بدأت تظهر بعد العولمة مصطلحات كثيرة عل أبرزها جِدَّة وحيوية هو مصطلح "القوة الناعمة"، رغم قدم طرح الفكرة، إلا أن مفاعيلها وآثارها العملية بدأت تظهر خلال العقد الأخير على الواقع السياسي والثقافي والهَوِيّاتي في منطقة الشرق الأوسط. هذه الفاعلية بعثت المصطلح مجددا من ذاكرة التاريخ، لتطرح تساؤلات حول ماهية هذه القوة وآليات تداولها وانتشارها، ومن يقبع خلفها ويحركها، وللإجابة على هذه التساؤلات وغيرها حول موضوع "القوة الناعمة"، هناك ضربان من الأجوبة:
١.أجوبة عقلانية تعتمد على الدراسة المنهجية التي تحفر عميقا في المفهوم ومصدره وصداه، تنطلق بدون مسبقات حكمية ولا قبليات يقينية، بل بموضوعية يبحث من خلالها على إجابات تقربه من الواقع ليبني على الشيء مقتضاه، تتناول هذه الأجوبة عدة أبعاد: تاريخية، اقتصادية، مجتمعية، سياسية، إيديولوجية، دينية، جيوبوليتكية عدة، وعسكرية بكل تأكيد.
٢.أجوبة لا عقلانية يقترحها "المؤامراتيون" من كل صنف وضرب، وهذا الجواب يعفي نفسه من كل جهد بحثي علمي عميق، فيوفر لما يتبناه انطباعا بأنه يفهم مجريات الأحداث ببساطة، ومن تكلفة تذكر.
أهمية الأجوبة العقلانية تكمن في كونها تعطل الهدف من الترويج المؤامراتي للحدث في كشفها لملابسات الواقع، فوظيفة المؤامرات غالبا أنها: "تخلط وتؤلف بين تغييب الأمو العيانيّة الواقعية، وصرف الأنظار أو حرفها، وبين تكوين أعداء، وخلق أكباش محرقة، وبين الحث على الحقد العرقي والديني"[1]..
ولكن هل هذا يعني عدم وجود مؤامرات عبر التاريخ؟
نظرية المؤامرة: "هي موقف تفسيري يتخذه الرأي العام تجاه حدث أو سلسلة أحداث طارئة تتسم بالعناصر الدرامية من جدة: صراع، خروج عن المألوف، وضخامة. وينطلق هذا الموقف من النزعة في الوعي البشري الفردي والجمعي إلى كمال النقص في المعلومات المتوفرة لكي تصير متكاملة بصرف النظر عن منطقية هذا التكامل، وكذلك لإزالة التنافر المعرفي في المتناقضات لتصير منسجمة ومنطقية.
فما خلا الخطط العسكرية والسياسية، وخطط حملات العلاقات العامة، وأعمال التجسس والاستطلاع، فإن العلاقة بين نظرية المؤامرة وبين سلسلة من الأحداث تقوم على خلل معرفي يضع النتائج قبل الأسباب، فالمؤامرة عنصر لاحق ومصاحب للحدث ينتج عنه ويحاول أخذ موقف منه، وقد يستخدم في اختزاله وتبسيطه، وتحويل معناه، أو إضافة مزيد من المعاني عليه من قبل الوعي الجمعي الشعبي حينا، أو من قبل السلطة نفسها حينا آخر. ما قد يؤدي إلي تسطيح الحدث وتقديمه بشكل ترميزي مبسط أكثر مما هو عليه في الواقع، ما يتسبب بخلل في تقدير الموقف، وتشتت في القرارات الصحيحة اللازمة للتعامل مع الاضطراب الناجم المفاجئ."[2]
يضع قاموس إكسفورد للغة الإنجليزية تعريفا لنظرية المؤامرة وهي: اتفاق بين فردين أو أكثر للقيام بعمل إجرامي أو غير قانوني مستهجن"، ويعرفها بيجدن " خطة سرية من جانب مجموعة ما من أجل التأثير جزئيا في الأحداث بعمل خفي".
إن كثيرا من الدلائل بل والوثائق التي يتم الإفراج عنها بعد مرور وقت من الزمن على الحدث التاريخي الذي يخصها، تثبت وجود مؤامرات تم حياكتها في جنح الظلام التاريخي، خاصة في الحروب، والصراعات السياسية بين الدول الكبرى حول النفوذ، وفي التسابق الاقتصادي، فالمؤامرة كما خلص إليه الاقتصادي فريدريك لوردون: "إنها تتطلب تلافي منزلقين اثنين، متناظرين متوازيين، وكلاهما مزيف:
١.الاعتراف بأنه قد يكون هناك دسائس متواطأ عليها ومموهة ومنسّقة ـ يمكن تسميتها مؤامرات.
