سؤال يراودني منذ فترة عن الزمن الذي عرف فيه البشر عوراتهم وكيف غطت، هل يحتمل حدوث متغير طارئ دفع البشر لمعرفة معنى التغطية؟..قياسا على أن حياتهم الأولى ليست كما هي الآن تتعامل مع المل
سؤال يراودني منذ فترة عن الزمن الذي عرف فيه البشر عوراتهم وكيف غطت، هل يحتمل حدوث متغير طارئ دفع البشر لمعرفة معنى التغطية؟..قياسا على أن حياتهم الأولى ليست كما هي الآن تتعامل مع الملابس كنوع من الحشمة أو الجمال، فالحياة الأولى كانت بدائية في كل شئ ومنها الملبس طبعا باعتباره وسيلة فقط للتدفئة من البرد، لكن متى عرف الإنسان معنى أن يغطي عورته..وكيف نشأ مفهوم العورة وتطوره ضمن العصور؟
لن أجتهد في الإجابة ، وأكتفي فقط بالإشارة على أنها أسئلة مشروعة تسلط الضوء على جانب مهم من حياة البشر وعلاقة ذلك بالحجاب الإسلامي تحديدا..فتغطية الأعضاء التناسلية سلوك بشري عام لكل الأقوام والشعوب بمن فيهم البدائيون من اللاتين والأفارقة، لكن تغطية الصدر ليس مهم عند بعض القبائل البدائية، لكنه ضروري عند كل شعوب العالم المتحضر ، فكيف تطور هذا السلوك وكيف عرف الإنسان معنى أن يغطي عضوه التناسلي ثم صدر المرأة مؤخرا؟
أشير إلى أن المسلم الأصولي عندما يقول بفرضية الحجاب على المرأة فهو يقصد حمايتها من الاعتداء الجنسي، أي أن المتشدد منهم لو ناقشته في هذا العمل على أنه قيود ظالمة للمرأة لن يفهم كلامك..لأن المسألة يتناولها بشكل آخر مختلف، بل يبالغون في تضخيم نتائج عدم الالتزام به إذا أصبحت المرأة فتنة للمجتمع بمن فيهم الزوج، يعني الزوج في عقولهم مطلوب يحمي زوجته بالحجاب كي لا يُنظر إليها بفتنة..وخطورة ذلك لديه أنه قد يشمل فعل الطلاق وهدم الأسرة..أي أن الحجاب عند الأصوليين تخطى كونه أمر ديني بل اجتماعي أيضا.
هنا لا ينتبه الأصوليون أنهم توارثوا فقها يتيح للجارية أن تعري شعرها وصدرها، وهذا يعني أن الحجاب على المرأة لم يكن لمنع الفتنة كما يظنون بل لظروف اجتماعية للتفريق بين الجارية والحُرّة، فلا معنى هنا لتغطية جسد المرأة بحجة العورة لأن تعريف العورة نفسه اجتماعي وليس ديني، بمعنى أن هناك أقوام ترى شعر النساء عضو طبيعي في الجسم لا علاقة له بالفتنة أو الرذيلة، من هؤلاء شعوب الصين واليابان وكوريا، فنسائهم الصالحات أو أكثرهن التزاما دينيا لسن محجبات، بخلاف ما يحدث في الأديان الإبراهيمية الذين يروا أن من شروط التعبد والتبتل هو تغطية الشعر والرقبة.
لكن لو نظرنا مثلا إلى شعوب جنوب شرق آسيا المسلمة فهم يرتدون الحجاب عن عقيدة إسلامية، وربما لأسباب سياسية وعرقية بحكم اختلافهم عن الصين.
حقيقة لو نظرنا إلى أسباب ودوافع بعض المحجبات تجد بعضها وجيهة، كإبعاد أي نظرة تتعلق بالجنس إليهن باعتبار أن الحجاب صنع حاجز على العين فلا يرى شئ يعزز من مشاعر الجنس..لكن هذا من الناحية النظرية، أما العملية فالأمر يختلف لأن المرأة المحجبة تتعرض للتحرش والاغتصاب في بلاد المسلمين أكثر من غير المحجبة، وعناصر بيوت الدعارة أكثرهن محجبات..هذا يجعلنا نناقش أمر آخر بسؤال ضروري وهو ( هل الحجاب وسيلة للعفة؟ ) أم أن للعفة وسائل أخرى ليس من ضمنها الحجاب؟
بحثت في النصوص الإسلامية عن الجواب ووجدت قوله تعالى..”يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير”.. [الأعراف : 26] ..أي أن التقوى أهم عند الله من الملبس..لكن هنا تأكيد اللباس فقط لتغطية السوءة، ولا يختلف اثنان أن المقصود بالسوءة هنا هي..”الأعضاء التناسلية”..وهذا يعود بنا للسؤال الأول عن كيفية نشوء وتطور مفهوم العورة / السوءة عند البشر..ومختصر هذه الجزئية أن الحجاب قد يكون وسيلة للعفة لكنها ليست مضمونة وليست حصرية، بمعنى أن للعفة طرق ووسائل أخرى قد تكون أخلاقية أو اجتماعية أو دينية بتفسير مختلف.
