هل ستنتهي مسيرة جيرمي كوربن الطويلة بوصوله إلى الحكم؟
مقالات
هل ستنتهي مسيرة جيرمي كوربن الطويلة بوصوله إلى الحكم؟
إيان واتسون
8 كانون الأول 2019 , 07:23 ص

 

إيان واتسون

 

 

زعيم "بالصدفة"

Jeremy Corbyn speaking to supporters in Middlesborough Town Hall during his leadership campaign - 18 August, 2015

نلقي الضوء على زعماء الأحزاب السياسية الرئيسية التي ستخوض الانتخابات العامة في بريطانيا في الـ 12 من كانون الأول / ديسمبر.


"لدي وجهة نظر تقول إن كل شخص جديد أقابله يعرف شيئا لا أعرفه - وأننا يمكن أن نتعلم من بعضنا البعض"

كان جيرمي كوربن يتحدث إلي قبل أن يلقي خطابه الـ 87 في حملته لتزعم حزب العمال في عام 2015.

لم يظهر في ذلك الخطاب أنه كان ستالينيا أو تروتسكيا، وهي العبارات التي كانت تستخدمها الصحف الشعبوية لوصفه أو لاستسخافه وادانته.

ولكن كوربن لم يلق ذلك الخطاب في مؤتمر محلي لحزب العمال، أو في مظاهرة مناهضة للحرب، أو حتى في حفل لعمال المناجم في بلدة دورهام.

ألقى خطابه في قاعة في تشيلمسفورد (التي فاز بها المحافظون في الانتخابات الأخيرة بأكثر من 18,250 صوت) وكانت القاعة مليئة بالكامل، في منطقة قد يعتبرها كثيرون "أرضا معادية للعمال".

إذ حصل جيرمي كوربن على استحسان الطبقة المتوسطة أو دون المتوسطة المتمثلة في مقاطعة أسكس التي تقع إلى الشمال الشرقي من العاصمة لندن.

 

 

 جيريمي كوربين يلقي كلمة في تجمع في بلدة تشيلمزفورد الإنجليزية في أيلول / سبتمبر 2015

جيرمي كوربن يلقي كلمة في تجمع في بلدة تشيلمزفورد الإنجليزية في أيلول / سبتمبر 2015

لم يكن له أسلوبا مميزا، ولم يكن متحدثا لبقا، كما لم يتميز بروح دعابة . ولكنه كان يتميز بخصال أخرى.

قد يكون ذلك عائدا لقناعاته السياسية الراسخة، المجبولة بشخصيته المفتقرة للنعومة والحيلة، وهي شخصية اجتذبت الكثيرين.

قد يكون كوربن توصل إلى ما يهم الناس في هذا العصر. ففي زمن يتسم بالخيبة في النخب السياسية، أصبحت قلة الخبرة خصلة إيجابية.

لم يكن كوربن يوما وزيرا في الحكومة، ولم يكن يوما وزيرا في حكومة الظل. فلم يكن كوربن معروفا خارج حلقة السياسة اليسارية في بريطانيا.

كانت الرحلة التي تحول كوربن فيها من شخصية غير معروفة إلى ظاهرة سياسية يشار لها بالبنان سريعة وغير متوقعة.

فبوجب القوانين الحزبية التي غيّرت في الفترة الأخيرة، كان يتوجب على المرشحين أن يحصلوا على تأييد 35 من نواب البرلمان من أجل أن يتأهلوا لزعامة حزب العمال.

وتمكن كوربين من تخطي هذه العقبة في غضون دقيقة واحدة و45 ثانية قبل اغلاق فترة الترشيحات ظهر يوم الـ 15 من حزيران / يونيو.

كان أقل من نصف النواب الذين أيدوا ترشح كوربن من الجناح اليساري لحزب العمال. أما الآخرون، فكانوا نوابا يرغبون في اجراء حوار مفصل حول مستقبل الحزب، ودعموه من أجل ذلك.

لم يجر تفكير معمق حول شخصية النائب الذي كان سيصبح مرشح يسار حزب العمال لزعامة الحزب، حسب ما قال كوربن لصحيفة الغارديان، الذي أضاف "قررنا بأن أحدا منا يجب أن يرشح نفسه، ولسوء الحظ كنت أنا الفائز." وقال "حاولت النائبة ديان أبوت والنائب جون مكدونيل ذلك في السابق، ولذا جاء دوري".

وبالرغم من أنه دخل المنافسة بشكل متعثر، كانت حملته منظمة تنظيما احترافيا.

فبفضل الإصلاحات التي أدخلها زعيم الحزب السابق إد مليباند، لم يقتصر حق التصويت على أعضاء الحزب فقط وإنما شمل أيضا مؤيدي الحزب المسجلين.

وشُجّع اولئك الذين يتخذون مواقف إلى اليسار من حزب العمال من خلال منابر الاجتماعي على التسجيل كأعضاء في الحزب.

عاد إلى كنف الحزب العديد من الذين تركوه إبان فترة زعامة توني بلير، كما أبدى كثيرون من أعضاء حزب الخضر الحاليون والسابقون حماسا كبيرا للانضمام لحزب العمال. علاوة على ذلك، أبدى العديد من الناس الذين لم تكن لهم أي علاقة بالسياسة البتة ميلا لرسالة كوربن المميزة المعادية لسياسة التقشف.

 

أيلول / سبتمبر 2015: مؤيدون لكوربين ينتظرون اعلان نتيجة التصويت في انتخابات زعامة حزب العمال خارج مبنى البرلمان

أيلول / سبتمبر 2015: مؤيدون لكوربين ينتظرون اعلان نتيجة التصويت في انتخابات زعامة حزب العمال خارج مبنى البرلمان

 

حصلت حملة كوربن لزعامة حزب العمال على دعم قوي ليس بسبب معارضتها لخفض المحافظين لميزانية المعونات الاجتماعية، بل لمعارضتها لقيادة الحزب آنذاك التي كانت تنوي الامتناع عن التصويت على برنامج خفض المعونات.