٢.رفض تحويل المؤامرة إلى موضوعة تفسيرية وحيدة للوقائع الاجتماعية كافة، فضلا عن أنها الأقل إثارة للاهتمام من بين كل الموضوعات المتاحة، والأقل مواءمة وملاءمة، وينبغي ألا يكون التوجه إليها، من جهة النظر المنهاجية، إلا في المرتبة الأخيرة.. هذا على الرغم من أنه قد يكون لها موضعها أحيانا".[3]
فنحن لا نستطيع بناء المنظومة التفسيرية للحدث من الناحية المنهجية على التفسير المؤامراتي فقط كطريقة للتعاطي مع الحدث والواقع، وفي ذات الوقت لا يمكننا إقصاء هذه النظرية كليا عن المنظومة التفسيرية في ذات الوقت، والأكثر منهجيا هو وضعها ضمن قائمة احتمالات تفسير الحدث و فهم الواقع، إلا أن موقعها في قائمة تفسير الأحداث منهجيا تكون بعد تفنيد كل الاحتمالات وجمع كل المعطيات والمعلومات، ووضعها كاحتمال يعززه نوعية المعطيات والمعلومات المتوفرة، والتعاطي معها كمعطى احتمالي وليس يقيني، كون عادة المؤامرات تكون خفية، سرية، لا يمكن لصاحبها ترك دليل حاسم عليها، تاركا إياها لرياح التأويليات اللحظية، رغم أن كثير من المؤامرات التاريخية تم الإفراج عن وثائقها كما أسلفنا، بعد مرور وقت طويل من الزمن لتثبت وقوعها. لكن إثباتها جاء متأخرا زمانيا عن وقت حدوثها، بالتالي هنا لا ننفي وقوعها، ولكن ننفي عدم وجود ما يدلل عليها منهجيا في وقت وقوعها الزمني، لعدم وجود دليل ملموس حسي قطعي عليها، ومع وجود معلومات حول احتمالها، أي أن زمن وقوع الحدث لا يمكن التدليل قطعيا على وقوعها مع توفر المعلومات حولها، لكن يمكن أخذها في الحسبان كاحتمال ضمن الاحتمالات المنهجية في قراءة الواقع، ووضعها كآخر احتمال، حتى يدفع ذلك الباحث لبذل جهد مضاعف في البحث العلمي الموضوعي في قراءته للحدث وفق أقرب صورة للواقع.
وهذا لا ينفي أن هناك من يستفيد من الترويج لنظرية المؤامرة، خاصة السلطات وكثير من الجهات التي تستفيد من تشتيت جهود الباحثين، وتبسيط عقول الناس، وتوجيه العقل نحو تحيزات تبعده عن قراءة الواقع وتفسيره بطريقة منهجية لاتخاذ الفعل المناسب اتجاهه.
ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات، يسهل توظيف هذه النظرية في تشتيت أذهان الناس عن القضية الرئيسية، وتعطيل قدرات الباحثين في تشخيص الواقع، وبالتالي ضياع بوصلة الحدث والهدف والاتجاه. ولكن هذا لا يعني كما أسلفنا عدم وجود مؤامرات واقعية، لكن يعني عدم الاتكاء عليها في تفسير الواقع وتشخيصه واتخاذ الموقف السليم منه.
المكر في القرآن الكريم:
وقد ورد في القرآن الكريم لفظة "المكر" التي تعني في اللغة التدبير والتخطيط والحيلة، وفي عدة آيات هي:
سورة الأنعام آية ١٢٣،١٢٤، سورة الأنفال آية ٣٠، سورة يوسف آية ١٠٢، سورة النحل آية ١٢٧، سورة النمل آية ٧٠، سورة فاطر آية ١٠.
وكل هذه الآيات تتفق على التالي في موضوع المكر:
١.هي الحيلة والخداع واللف والدوران، والعمل بخفاء، والدسيسة.
٢.المكر استخدم في مواجهة الأنبياء أي مواجهة الحق، ومحاولة حجب الحقيقة عن الناس.
٣.اللجوء إلى المكر كان من قبل أصحاب المصالح والنفوذ، الذين وجدوا أن رسالة الأنبياء سيسبب ضررا لنفوذهم ومصالحهم، بالتالي أجمعوا أمرهم على نصب المكائد والمكر ضدهم لإفشال مشاريعهم الإصلاحية التي تعمد إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.
٤.أن هناك مكر مضاد من الله، يفشل مكرهم ويجعل عواقبه الوخيمة ترد على الماكرين، وأن الله يحث أصحاب راية الحق على أن يتفكروا ويتنبهوا ولا يغفلوا عن أعدائهم.
٥.المكر له بعدان: بعد شيطاني غايته الصد عن الحق، ومنع الإصلاح وإقامة العدالة الاجتماعية، وبعد رباني هدفه مواجهة الفاسدين وإفشال مخططاتهم، وتحقيق الإصلاح وإزالة الحجب عن عقول الناس لفهم الحق وتحقيق العدالة، وردع مكر الطغاة فيحيق المكر السيء بأهله وبمن قام به.
فالمكر وسيلة تم اللجوء إليها تاريخيا ووضحت قرآنيا، لكن القرآن قدم معالجات منهجية ابتعدت عن الركون للتفسير المؤامراتي الصرف، وفعّلت عقل الإنسان في التنبه الدائم والاستعداد المستديم، في ردع المكر والماكرين، من خلال فهم الواقع ودراسته وتشخيصه ومن ثم مواجهة ملابساته بمنهجية تفشل أي محاولات تمنع تحقيق العدالة والإصلاح، مواجهة واقعية تؤسس لمنهجية عمل تطابق معطيات الواقع وملابساته الزمانية والمكانية، وتبتعد عن الركون للتفسيرات السطحية التي لا تتناسب ودعوة القرآن للإعداد المكين وفق الاستطاعة في مواجهة أعداء الله.