كذلك من ضمن حجج بعض المحجبات الوجيهة – وأنا أتفق معهن فيها- وهي أن المرأة تُقاس بأفعالها وأقوالها وأفكارها لا بملبسها، بينما البعض الآخر منهن يرى النساء المحجبات أقل أخلاقا وتدينا..وهذا غير صحيح ، فالله نفسه لم يضع تغطية العورة ضمانة للتقوى، بل هو عمل سلوكي بامتياز منفصل، ونظرة لما قلنا أنها بيوت للدعارة والانحراف وحوادث التحرش تجد أنها تخص محجبات أكثر من غيرهن، فالتجربة هنا خير دليل..نفس الشئ لاحترام الرجل للمرأة المحجبة..هذا أيضا وهم، فالرجل لا يحترم إلا للسلوك بوصفه إنسان له نفس التوجه..والمرأة أيضا كذلك.
ثم إذا كان الحل بعزل المرأة عن الرجل ما الضامن لعدم تفريغ عواطف البشر بطريقة (مثلية) يعني الأمر هنا تجاوز حد الجنس، فالغريزة يمكن قضائها بوسائل أخرى بديلة كالعادة السرية ..لكن ما الذي سيُعوّض العاطفة؟…الجواب في مقال لي منذ أيام عن المثلية الجنسية قلت فيه أن المحرك الأول للمثليين (عاطفي) وليس (جنسي) خصوصا من اكتسب هذا التوجه منهم ،وليس الذين يعانون من خللا في الجينات، أي أن العزل بين الجنسين في المجتمع هو سبب أصيل في شيوع المثلية باعتبار أن العزل في الحقيقة ليس فقط عن الجنس بل (عزل عاطفي) في المقام الأول.
وهنا يكمن أهمية الأمر الديني بغض البصر، فهو تعزيز بطريقة مباشرة للتوجه الجنسي الطبيعي، واعترافا بحرية الملبس..وإلا ما الداعي لغض البصر عن المنقبة مثلا لو كان النقاب أمر ديني؟..وكأن الله يقول أن المشكلة والعلاج والحل في جانب من ينظر ولا يغض..لا في من يلبس، لأن اللباس هو أمر اجتماعي كما أشرت في المقدمة، بمعنى أن الإسلام لم يفرض زيا معينا للرجل أو للمرأة، بل ترك لهم الحرية فيه بشرط الالتزام بما ذكر في سورة الأعراف بتغطية السوءة أو العورة..والتي تعود بنا إلى قصة آدم بتعريف السوءة على أنها الأعضاء التناسلية قولا واحدا.
شئ آخر مهم جدا في فلسفة الحجاب وهو التواضع، فكثير من المحجبات وبناء على تعاليم دينية من الشيوخ اعتقدوا أن الحجاب هو قيمة تواضع لاثنين هما (الله – المجتمع) فالتواضع لله بمعنى فساد التعبد بالسفور واشتقوا ذلك من تغطية عورة آدم خجلا من الله، وبما أن مفهوم العورة لديهم واسع ويشمل الوجه أحيانا فأصبح مجرد كشف الشعر أو الوجه هو (عدم احترام) وحقيقة هذا الرأي منتشر جدا عند الشعوب المحافِظة كمصر والخليج، لكنه مختلف عند شعوب متحررة أخرى كلبنان وتونس الذين يرون أن احترام المرأة يكون فقط لأفكارها وأفعالها لا لملبسها..
لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فتغطية الشعر – تواضعا- منتشر أيضا عند اليهود والمسيحيين في الكنائس والأديرة، هنا لا نتعامل مع مجرد سلوك ..بل مع فكرة دينية طغت في الأديان الثلاثة الذين يمثلون أكثر من 60% من شعوب العالم، ورغم قناعة كل هؤلاء بأن قياس المرأة لأفعالها وأفكارها فقط مع ذلك يؤمنون أن خلع الحجاب هو عدم احترام..وهنا ثمة تناقض تفسيره الوحيد عندي بحث هؤلاء عن قول يرضي الدين والمجتمع والعقل في نفس الوقت..وهي مسألة صعبة جدا قد تدفع الإنسان للتناقض أو النفاق.