قد يكون مدى جاذبية كوربن مثار استغراب العديد من رفاقه النواب العماليين، ولكنه كان قد أسس لقاعدته بعد سنين عديدة من النضال.

فعندما كان تلميذا في مدرسة ثانوية في مقاطعة شروبشير، أسس كوربن جماعة وريكين للاشتراكيين الشباب، وحرر مجلة ونظم وقفات احتجاجية ضد التسلح النووي وحرب فيتنام.

كان ذلك أساسا قويا لشخصية بنت التحالف المناهض للحرب في عام 2001، وهو تحالف أُسس أصلا لمعارضة غزو أفغانستان عقب هجمات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، ولكنه ازداد قوة ونفوذا قبيل الغزو الغربي للعراق في عام 2003.

فقد شارك في احدى المظاهرات التي نظمها التحالف المناهض للحرب في قلب العاصمة البريطانية لندن أكثر من 750 ألف شخص، حسب تقديرات الشرطة (وقال منظمو الممظاهرات إن عدد المشاركين كان أكبر من ذلك)، وشارك في تلك المظاهرة ناشطون من عدة أحزاب سياسية.

وبقدر لا بأس به من الذكاء والحكمة، روّج الموقع الخاص بالتحالف المناهض للحرب (Stop The War Coalition) في عام 2015 لرابط يتيح للمتصفحين التسجيل كمؤيدين لحزب العمال والتصويت لكوربين كزعيم للحزب. ونشر الموقع أيضا دليلا عنوانه "كيف يمكن لك أن تصوّت لكوربن كزعيم للحزب"، داعيا إلى تأييد "رسالته القوية البديلة للحرب والتقشف".

 

في أيلول/ سبتمبر 2015 اختير كوربن زعيما لحزب العمال

في أيلول/ سبتمبر 2015 اختير كوربن زعيما لحزب العمال

وسدد كوربن دينه للتحالف عندما اعتذر، بوصفه زعيما لحزب العمال، لمشاركة الحكومة العمالية السابقة التي كان يرأسها توني بلير في غزو العراق.

وكانت لخلفية جيرمي كوربن النقابية منافع استفاد منها. كان كوربن ناشطا في النقابة الوطنية للخياطين والعاملين في مجال صنع الملابس، ثم في نقابة الخدمات العامة في السبعينيات، ولذا كان متقبلا تماما لتمويل النقابات لحملته. وكانت النقابة الأقوى تأييدا له نقابة (يونايت) تحت قيادة لين مكلاسكي اليسارية التي أصبحت من أقوى مؤيديه في السنوات المقبلة.

وفي الـ 12 من أيلول / سبتمبر 2015، أنتخب كوربن زعيما لحزب العمال، وذلك بعد أن فاز بعدد أكبر من الأصوات من منافسيه الثلاثة: الوزيرين السابقين أندي بورنام وييفيت كوبر ومن وزيرة الظل السابقة ليز كيندال. وفاز كوربين بعدد من الأصوات فاق ما حصل عليه الثلاثة مجتمعين.

ثوري على طول الخط

قد يتذكر بعضهم ثمانينيات القرن العشرين بأنها كانت الحقبة التاتشرية، ولكن في حقيقة الأمر كانت العاصمة لندن تدار في جزء كبير من ذلك العقد من قبل سياسيين يساريين مصممون على مواجهة ومجابهة حكومة تاتشر المحافظة بأي أسلوب ممكن. فقد رئس اليساري كين ليفينغستون مجلس بلدية لندن منذ عام 1981 إلى حين حله في عام 1986، وفي حي إيزلينغتون، كان العلم الأحمر يرفرف على سقف مقر المجلس البلدي.

وكان جيرمي كوربن من أكبر المشاركين في هذه الهبة اليسارية.

فقد أُنتخب ممثلا لحزب العمال في حي هارينغي اللندني في عام 1974، حيث رئس لجنة التخطيط في المجلس المحلي لذلك الحي. ويقول رئيس مجلس هارينغي السابق، اللورد توب هاريس، "عرفته منذ أكثر من 40 سنة، ولن تتغير مفاهيمه السياسية قط منذ ذلك الحين".

 

1975: Jeremy Corbyn (left), then a Haringey borough councillor, with colleague Les Silverstone

يخالف كوربن أولئك الذين يقولون إنه مجرد ناشط محلي مهتم بالسياسة على حساب أي أمر آخر.

فزوجته الأولى، جين تشابمان، التي كانت هي الأخرى عضوة مجلس بلدي عمالي، كانت تظن أنه كان يقضي وقتا أكثر في الاجتماعات السياسية مما كان يقضي معها.

إنفصل الزوجان في عام 1979، وبعد ذلك، قالت طليقته لصحيفة ديلي ميل: "لم نفعل الأمور التي كنت أريدها، كالذهاب إلى السينما أو إلى نوادي الليل. كنت أريد توازنا أكثر مختلفا بين العمل والحياة".

كان جيرمي كوربن في ذلك الوقت قد أصبح نباتيا، وقالت تشابمان "إنه لم يكن يبدي أي اهتمام بالطعام إطلاقا، وكان سعيدا بتناول الفاصولياء من العلبة دون أي طهي".

بعبارة أخرى، كان هذا المناضل ضد التقشف يعيش حياة متقشفة. ويصف كوربن نفسه اسلوب حياته بأنه كان "مقترا".

يقول هاريس إن كوربن كان من أقوى المعارضين لاجراءات خفض الإنفاق في القطاع العام (كان ذلك إبان حكم حزب العمال بين عامي 1974 و1979). ولكن اهتمامات كوربن السياسية كانت تتعدى دائما اهتماماته المحلية. ويقول هاريس في هذا المجال "كان يتعاطف بقوة مع حركات التحرر الوطنية في شتى أرجاء العالم".

لم يشذ جيرمي كوربن في ذلك المنحى عما تعلمه من والديه. فوالداه ديفيد وناومي إلتقى في تجمع عقد في لندن في ثلاثينيات القرن الماضي لمعارضة محاولة الجنرال فرانسيسكو فرانكو للاستيلاء على السلطة في إسبانيا.

