَّد له أن المُصالحة مع دمشق ستساعده في الضغط على أنقرة وإجبارها أولاً على الانسحاب من شرق الفرات، وثانياً لإخلاء سبيل زعيمه عبد الله أوجالان الموجود في السجن منذ شباط/فبراير 1999، وبقيت له 7 سنوات حتى يتحوّل إلى مانديلا جديد فيخرج ليحصل على جائزة نوبل للسلام!
وقد تساهم التطوّرات والمُفاجآت المُحتمَلة في المنطقة والأهم في العلاقة بين موسكو وواشنطن والمساومات والصفقات بينهما في اختصار هذه المدة، بعد إغلاق ملف الإسلام السياسي وهو ما سيكون انتصاراً للرئيس بوتين الذي تصدّى له بإرسال قواته إلى سوريا أيلول/سبتمبر 2015.
وقد يحلّ "الكرد العلمانيون" وفق التصوّر الروسي - الأميركي محل الإسلاميين مع استمرار العاصمتين في حساباتهما الخاصة بالمنطقة العربية، وهي محط أنظار الجميع ليس فقط الآن بل عبر التاريخ بأجمعه.
فقد كانت مهداً لعددٍ كبيرٍ من الحضارات وكل الأديان وكانت معاً سبباً لعشرات بل لمئات الحروب والبعض منها بسبب ما يُسمَّى بمصادِر الطاقة، ومستقبلاً المياه، وهي جميعاً قريبة من ما بين النهرين (دجلة والفرات) وفيها يعيش الكرد بعد أن قسّمتهم الحسابات الاستعمارية البريطانية والفرنسية بين تركيا والعراق وسوريا وإيران.
وقد يُفكّر بوتين وترامب الآن في جمعهم إن لم يكن بالرياضيات والجغرافيا بل بالتاريخ والثقافة والأخلاق والإنسانية. وهذا ما يُفسِّر التنسيق والتعاون الأميركي - الروسي لمُعالجة المشكلة السورية نهائياً بانعكاسات ذلك على تركيا والعراق والكرد لاحقاً، أي خلال الأيام وليس الأسابيع القليلة القادمة على العمل المشترك للتخلّص من كل الإرهابيين، الذين وكما قال الرئيس الشيشاني قاديروف "لقد جاؤوا من رَحْمِ أميركا وهي الأولى بالتخلّص منهم"، وهذه المرة بالمساومة مع بوتين هذا بالطبع إن لم تعد أميركا إلى عادتها القديمة وتفكّر باستخدام مَن تبقَّى من هؤلاء الإرهابيين في مكان وزمان آخر.
فليس صعباً على واشنطن إيجاد البدائل طالما أن أرض هذه الجغرافيا خصبة للخونة والعملاء من كافة الأنواع والأجناس والأعراق والطوائف، وهي دائماً مواد دَسِمة لسيناريوهات مُثيرة ومُرعِبة ودموية وتبقى التفاصيل دائماً بين أحاديث القال والقيل، ومنها أن الجولاني باع البغدادي مقابل إنقاذ حياته!