والسبب في رأيي هو ابتعادهم عن طبيعة هامة للدين وهي (اليُسر) أو البساطة والسهولة، وقد صيغت في القرآن في عدة آيات بنفس المعنى..” ونيسرك لليسرى”.. [الأعلى : 8]..” ثم السبيل يسره”.. [عبس : 20]..” ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا”.. [الطلاق : 4]
حتى في قراءة القرآن أن نقرأ (ماتيسر) يعني ما رأيته سهلا لك ويناسبك في هذه اللحظة في قوله تعالى..” فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه “..[المزّمِّل : 20] يعني عدد لك أسباب التبسيط في الدين وكيف أن الإسلام هو في الأخير شئ سهل وبسيط يمكنك ممارسته بأقل إمكانية.
والذي غاب عن هؤلاء أنه ومن البساطة واليُسر أن تتعامل مع الحجاب حسب الظرف، فالله يقول في القرآن..” يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد”..[الأعراف : 31] والمعنى أن تستحضر هيبة وجلال الموقف بتزينك له بطريقتك الخاصة، وهذا شئ منطقي في الشعائر أن تتعامل مع الله بطريقة مختلفة عن البشر، وهذا يعني أن الحجاب – لو تم اعتباره من الزينة- هو مقبول منطقيا في الصلاة، أما الغير منطقي أن تذهبين بنفس الملابس إلى الشاطئ وتسبحين في المياه وأنتي تعلمين جيدا أن ملابسك تلصق في جسدك حتى يوصف بطريقة دقيقة للغاية ، وبالتالي أصبحتي مثيرة للجنس..رغم أنكِ في الأخير محجبة.
لكن هل هذا يعني مقاطعة الشواطئ؟..الإجابة لا إنما هذا يتوقف على إيمانك بسهولة الإسلام وتكيفك مع الواقع الذي تفهمه جيدا قبل التكيف، هنا فقط يُصبح من اليُسر اختيار ملابس تليق بالبحر غير الحجاب وتؤدي نفس الغرض الذي ترغبه وهو (الحشمة والتواضع للمجتمع) فلو رأيت تعارضا بين الملبس الجديد والدين..هنا يُطرح سؤال سريع وحاسم: أيهما تفضل : أن تعزل نفسك عن المجتمع أم تقدم تنازلا لحظيا في أكثر حالاته لن يضرك؟
لا تعني تلك المناقشة إيماني بمنطق هؤلاء أو الحلول التي قدمتها لهم، فقط أناقشهم فلسفيا بفهم عقولهم وتوقع الإجابة وتقديم البدائل إن أمكن، أما على المستوى الشخصي أو أن مبادئي تقول كذا وكذا..هذا شأن آخر مختلف ويتوقف على رؤيتي لقضية الحجاب (الكلية) من نواحي الشرع والاجتماع والفلسفة وربما والسياسة..وأنا لم أخصص هذا المقال لمناقشة الحجاب شرعيا أو الانشغال بالرد على الفقهاء، هذا فعلته في مقالات أخرى وشذرات قديمة ، لكن هنا ألتزم محور الدراسة بتناول الحجاب فلسفيا فقط.
ومن ضمن المسائل الفلسفية التي يرفض مناقشتها بعض التنويريبن لأنها تخدم الحجاب، سؤال عن منقبة عادت متأخرا في الليل داخل أتوبيس كله شباب سكران ومدمن مخدرات، في المقابل نفس الظرف مع امرأة جميلة وبكامل زينتها من الشعر إلى القدم..أيهما يصبح أكثر عرضة للاغتصاب؟..الجواب المنطقي أن المرأة المنقبة هي أقل عرضة، وهذا السؤال مطروح دوما لتبرير النقاب والحجاب معا على أصل وهو اعتبار أن المجتمع كله سكارى ومدمنين عائدين في وقت متأخر من الليل.
هنا يمكن الوقوف على مشترك عقلي وإنساني مع أنصار النقاب والحجاب أنه مطلوب فقط (للضرورة) وهي التي حكوها بقصة الأتوبيس هذه، لكن سنختلف أن تلك الضرورة تصبح أصل شرعي أو معيار عقلي، فالمجتمع عندما نناقشه فبصورته الكلية المحكومة (بأديان وأعراف وسلطة وقانون) ونموذج الأتوبيس يصلح فقط (كاستثناء) يؤكد القاعدة وهي أن الأصل في المجتمع النزاهة وحسن الخُلق، والمتغير دائما يطرأ لدوافع ليست لها علاقة، كالسؤال عن العلاقة بين الخمر والنقاب..هذا شئ وهذا شئ ، لكن لو لم يكن شباب الأتوبيس سكارى مدمنين تصبح فرص وعيهم بما يفعلون مع المنقبة أكثر أخلاقا والتزاما بالقانون..وعلى هذا الأصل لا يمكن اعتبار قصة الأتوبيس هذه معيارا للتشريع.