 

 جيريمي كوربين في عام 1984، عندما كان العضو المنتخب حديثا في دائرة شمال إيزلينغتون

جيرمي كوربن في عام 1984، عندما كان العضو المنتخب حديثا في دائرة شمال إيزلينغتون

وقبل أن يترشح لأي منصب منتخب، قرر كوربن الشاب أن يعمل عملا تطوعيا خارج البلاد. ففي أواخر ستينيات القرن الماضي، قضى سنتين كمتطوع في جامايكا، كما قام برحلات كثيرة في بلدان أمريكا اللاتينية.

قال لي ذات مرة: "ليس لدي إلا القليل من المؤهلات (وكان قد ترك الدراسة في معهد شمال لندن للعلوم التطبيقية)، ولكني مولع بالقراءة، وأقرأ الكثير".

أصبح جيرمي كوربن نائبا في مجلس العموم عن دائرة شمال إيزلينغتون في انتخابات 1983. واستفاد في ذلك من الإنقسام الذي شهده آنذاك حزب العمال، إذ كان النائب العمالي في الدائرة قد انشق وانضم إلى حزب الديمقراطيين الاجتماعيين حديث التشكيل، مما خلق فراغا ملأه كوربن.

ورغم فوزه بالمقعد لحزب العمال، مني الحزب بخسارة ماحقة على النطاق الوطني بسبب برنامجه الذي شمل عددا من الوعود التي كان ينادي بها كوربن، ومنها الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وحظر الأسلحة النووية.

في العقود الثلاثة التالية، نال كوربن شهرة لنصرته لقضايا قريبة من قلبه، كمعارضة نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا ونظام أوغستو بينوشيت العسكري التسلطي في تشيلي.

كانت زوجة كوربن الثانية كلوديا براشيتا قد فرت من تشيلي بصحبة والديها ولم يكن لها من العمر إلا 11 عاما، هربا من الانقلاب العسكري اليميني الذي أطاح بحكومة الرئيس سلفادور أليندي اليسارية المنتخبة ديمقراطيا.

وكان من شأن الدعم والتأييد الذي حظي به الإنقلابي التشيلي بينوشيت من جانب عناصر في الادارة الأمريكية أن يعزز من شعور كوربين بالتشكك من التدخلات الأمريكية في أنحاء العالم، وهي شكوك لم تزل رغم مرور الزمن.

وبينما كانت بعض من الحملات التي قادها كوربن قد حببته إلى اليساريين، فهي أسهمت أيضا في إبقائه في المقاعد الخلفية في مجلس العموم. فقد كانت بعض القضايا التي دعمها تعد مثيرة للجدل في صفوف حزب العمال ناهيك عن الجمهور العام.

وبينما نال كوربن قدرا من الاحترام - بعد تشكيك أولي - حول دعمه وتأييده للذين نفذوا هجمان غيلدفورد وبيرمينغهام، الذين أدينوا ظلما بالضلوع في هجمات إرهابية، كان تأييد كوربن لتوحيد الجزيرة الإيرلندية أكثر مجالا للجدل والخصام.

فقد اختلف اختلافا كبيرا مع زعيم حزب العمال آنذاك نيل كينوك، عندما دعا إثنان من كبار السجناء الجمهوريين الآيرلنديين الشماليين، اللذان لم يجرّمان بطريق الخطأ، إلى مجلس العموم في عام 1984. حصل هذا بعد أسابيع فقط من قيام الجيش الجمهوري الإيرلندي بتفجير فندق "غراند هوتيل" في مدينة برايتون الساحلية أثناء انعقاد مؤتمر حزب المحافظين وهو الهجوم الذي أوشك على قتل رئيسة الحكومة مارغريت تاتشر.

وكان كوربن يصور نفسه في ذلك الوقت، كما يصور نفسه الآن، على أنه نصير عملية السلام في إيرلندا.

لم يكن كينوك الزعيم العمالي الوحيد الذي اختلف معه كوربن، فقد خالف حكومة توني بلير العمالية 533 مرة في مجلس العموم، كما صوّت بشكل متواصل ضد قيادة أد مليباند الأكثر يسارية من حكومة بلير.

في اجتماع عقد للتضامن مع الشعب الفلسطيني في عام 2009، أشار كوربن إلى "أصدقائنا في حزب الله" و"أصدقائنا في حماس". وعندما انتُقد على تلك التصريحات، دافع عن نفسه باستخدام نفس الحجج التي سبق له أن استخدمها عند لقائه مع الجمهوريين الإيرلنديين. وقال لبرنامج القناة التلفزيونية البريطانية الرابعة حينئذ "يتوجب عليك أن تتحدث إلى أناس تختلف معهم جذريا في وجهات النظر من أجل التوصل إلى السلام".

كانت وجهة النظر هذه هي التي اعتمدها كوربن بداية في زعامته لحزب العمال.

مسألة زعامة

وجد جيرمي كوربن، الزعيم العمالي المنتخب الجديد في عام 2015، في وضع غريب. فكان يتمتع بتأييد كبير من جانب أعضاء ومؤيدي الحزب الجدد، ولكن ليس من جانب زملائه من نواب مجلس العموم.

فبالنسبة لكثيرين من أعضاء مجلس العموم، بدا جيريمي كوربين أكثر ضعفا وتشددا من أن يتقبله معظم الناخبين. كان حزب العمال متخلفا عن الأحزاب الأخرى حسب استطلاعات الآراء، وبدا أن الحزب سيمنى بهزيمة أكبر من تلك التي مني بها زعيم الحزب مايكل فوت في انتخابات 1983.

رفض كثير من النواب أن يصبحوا أعضاء في حكومة الظل التي كان يرأسها كوربن، رغم محاولاته التقرب منهم. فقد أصبح منافسه أندي بورنهام وزير داخلية الظل، كما خدمت أنجيلا إيغل، التي حاولت الإطاحة به فيما بعد وزيرة ظل أيضا.

