كتب الكاتب العربيّ علي بن مسعود المعشني من عُمان مقالاً هاماً اختارته إضاءات لقرائها الكرام.
مقالات
كتب الكاتب العربيّ علي بن مسعود المعشني من عُمان مقالاً هاماً اختارته إضاءات لقرائها الكرام.
 علي بن مسعود المعشني
17 شباط 2020 , 20:29 م
ليس كل من كتب كتب, فبعض الكلام يستحق أن يُخط بمداد من ذهب, اختارت إضاءات هذا المقال القيم لتقدمه لقرائها الكرام لما فيه من حكم وقراءة للحاضر وسبر للمستقبل. إضاءات   كتب علي بن مسعود المعشني:

ليس كل من كتب كتب, فبعض الكلام يستحق أن يُخط بمداد من ذهب, اختارت إضاءات هذا المقال القيم لتقدمه لقرائها الكرام لما فيه من حكم وقراءة للحاضر وسبر للمستقبل.

إضاءات

 

كتب علي بن مسعود المعشني:

يبدو العنوان غريبًا وصادمًا للذين يؤمنون بالقضاء والقدر الأمريكي، ويسبِّحون بعرش أمريكا، ويدورون في فلكها، لكنه واقعيًّا وحقيقة على الأرض، ومن النتائج للذين يقرأون التاريخ فيقرأون المستقبل معه، فما أمريكا إلا أمة قد خلت من قبلها أمم.

صفقة القرن هي حلقة في سلسلة محاولات ومؤامرات لتمكين الكيان الصهيوني الغاصب من فلسطين أوًلا، ولجعله عضوًا طبيعيًّا في جسد الأمة والقبول به ككيان سياسي بحكم الغَلَبة والقوة والواقعية، ويذهب بعض المطبِّعين إلى أكثر من ذلك بزعمهم أن الصفقة ضرورة لوقف آلام الفلسطينيين ووضع حد لمعاناتهم!

مشكلة النظام الرسمي العربي اليوم ليست في قبول أو رفض صفقة القرن والتعايش مع الكيان الصهيوني، والقبول به والتعامل معه، بل في غياب تعريفه لهذا الكيان أوَّلًا ثم تسويق التطبيع معه. لهذا؛ نرى بجلاء حجم التباين والتخبط الرسمي العربي في تعريف الكيان الصهيوني وتبرير التطبيع معه.

فمنهُم من يهرب إلى استنطاق التاريخ وحصاره والتحقيق معه ليرغمه على الاعتراف بأن لليهود حقًّا تاريخيًّا بفلسطين، وأن اليهود سكنوا جزيرة العرب منذ عصور النبوة وقبلها، ويجهلون ويتجاهلون بأن اليهودية شيء والصهيونية شيء آخر، وأنَّ اليهود الذين سكنوا الجزيرة العربية هم عرب أقحاح ولم يأتوا من كل فج عميق، ضمن عصابات شتيرن وهاجاناه، وبدعم وتمويل من الوكالة اليهودية لتهجيرهم إلى أرض فلسطين لقتل أهلها وتشريدهم واغتصاب أرضهم، ومنهم من يسوق قوة الكيان التي لا تُقهر ومن  يقف خلفه من قوى دولية داعمة، ويجهل ويتجاهل الانتصارات التي حققتها المقاومة المسلحة ضد الكيان الصهيوني في جنوب لبنان وغزة، كما يجهل بلا شك أن الكيان الغاصب لم يحقق انتصارًا عسكريًّا واحدًا منذ معركة الكرامة مع الجيش العربي الأردني عام 1968م وحتى اليوم، ومنهم من يعتبر الكيان الصهيوني مُحتلًّا لأرض عربية، وفي المقابل يجب الإقرار له بشيء من هذا الاحتلال، واعتباره حقًّا مكتسبًا بالشرعية التاريخية أو بحق الغلبة، وهي أول حالة في التاريخ تُشرعن الاحتلال وتمنحه الحق في غيِّه وباطله! ومنهم من "يرق" قلبه ويشفق على حال أشقائه بفلسطين فينتحل صفتهم وينصِّب نفسه وصيًّا عليهم وكأنهم شعب قاصر على قارعة التاريخ، فيصادر حقه ونضاله.