حقيقة يمكنني الوقوف معهم على نقطة مشتركة وهي أن الإسلام يسر لا عسر، والحجاب يجب أن يخضع لنفس المنطق، ألا وهو (المرونة في التعاطي) ، فبعيدا عن مسائل الشرع والفقه يحكي لنا التاريخ كيف أن نساء مصر كن محجبات ومنقبات قبل 100 عام، كيف حدث ومتى هذا شأن آخر..والثابت أيضا لم يكن هناك وجود لجماعة الإخوان أو السلفية المعاصرة حتى نربط بين الحجاب والجماعات بالمطلق، صحيح الحجاب الحالي مرتبط بالإخوان والسلفية ..لكنه كقضية (كلية) موجود في نفوس البشر وتصوراتهم له فيها جزء من العقل مهما اختلفنا.
لكن ما لا يمكن القبول به هو إجبار النساء على أي فعل يرفضونه، كإجبارهم مثلا على لبس الحجاب أو خلعه، هذا منافي للقيم وحقوق الإنسان، فضلا أنه مخالف للشريعة نفسها التي ربطت تغطية الشعر قديما بسبب اجتماعي وهو العبودية..أو التفريق بين الحُرّة والجارية، وطبقا لمذهب العلية في الفقه بزوال العلة يصبح المعلول لا قيمة لوجوده، والعلة هي العبودية والمعلول هي الفتوى.. أي تغطية الشعر، وهذا رد فقهي بسيط على المشايخ يثبت أن مسائل الفقه بحرها واسع وتتسم بالمرونة وفيها كثير من الأدوات لو تم استعمالها كما ينبغي لتغير المسلمون للأفضل
.
إضافة أن الإجبار هو شكل من أشكال العبودية، فمعنى إجبار شخص على ارتداء ملابس معينة فهو في الحقيقة أصبح عبد، وهو ما يعاني منه النساء في بعض المجتمعات، فغير مقبول أن نتخلص من عبودية الحجاب قديما لنمارس نفس العبودية الآن، ولمن يقول هي ليست كذلك، قلت: فرض الحجاب يعني تمييز ضد غير المحجبة، والعكس صحيح، أي لو تم إجبار النساء على خلع الحجاب يحدث تمييز تلقائي ضد المحجبة، والتمييز يعني حرمان من حقوق إنسانية أصيلة كحق الرأي والتعبير وربما الوظائف والزواج..بل تصل أحيانا إلى الوجود بحيث يقتلون نساء المخالفين.
كذلك فلا السفور ولا الحجاب هو شكل من أشكال العبودية في أًصلهم..هذه حرية اختيار، فكثير من المحجبات يعشن حياتهن كملكات ولسن كجواري، أغلب نساء مصر محجبات ومع ذلك 80% من المصريات يعملن ونصفهن على الأقل يعلن أسرهن، أي يمارسن حياتهن كملكات في الحقيقة مستقلين تماما ولا يشعرون بتسلط، إنما الذي يمكن اعتباره خطأ هو ارتداء الحجاب خشية المجتمع، هنا يوجد قهر معنوي يمكن تصنيفه على أنه عبودية بالفعل، ولكنها غير مباشرة، ويمكن نفيها بسهولة، فكل مجتمعات البشر تحكمها أعراف محلية قبل القوانين، ولو أفردنا الأمر على اتساعه سيكون العرف هو نوع من العبودية ، بالتالي لا حرية في مجتمعات الغرب والتفاخر بها كذب.
أخيرا كانت هذه مناقشة للحجاب من أطر فلسفية واجتماعية مختلفة، حاولت فيها البحث بإطار عقلي – محايد وموضوعي- آمنت فيه بحجاب مختلف عن الشائع تجاوز وصفه بقطعة القماش أو برقع الحياء على طرفي نقيض، لكن يبقى سؤالي الذي وجهته في المقدمة وجيها قائما ليجيب عن إحدى الثغرات، وهي حقيقة أن الحجاب في أًصله تطورا طبيعي لملابس البشر التي بدأت كوسيلة للتدفئة، ثم حصل الانقلاب القيمي بتغطية الأعضاء التناسلية ثم الصدر..ثم وصوله لأقصى مراحل التطور الآن بتغطية الشعر والوجه، وفي تقديري أن كشف أسباب ومراحل وكيفية هذا التطور كافٍ جدا لفهم وبلورة قضية من أكثر قضايا العصر جدلا وبأقل نسبة خطأ