 

أزيح هيلاري بين من منصبه كوزير خارجية الظل عقب خلافات حول الضربات الجوية على سوريا

أزيح هيلاري بين من منصبه كوزير خارجية الظل عقب خلافات حول الضربات الجوية على سوريا

لم تمض فترة طويلة على زعامة كوربن قبل أن تظهر إلى السطح توترات في صفوف الحزب. فبعد ثلاثة أشهر فقط من توليه زعامة الحزب، قررت الحكومة توسيع نطاق الضربات الجوية في سوريا. وغضب كوربن غضبا شديدا عندما انحاز وزير خارجية الظل هيلاري بين علنا مع المحافظين في تأييد توسيع الضربات الجوية. صوّرت تلك الحادثة البون الشاسع بين نواب الحزب في مجلس العموم من جهة وقاعدته التي تؤيد مواقف كوربن من جهة أخرى.

واحتدمت الأمور في أعقاب استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي في عام 2016. فقد قال نواب عماليون إن التأييد الضعيف الذي أبداه كوربن لحملة البقاء في الإتحاد الأوروبي أسهم في هزيمة هذه الحملة.

كان النواب العماليون في مجلس العموم قد ناقشوا قبيل الاستفتاء مؤامرة للاطاحة بكوربن، تم تنفيذها عقب الاستفتاء. فقد صوّت 8 من رفاق كوربن البرلمانيين الـ 10 بسحب الثقة عنه، كما قدّمت شخصيات بارزة في حكومة الظل استقالاتها.

وقيل لي إن كوربن كان يوشك على الاستقالة في تلك الفترة، ولكن، وحسب قول مديرة مكتبه آنذاك كيتي كلارك، شعر الزعيم العمالي بأنه سيخذل قاعدة الحزب التي وضعت ثقتها به إن فعل ذلك.

ورفض حليف كوربن، الزعيم النقابي لين مكلاسكي، التوسط في التوصل إلى صفقة يتخلى كوربن بموجبها عن زعامة الحزب قبل الانتخابات العامة التي كان مقررا لها أن تجرى في عام 2020.

 

حزيران / يونيو 2016: حركة "مومينتوم" تنظم مظاهرة تضامن مع كوربين أمام مقر البرلمان في لندن عقب صدور دعوات بإقالة الزعيم العمالي

حزيران / يونيو 2016: حركة "مومينتوم" تنظم مظاهرة تضامن مع كوربن أمام مقر البرلمان في لندن عقب صدور دعوات بإقالة الزعيم العمال

كانت تلك هي الفترة التي صعد فيها نجم حركة "مومينتوم" ("العزم" أو "الاندفاع"). كان الهدف من تأسيس هذه الحركة - والتي رأسها اليساري المخضرم جون لانسمان ووزير مالية الظل وأقرب حلفاء كوربن، جون مكدونيل - حشد التأييد لحكومة يسارية مستقبلية.


قال لانسمان "توقعنا منذ البداية أن الجماهير ستقاوم، ولذا كنا على على استعداد عندما بدأت هذه المقاومة". وبالفعل ارتفع عدد المنضوين تحت لواء "مومينتوم" من 2000 قبل ما يصفه لانسمان "بالانقلاب" إلى 20,000. وتضاعف عدد أعضاء الحركة منذ ذلك الحين.

ورغم أن كوربن كان ينظر اليه من قبل كثير من نواب مجلس العموم - وفي أحسن الأحوال - على أنه برلماني متواضع في أفضل الأحوال، أعاد له التحدي لزعامته ثقته بنفسه.

وفعل كوربن ما يجيده، ألا وهو مخاطبة مؤيديه ومحاولة نشر رساله في عموم البلاد.

وتشير احصاءات قام بها مشروع ESRC لاعضاء حزب العمال إلى أن معظم الذين انضموا إلى الحزب قبل عام 2015 كانوا يؤيدون منافس كوربن لزعامة حزب العمال أوين سميث، ولكن الغالبية العظمى من الأعضاء الجدد كانوا يؤيدون زعامة كوربن.

كان فوز كوربن الثاني بزعامة الحزب فوزا سهلا، ونتج عنه تشكيل حكومة ظل أقرب إلى سياساته.

أما قاعدة الحزب، التي كانت غاضبة من محاولة الإطاحة بكوربن، فقد صوتت لهيئة تنفيذية وطنية تؤيد وجهات نظره وسياساته.

وعندما دعت رئيسة حكومة المحافظين تيريزا ماي في عام 2017 إلى انتخابات عامة، قلل العديد من مستطلعي الآراء (ولكن ليس كلهم) من حظوظ حزب العمال (وكانت من ضمن هؤلاء الشركة التي كانت تعمل ضمن قيادة الحزب).

قد تؤدي النتائج الضعيفة التي قد يحققها العماليون في الانتخابات إلى تشكيل حملتين لمواجهة كوربن.

وصفت التجمعات السياسية التي يحييها كوربن في الدوائر الهامشية أثناء حملة 2017 الانتخابية بأنها كانت عبارة عن محاولات لإقناع المقتنعين أصلا.

ولكن أداء تيريزا ماي كان أداء مرتبكا وسمجا، بينما كان كوربن يرفل بالتأييد الذي يلقاه في حملته الانتخابية.

 

وفاجأ كوربن العديد من أعضاء حزبه عندما فاز العمال بـ 40 في المئة من الأصوات في انتخابات 2017. أتذكر إني كنت تحدثت مع أحد استراتيجيي الحزب عقب اعلان نتائج الانتخابات سائلا إياه "كيف تمكنتم من تحقيق ذلك؟"، وكان رده "ليس لدي أي فكرة، فقد بذلنا جهودا عبر منابر التواصل الاجتماعي، ولكن لم تكن لنا أي فكرة حول فعاليتها".