هُنا، يتبيَّن لنا حجم التخبُّط السياسي للنظام الرسمي العربي، والذي تجاوز جميع الممكنات وحدود اللا معقول في معالجة قضية أوضح من الشمس كقضية فلسطين. فالكيان الصهيوني ليس مكوِّنا يهوديًّا ولا احتلالا تقليديا حتى يتم التعامل معه وفق هاتين القاعدتين، بل قاعدة متقدمة للصهيونية العالمية، والتي تهدف من خلال كيانها الغاصب إلى إعاقة الحضارة العربية الإسلامية، ومنع أي مشروع نهضوي عربي إقليمي أو شامل، ثم الاختراق الرأسي والأفقي للأمة العربية قبل الانطلاق إلى الخصوم الأكبر وهم الصين وروسيا. فلماذا يُدرك العالم كافة هذه الحقيقة، ويستبسل لجعل سوريا مقبرة للأحلام الصهيونية، بينما يتسابق النظام الرسمي العربي ويهرول إلى مصيره وحتفه!؟ صفقة القرن ستوقع النظام الرسمي العربي في شباك ومصائد وأفخاخ لا نهاية لها؛ أولها: الصدام مع شعبه وتيار المقاومة لحماية الصفقة وتمكين الكيان وباطله، وآخرها زواله هو والكيان معًا في لحظة تاريخية فاصلة.

النظام الرسمي العربي كان يعتبر قضية فلسطين في سياق الصراع العربي-الصهيوني، وبعد مؤتمر مدريد قلَّص الصراع وحدد أدواته ووصفه بالصراع الفلسطيني الصهيوني، والمنطق يقول: إذا كان الصراع فلسطيني-صهيوني فما الذي يُقحم العرب فيه؟! ومن الذي خوَّلهم ليتصرفوا بالوصاية في الحق الفلسطيني، وكأن الصراع لا يزال عربي-صهيوني والذي تنكروا له في مدريد؟!

يفترض بالنظام الرسمي العربي أن يُدرك أن ما تُسمَّى بـ"صفقة القرن" هي في الحقيقة مقايضة مضمونها استبدال قواعد الصراع ليحل النظام الرسمي العربي كبديل عن الصهاينة في مواجهة الفلسطينيين وفصائل المقاومة والرفض الشعبي العربي للتطبيع، ويُفترض به أن يُدرك كذلك أن هذه الصفقة يُراد منها في النهاية التضحية برموز النظام الرسمي العربي وإسقاط عروشهم وعلى أيدي شعوبهم بعد تمكينهم للصفقة، وسيقف الحليف الصهيو-أمريكي إلى جانب الشعوب "المضطهدة" "لنصرتهم"، وكعادتهم في إشعال الخراب وترسيخ الفوضى، وقد صرح بهذا ويليام كيسي رئيس المخابرات الأمريكية عام 2005 في الكونجرس؛ حين قال إنَّ الحكام العرب يخشون شعوبهم، وسنطلقهم عليهم.

كما أنَّ على النظام الرسمي العربي أن يفكر مليًّا في سبب عدم وجود حدود ولا تعريف جامع مانع للأمن القومي للكيان الغاصب؟! فحدود الكيان هلامية مطاطة، ولا وجود لديه لتعريف أمنه القومي ومهدداته، فكيف يمكن التفاوض مع كيان لا تعريف لحدوده ولا لأمنه القومي؟!

الأمر الثاني: يجب ألا يتناساه النظام الرسمي العربي وهو أنَّ المبادرة العربية في قمة بيروت 2002 قد ماتت وأكلتها الرمة، فما قبل المبادرة ليس كما بعدها، فالتضحيات الجسام للمقاومة اليوم لا يمكن أن تُمحى بجرة قلم، وتُعاد عقارب الزمن إلى عام المبادرة؛ فالمقاومة اليوم هي من تصنع المبادرات وتضع النقاط على الحروف. وليس من مصلحة النظام الرسمي العربي أن توجه بندقية المقاومة إليه بدلًا من الكيان الغاصب، بعد أن ظلت عفيفة عنه لسنوات، رغم كل الإساءات لها والتآمر عليها.

فالغاصب الصهيوني وحليفه الأمريكي وأدواتهما في المنطقة في وضع كارثي وخسائر لا تُحصى تكتيكيًّا وإستراتيجيًّا، وفقدوا جميع أوراقهم وخسروا كافة رهاناتهم ولم تتبقَ لهم سوى هذه الصفقة البائسة والتضحية بالنظام الرسمي العربي كحل أخير وخيار يتيم. وخيارات النظام الرسمي العربي في هذا المفصل التاريخي هي المماطلة في الصفقة لعامين قادمين فقط، والرهان على المقاومة لإحداث واقع جديد في المنطقة والعالم؛ وذلك عبر التبرُّؤ من الصفقة تدريجيًّا والتخلي عن توصيف المقاومة ووصمها بالارهاب، وعدم الرضوخ للضغط الامريكي في هذا التوصيف، دون تقديم أي دعم مادي أو معنوي لها.

وبالشكر تدوم النعم...،

-----------------------

قبل اللقاء: كان هنري كيسنجر يقول فيما مضى من الزمن في وصفه للأوضاع في المنطقة: "لا حرب بلا مصر، ولا سلام بلا سوريا"، ولكن لسان الحال اليوم يقول: "لا سلام ولا حرب بلا سوريا، وسوريا اليوم خارج الجامعة العربية وغير مُلزمة بأي قرار يصدر عنها".

المصدر: وكالات+إضاءات