فاز كوربن بأكبر نسبة من الأصوات للعمال منذ عام 1997 (بالرغم من أن توني بلير فاز بأغلبية ساحقة في عام 1997 بينما خسر كوربن الانتخابات)، وتمكن من قيادة العمال إلى الفوز بأكبر زيادة في نسبة الأصوات منذ الفوز الكاسح الذي حققوه في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

يعتقد كوربن بأن النجاح النسبي الذي حققه حزب العمال في انتخابات 2017 يعود إلى ما جاء في بيان الحزب الانتخابي الذي كان كان يختلف اختلافا جذريا ليس عن المحافظين فحسب بل عن "حزب العمال الجديد" الذي كان يقوده توني بلير الذي انتهى "فجره الجديد" في ظلمة الانهيار المالي الكبير الذي مر به العالم في عام 2008. فكان برنامج كوربن يدعو إلى رفع الضرائب على الأثرياء وتأميم خطوط سكك الحديد وشركات المياه.

كما كانت للنتائج الطيبة التي حققها حزب العمال في انتخابات 2017 علاقة قوية بمحاولة الحزب الاحتفاظ بمؤيديه القدامى والجدد ذوي التوجهات اليسارية - وهو أمر يسّرته حملة حزب المحافظين الضعيفة وضعف البديل المتمثل في حزب الديمقراطيين الأحرار.

في أعقاب تلك الانتخابات، تغيرت النبرة المتهكمة التي كان الاعلام والصحافة يتناولون كوربن بها، وقل عدد الذين يسخرون من احتما أن يصبح يوما رئيسا للحكومة.

وفي أعقاب تلك الانتخابات مباشرة، ارتفعت شعبية كوربن - التي كانت قد دنت - إلى أعلى من شعبية رئيسة الحكومة ماي نفسها.

وحصل كوربن على مديح وثناء من الحاضرين في مهرجان غلاستونبري الموسيقي، حيث ألقى كلمة من على مسرح الهرم الرئيسي، الذي كان حكرا على كبار موسيقيي الروك.

 

Festival goers at Glastonbury holding aloft a placard reading "Ohhh Jeremy Corbyn"
 

وقال كوربن في كلمته "أخطأ المعلقون والنخب. فالسياسة مرتبطة بحياتنا كلنا، والحملة العظيمة التي شاركت فيها والتي كان لي شرف قيادتها جذبت الناس إلى السياسة لأنهم رأوا بأن في هذا المجال منافع لهم".

ولكن ثمن الشعبية هو الرقابة.

ولكن فترة رئاسة كوربن الثانية للحزب لم تخل من كبوات، إذ يرى بعض النقاد أنه ارتكب هفوات قد تؤرقه إذا وصل إلى رئاسة الحكومة.

 

مسألة تقدير؟

يقول أحد رفاق جيرمي كوربن المقربين ما يلي:

"عليكم أن تفهموا أن جيرمي يتفاعل مع القضايا، ولكنه يتفاعل ببطئ شديد".

ولكن في زمن يتحرك فيه الاعلام بسرعة كبيرة، يتساءل البعض عن ما اذا كان كوربن يتمتع بالمرونة اللازمة لتغيير مواقفه - خصوصا عندما تكون هذه المواقف عصية عن الدفاع عنها - أو ما إذا كان يتمتع بقابلية التقدير لتحصين نفسه ضد تلك القضايا التي أصبحت قاتلة.

فقد أوضح كوربن في العديد من المناسبات أنه يعارض "معاداة السامية وكل أشكال العنصرية"، ولكنه ما زال يتعرض للانتقاد من قبل بعض أعضاء حزبه لعدم تدخله في الوقت المناسب لوأد معاداة السامية".

 

 

يذكر أن فوزه بزعامة حزب العمال جذبت إلى صفوف الحزب العديد من الناشطين الذين كانوا اعضاء في احزاب إلى اليسار من حزب العمال، كما جذبت ناشطين عماليين كانوا قد تركوا الحزب نتيجة موقفه من غزو واحتلال العراق.

يتمسك كوربن برأي مرشده الراحل توني بين، وهو الرأي القائل "لا يوجد لنا اعداء من اليسار". عارض كوربن خطوة زعيم الحزب السابق نيل كينوك بطرد ناشطي حركة "ميليتانت" من الحزب في ثمانينيات القرن الماضي، شأنه شأن العديدين من العناصر اليسارية في الحزب التي وصفت تلك الخطوة بأنها حملة ظالمة".

ولكن حركة "ميليتانت" لم تكن مجرد تجمع لمؤيدي حزب العمال من اليساريين، بل كانت واجهة للعصبة الثورية الاشتراكية، وهي جماعة تروتسكية كانت تنوي التسلل إلى حزب ديمقراطي اشتراكي لا ثوري. ولذا يمكن القول إن كوربن كان راض دائما على ابقاء الباب مفتوحا لليسار في نطاق خيمة حزب العمال الواسعة.

وتزامن انضمام - أو اعادة - عدد من اليساريين المنتقدين للسياسات الإسرائيلية وللسياسات الغربية في الشرق الأوسط مع تصاعد الاتهامات بمعاداة السامية.

ورغم أن عدد هذه الحالات ما زال صغيرا، كان لها أثرا سياسيا كبيرا.

ازداد العديد من مؤيدي كوربن صخبا في منصات التواصل الاجتماعي عقب محاولة الإطاحة به في عام 2016.

تقول مصادر مطلعة إن هؤلاء المهللين لم يفيدوا كوربن بادعاءاتهم أن الموضوع (موضوع معاداة السامية) هو أساسا دعاية ضد زعامة كوربن، ولكن مسؤولين في الحزب كشفوا عن نماذج من معاداة السامية في أوساط بعض من مؤيديه.

وتوصل استطلاع للآراء أجرته مؤسسة "يو غوف" نيابة عن الحملة المكافحة لمعاداة السامية إلى أن أكثر من 8 من كل 10 ناخبين يهود يعتقدون بأن حزب العمال أصبح أكثر تساهلا من اللازم مع ظاهرة معاداة السامية، وأن ذلك يشوه سمعة الحزب الذي اشتهر مناهضته للعنصرية.

إن كان هذا التصور صحيحا أو لم يكن، فإن مسألة معاداة السامية تثير أسئلة حول مؤهلات كوربن القيادية.

وتسببت محاولاته لإضافة عدد من التحفظات لتعريف معاداة السامية الذي وضعه التحالف الدولي لاستذكار المحرقة، وذلك بالقول إنه من الضروري حماية حرية التعبير في ما يخص اسرائيل عند الشروع في معاقبة أعضاء الحزب، في احتكاكات حتى في صفوف الجناح اليساري من حزب العمال.

كما ثارت شكوك حول قابلية كوربن على التقدير والحكم عندما كُشِف أنه قد دافع في عام 2012 عن جدارية صورت مصرفيين وهم يلعبون لعبة "مونوبولي" على ظهور الفقراء.

اعتبر كثيرون هذه الجدارية نموذجا كلاسيكيا لمعاداة السامية، وكانت منهم النائبة العمالية اليهودية (التي تحولت لاحقا إلى حزب الديمقراطيين الأحرار) لوشيانا بيرغر، التي أثارت الموضوع علنا.

أجبر كوربن على الدفاع عن نفسه، قائلا إنه كان ينبغي عليه التبحر بشكل أعمق في الجدارية.

وبالفعل، فقد سرّعت السياقات التي يتبعها الحزب للتعامل مع شكاوى معاداة السامية. ويشير مؤيدو كوربن إلى أنه لم يقف حائلا دون طرد حليفه المقرب كين ليفينغستون، وأنه لم يحاول منع توبيخ رفيق مقرب آخر، عضو مجلس العموم عن دائرة داربي كريس ويليامسون، لقوله إن الحزب "تنازل كثيرا" في هذا الموضوع.

ولكن حزب العمال يخضع الآن لتحقيق من جانب مفوضية المساواة وحقوق الإنسان، وثمة مخاوف من أن زعامة كوربين قد تقوّض إلى حد بعيد إذا أصدرت المفوضية تقريرا سلبيا بحق الحزب.

وجهت هذه الادعاءات التي حظيت بقدر كبير من التغطية الإعلامية ضربة سياسية قوية لكوربن، فقد قللت من الثقة به كزعيم وفضحت الانقسامات الداخلية في الحزب وقوضت من زعمه بأنه يمتلك الناصية الأخلاقية.


 

 

قد يعتقد اللورد هاريس أن مواقف جيرمي كوربن ما زالت متشددة، ولكن موقفه إزاء عدة قضايا أصبحت أكثر اعتدالا ومرونة. لنأخذ على سبيل المثال موقفه من نزع السلاح النووي احادي الجانب، وهو موقف كافح من أجله منذ عام 1983.

فقد طالب العديدون من أنصار كوربن في النقابات العمالية منه أن يجدد ويطور الرادع النووي، ولكنه لم يغير سياسة حزبه المطالبة بنزع السلاح النووي المتبادل وليس الأحادي.

ولكن ذلك لا يعني أنه اقتنع بفكرة الردع النووي. ففي أول مؤتمر حزبي حضره كزعيم في عام 2015، أوضح بما لا يدع مجالا للشك بأنه لن يضغط على الزر النووي أبدا.

كما أبدى كوربن قدرا من المرونة فيما يخص موضوع خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي (بريكست).

وهناك سبب منطقي لاتخاذه ذلك الموقف. ففي المحاولة الفاشلة للاطاحة به في عام 2016، اصطفت معه قاعدة الحزب ضد البرلمانيين الذين كانوا يريدون التخلص منه.

ولكن فيما يتعلق بموضوع الخروج من الإتحاد الأوروبي - بريكست - كانت القاعدة أكثر توافقا مع نواب مجلس العموم، إذ كانت تؤيد البقاء في الإتحاد وتؤيد إجراء استفتاء ثان.

 

Labour activist wearing a "Love Corbyn Hate Brexit" t-shirt and holding another in his hand
 

ويبدو أن آراء كوربن نفسه قد تطورت في هذه الفترة، إذ أصبح يتقبل - ولو أنه لا يعتنق - تطلعات أعضاء الحزب الشباب المؤيدين للإتحاد الأوروبي. ولكن منتقديه يقولون إنه كان ينبغي عليه أن يتخذ موقفا أكثر تأييدا للبقاء في الإتحاد.

كان كوربن قد عارض إنضمام بريطانيا في التجمع الاقتصادي الأوروبي (كما كان يعرف آنذاك) في الاستفتاء الذي أجري في عام 1975، وأيد ما جاء في البيان السياسي الذي أصدره حزب العمال في عام 1983 فيما يخص الدعوة للانسحاب من الإتحاد الأوروبي. وكان كوربن - كما كان بين - يشكك في منظمة يعتقد بأنها تدار من قبل بيروقراطيين غير منتخبين في بروكسل يمتلكون نفوذا كبيرا ويؤثرون في سياسات الدول الأعضاء بما في ذلك القدرة على اصدار القوانين في هذه الدول.

وفي استفتاء عام 2016 (حول الانسحاب من الإتحاد الأوروبي) تحدث كوربن في العديد من الاجتماعات المؤيدة لمبدأ البقاء في الإتحاد، ولكن النواب العماليين شعروا بأنه لم يبد أي شيء من الحماس.

وقال لي واحد من أولئك النواب في ذلك الحين "إنه مهتم أكثر بموضوع توزيع الطعام على المحتاجين من موضوع الفدرالية الأوروبية".

وقال عضو بارز في حركة "مومينتوم" إنه يظن بأن كوربن يأمل في "التخلص من مسألة بريكست" والانتقال إلى القضايا المهمة فعلا لحياة الناس.

وكان كوربن قال في مقابلة مع القناة التلفزيونية البريطانية الرابعة قبيل استفتاء 2016 إن حماسه لبقاء بريطانيا في الإتحاد الأوروبي "يقع في النصف الأعلى من مقياس 5 إلى 10، 7 أو ربما 7,5 من 10".

ولكنه أضاف بسرعة - أو ربما بتسرع كما قال البعض - إنه سيتقبل نتيجة الاستفتاء.

حاول كوربن التوصل إلى اتفاق لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الأيام الأخيرة لزعامة تيريزا ماي، ولكنه تخلى عن هذه المحاولة لأسباب يقال إن لها علاقة بمخاوف من عجز ماي عن اقناع عدد كاف من نوابها لدعم ذلك الاتفاق.

ولكنه غيّر موقفه مرة أخرى، فهو يطالب الآن باستفتاء ثان شريطة أن يكون خيار البقاء في الإتحاد الأوروبي مدرجا في قائمة الخيارات في حال تمكن حزب العمال من الفوز في الانتخابات المقبلة.

ومازال كوربن يرغب في التوصل إلى ما يطلق عليه "خيار خروج معقول" من أجل منح الناخبين حق الخيار.

ولكن الأمر المهم أن كوربن غيّر موقفه ليس بسبب الضغوط التي سلطها عليه منتقديه.

فقد تعالت أصوات عناصر يسارية مؤثرة في حزب العمال تطالب الحزب باتخاذ موقف أكثر وضوحا بشأن اتخاذ موقف مؤيد لبقاء بريطانيا في الإتحاد الأوروبي، خصوصا بعد النتيجة الكارثية التي مني بها الحزب في الانتخابات الأوروبية في أيار / مايو 2019.

ومن هذه الأصوات جون مكدونيل ووزيرة داخلية الظل ديان أبوت ووزير الخزانة في حكومة الظل كلايف ليويس. ولكن الموقف الذي يتبناه كوربن يعد بالنسبة للبعض في يسار الحزب متزمتا. فكوربن ما زال مصرا ألا يجعل من حزب العمال حزبا مؤيدا تماما للبقاء في الإتحاد الأوروبي.

وقيل لي إن هذا خط أحمر لن يتخطاه أبدا.

ويقول آخرون إن كوربن أبدى قدرا من المرونة، ولكنه لم يبد أي قدر من البراعة. ويشعر حتى بعض من المقربين منه أنه كان يجب عليه أن يبد قدرا أكبر من الوضوح في حملة الانتخابات الأوروبية.

وما زال كوربن يرفض أن يقول ما إذا كان سيعتمد موقفا محايدا بين معسكري الخروج والبقاء في أي استفتاء قد يجريه حزب العمال.

وسيتم حسم هذا الأمر في مؤتمر خاص.

ويقول بعض المنتقدين المغرضين إن كوربن يسوّف فيما يخص إذا كان سيسوّف.

لذا تتواصل الشكوك حول ما إذا كان يتصف بالمرونة اللازمة للتفاعل مع الرأي العام ومزاج الحزب في حال تمكنه من الفوز برئاسة الحكومة.

القضايا الشخصية هي قضايا سياسية

إذا أجريت لقاء متفقا عليه مع جيرمي كوربن، ستجد أنه أكثر أريحية وأدبا وكياسة مما كنت تتصور.

قد يحدثك عن كتاب قرأه مؤخرا، وقد يطلق نكتة أو نكتتين عن معارضيه داخل حزب العمال.

قال لي ذات مرة إن أوين سميث الذي كان يحاول منافسته على زعامة الحزب في عام 2016 عرض عليه منصب رئيس حزب العمال في حال تنحيه.

ولكنه أضاف بنبرة خافتة ولمعة في عينيه "طبعا توصلت إلى أن هذا المنصب غير موجود أصلا".

وأطلع زميلا لي مؤخرا عن مباهج زيارة المكسيك (يذكر أن زوجة كوربن الثالثة، لاورا أفاريز، التي اقترن بها في عام 2012، مكسيكية).

ولكنه يبدو في كثير من الأحيان غير متقبل للنقد، ويبدي امتعاضه على وجه الخصوص من أولئك الذين يحاولون استجوابه على عتبة داره.

 

Jeremy Corbyn snapped outside his front door
 

كما أنه شديد التكتم فيما يخص حياته الخاصة وحياة أسرته. ويقول إنه يتقبل التمحيص ولكنه يرفض التدخل في حياته الشخصية رفضا قاطعا.

واستنكر كوربن في الخطاب الذي ألقاه عند قبوله منصب زعيم الحزب في عام 2015 "المستويات المرعبة من السباب والشتم" التي تعرض لها أفراد أسرته أثناء الحملة الانتخابية، وناشد الصحفيين "عدم التعرض لهم في كل الأحوال".

وقال لي مارتن سلومان - وهو عضو في تنظيم حزب العمال في دائرة إيزلينغتون شمالي لندن في الثمانينيات - إن كوربين كان يتصرف مع كوادر الحزب بنفس الأسلوب الذي كان يتصرف به مع الصحافة. ويقول سلومان إن كوربين لم يكن عدائيا أو فظا أبدا، ولكنه لم يتقبل أن تكون آراؤه محل تحد أو نقاش. وقال "هذه كانت نقطة الضعف عنده، فلم يكن يتحمل أي نقد على الإطلاق".

ويقول البعض إن عليه التعود على تحمل النقد بشكل أكبر بكثير إذا اراد أن يتحول من زعيم للمعارضة إلى رئيس للحكومة.

ولكن هل يريد كوربن فعلا أن يصبح رئيس الحكومة؟ أم أنه أكثر اهتماما بتحويل وجهة حزب العمال إلى اليسار بشكل دائم، كما يقول بعض النقاد؟

يقول لانسمان إن زعامة كوربن قد غيرت حزب العمال بشكل نهائي. ويقول "لن نعود أبدا إلى سياسات الليبرالية الجديدة، فهذا أمر حسم لجيل واحد على الأقل, الحزب الآن أصبح حزبا مختلفا جذريا ولا مجال للعودة".

لا شك في أن حزب العمال قد تغير بشكل سريع تحت قيادة كوربن، حيث أن مؤيديه هم الذين يمسكون الآن بزمام الأمور في الحزب.

ويعتقد مؤيدوه أن بإمكان كوربن ترؤوس حكومة راديكالية إذا تحلى بالقسوة والتصميم في مواجهة التحديات.

ولكن قبل أن يصبح زعيما لحزب العمال، كانت طموحاته للفوز بالسلطة محدودة إلى حد كبير.

وفي مقابلة أجراها مع صحيفة الغارديان في عام 2015، عندما كان مدرجا ضمن قائمة المتنافسين ولكن قبل أن يفوز بالزعامة، قال كوربن "في سني، ليس من المرجح أن أكون من المتنافسين طويلي الأمد".

ودرج كوربن على تجنب الإجابة على الأسئلة المباشرة. فبعد وقت قصير من توليه زعامة حزب العمال، أجاب كوربين على هذا الموضوع بالقول "أفضل زعيم هو الزعيم المتردد".

وتأمل كوربن طويلا وبتأن عندما كان معظم نواب حزبه يرغبون بالإطاحة به في عام 2016، ولكنه لم يستقل.

فالرجل يتمتع بقدر كبير من المرونة.

وأوضح بشكل جلي أنه رغم القيل والقال أنه سيخدم فترة ولايته كاملة في حال انتخابه رئيسا للحكومة.

يشككك بعض معارضي كوربن في قدرته على ممارسة السلطة في حال انتخابه. ويقول هؤلاء إن النفوذ الذي يتمتع به مستشاروه من أمثال شيموس ميلن (المعلق السياسي السابق) وأندرو ماري (الناشط البارز في التحالف المعرض للحرب).

ولكن أحد المقربين من كوربن دحض هذا الطرح، وقال إن هناك أسطورة تتحدث عن "الملك الصالح والمستشارين السيئين" . ويصر مؤيدو كوربن على أنه يعرف ما ينبغي عليه عمله، وأن مستشاريه لا يؤثرون في قراراته بل مجرد يوصلوها للرأي العام.

ولكن ثمة اعتقاد في الدائرة الضيقة المحيطة بكوربين أن "قوى مظلمة في المؤسسة الحاكمة" ستفعل كل ما في وسعها لمنعه من الوصول إلى رئاسة الحكومة.

وقيل لي إن مؤسس الحركة، جون لانسمان، يأمل في أن يكون جون ماكدونيل زعيم حزب العمال المقبل. ولكن ماكدونيل قال مؤخرا لمجلة GQ إن الحزب يجب أن يختار امرأة لقيادته.

الأمر الجدير بالملاحظة والانتباه أن ناشطي حزب العمال كانوا يناقشون - ابان مؤتمر الحزب الأخير - البديل المحتمل لكوربين.

تبخرت هذه المحاولة الإنقلابية بسرعة، ولكن الواقفين خلفها كانوا يريدون أيضا التخلص من بعض الشخصيات الأساسية في مكتب كوربين، ويبدو أن هذه الخطة قد أتت أكلها.

وكان عدد من أعضاء مجلس اللوردات العماليين قد نشروا اعلانا في الصحف قالوا فيه إن "جيرمي كوربن قد أخفق في اختبار الزعامة".

ووصف هذا الإعلان في حينه بأنه محاولة متوقعة من قبل أولئك الذين منحوا ألقابا سامية من جانب أسلاف كوربن في زعامة الحزب.

ولكن تلك المبادرة لم تأت من عدم.

فقد كانت مصممة من أجل تحفيز البعض من يسار الحزب الذين كانوا يحاولون ترشيح وزيرة أعمال الظل ريبيكا لونغ بيلي كبديلة لكوربين.

تبخرت هذه المحاولة الإنقلابية بسرعة، ولكن الواقفين خلفها كانوا يريدون أيضا التخلص من بعض الشخصيات الأساسية في مكتب كوربن، ويبدو أن هذه الخطة قد أتت أكلها.

فكاري مورفي، التي كانت تعد المسؤولة الأولى عن اتصالات كوربن - وهي حليفة مقربة من زعيم نقابة "يونايت" لين مكلاسكي - جردت من منصبها ونقلت إلى وظيفة في مقر الحزب.

ويعتقد البعض من مؤيدي كوربن في حزب العمال أن ثمة تحرك يهدف إلى إضعاف سلطته قيد التنفيذ حاليا.

كما أضعف موقف كوربن مغادرة أندرو فيشر، مستشاره السياسي الذي تمكن من تأسيس علاقات وطيدة معه ومع وزير مالية الظل في نفس الوقت.

ففي رسالة بعث بها إلى عدد من أصدقائه - والتي اطلعت عليها صحيفة الصنداي تايمز والبي بي سي - تهجم فيشر على "غياب المهنية والكفاءة" في مكتب كوربين، وقال "آمل أن أكون خاطئا، ولكن لم يعد لي أمل بأننا سننجح".

ولكن لم تتبلور إلى الآن أي محاولة جدية للإطاحة بكوربن، وما زال من المرجح أنه سيختار موعد تنحيه والطريقة التي سيتم بها ذلك - رغم أن ماكدونيل قد قال إن ذلك لن يحصل إلا في حالة اندحار الحزب في الانتخابات المقبلة.

ولكن مؤيدي كوربن يصرون على أنه باق لأمد بعيد.

ويقولون إنه مصمم على إيصال حزب العمال إلى الحكم.

وكان كوربن قد قال في مؤتمر الحزب الأخير إنه سيدخل "نموذجا جديدا للقيادة" في الحياة السياسية.

 

 

ويقول مؤيدوه إن هذا الزعيم المتمرد هو الأفضل لاعادة توحيد البلاد بعد الإنقسام الذي تسبب به الجدال حول "بريكست".

والشعار الذي يتمسك به حاليا هو "ثقوا بالشعب".

ولكن هل يثق الشعب به؟ هذا ما الذي سنعرفه قريبا.

الكاتب: إيان واتسون

التصوير: غيتي وPA وبول ماتسون

الانتاج الإلكتروني: بين ميلن

المحرران: بين ميلن وكاثرين ويستكوت

المصدر: وكالات+إضاءات