الجهل نوعان، جهل بسيط وجهل مركب, أما الجهل البسيط فهو أن يدرك صاحبه أنه يجهل امراً ما فيسعى للبحث عن ضالته وصولاً للمعرفة ويعتبر هذا الجهل فضيلة فهو يحفز صاحبه على البحث، فمن منا يعلم كل شيء؟، يبقى أن نعرف الجهل المركب، فالجهل المركب هو أن يجهل المرء أمراً ويدعي معرفته، أي أن جهله مبنيّ على جهل فيسمى الجهل هنا بالجهل المركب، ولهذا أسباب عدة سنعرضها في سياق هذا البحث المختصر.
وللولوج في هذا الموضوع لا بد من بعض الاستشهادات، فلقد كتب الدكتور عبد الرزاق بني هاني مقالة عن علم الجهل والتجهيل، الكاتب شخصية أكاديمية محترمة، عرفته عن قرب رجلاً محترماً صادقاً، له آراؤه وأفكاره الخاصة والتي وإن لم أتفق معه في كثير منها، إلا أن الاحترام لشخصه لم يتزحزح للحظة فهو منسجم مع ذاته، فلقد ترك أحد أهم المناصب الرسمية لكي يبقى منسجماً مع نفسه، له مني كل التقدير والاحترام.
سأقتبس بعضاً مما ورد في مقالة له:
كتب الدكتور بني هاني: "عندما كنت طالباً في مرحلة البكالوريوس سمعت من أستاذي في مساق التاريخ، وكان اسمه جون سويني، رأياً لم أستوعبه ولم أصدقه آنذاك عن علم الجهل، وعن تخصص فرعي في التاريخ أطلق عليه psycho-history، أي التاريخ النفسي، وكان ذلك في العام ١٩٧٦!!! فكنت كثيراً ما أردد في نفسي مقولة ” هل هناك علم اسمه علم الجهل والتجهيل، مثلما يوجد علم اسمه الفيزياء أو ما شابه؟ وكيف للعلم أن يكون مُجَهلاً؟ …
وبقيت على رأيي هذا إلى أن أخبرني صديق لي، أمريكي يعمل في مؤسسة راند البحثية Rand Corporation، بأن هناك مؤسساتٍ، تابعة لحكومات دولٍ عُظْمَى، ومنها حكومة الولايات المتحدة، متخصصة في هندسة الجهل وصناعته وتغليفه بأرقى الأشكال، ثم تسويقه على نطاقٍ واسع… "
وهنا لا بد أن نعرف الفلسفة حسب التعريف اليونانيّ الأصلي لها وهو:
في اليونانية.. اسمها فيلوسوفيا، φιλοσοφία philosophia، والتي تعني حرفياً "حب الحكمة، وهي مكونة من كلمتين يونانيتين، "فيلو" وتعني الحب و"سوفيا" وتعني الحكمة.
هذا التعريف لم يستمر كثيراً فأصبح للفلسفة تعريفات يسارية وأخرى يمينية وأخرى دينية والخ.. وأصبح مفهوم الفلسفة يتراوح ما بين الخير المطلق والشر المطلق، أي ما بين الشيء ونقيضه، ولأني في سياق هذا المقال سأركز على موضوع "الجهل والتجهيل وصناعة الكذب" لذلك لن أخوض بهذا الموضوع الفلسفي الأكاديمي المعقد والذي لا أدعي المقدرة على سبر أغوار علمه، بل سأكتفي في التركيز على العنوان الرئيسي لمقالتي.
أما ماذا كتب الدكتور "بني هاني" عن الفئات المستهدفة:
ويضيف د. بني هاني: "من هم مستهلكو سلعة الجهل، حسب رأي صديقي؟
قال هم ثلاث فئات في كل مجتمع:
1) الفقراء في المجتمع، وجلهم من الأقليات الاجتماعية والدينية وعمال البلديات، وفقراء المناطق النائية وفقراء الريف، وعمال المزارع، وما شابه هذه التصنيفات. لكن الفاجعة التي ألمت بي كانت شمول معلمي المدارس وأساتذة الجامعات في الفئة المستهدفة من هذه السلعة الملعونة.
وحسبما أخبرني به، فقد تصل نسبة هذه الفئات كلها في الولايات المتحدة لوحدها إلى ٩٠٪ من حجم السكان، وكان جنود القتال الأمريكان مشمولين في هذه الفئة…
2 ) المتدينون الذين يؤمنون بالقدرية، فهم مستسلمون للقدر الذي يظنوا به أنه لا يتغير، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية تجهيل أكبر عدد ممكن من الناس الذين لديهم ميول دينية…
3 ) المغفلون الذين يعملون في الحكومات، وعلى وجه الخصوص حكومات الدول الفقيرة، وبالتحديد فئة التكنوقراط (الفنيين) الذين يقدمون النصح والمشورة لمتخذي القرار في دولهم. فيتم تدريب هؤلاء على تمرير الجهل وتبريره تحت مسمى النظرية والعلم والإمكانيات والموارد، ويأتي في مقدمتهم المعنيون بالشأن السياسي و الاقتصادي، إذ تنحصر مهامهم في بث روح اليأس في نفس صاحب القرار من إمكانية الإصلاح… وممارسة الكذب والكذب والكذب على عامة الناس وترسيخ الأكاذيب في أذهان العامة على أنها حقائق لا بد أن يدافعوا عنها… من جملة ما أخبرني به صديقي، وكان من أخطر ما قاله، بأن بث العداوة بين الأشقاء يندرج تحت صناعة وتسويق الجهل، وهو ما اجتهد به صانعو الجهل منذ العام 1906، فقلت ألهذا التاريخ يعود تطور هذا العلم؟ فقل نعم، منذ مؤتمر هنري كامبل بانيرمان Henry Campbell Bannerman، والذي انعقد في لندن ودام لشهرٍ كامل، وتم فيه رسم السياسة المتعلقة بالمنطقة العربية، قبيل انهيار الدولة العثمانية، ومن تلك السياسات أن تطلُبَ الدولة العربية تأشيرة دخول للمواطن العربي الذي كان من التبعية العثمانية، ويعيش على بعد أمتارٍ معدودة من حدودٍ رسمها ساسة المؤتمر!!!! كان أحد وزراءه اسمه ريتشارد هالدين قد قال متهكماً على حديث نبيكم " الأردن أرض الحشد والرباط " … " سأجعل من الأردن شعوباً متناحرة!!" وللأمانة بأن حديث صديقي الأمريكي قد أذهلني من شدة الحيرة…. وكنت أترنح بين الحقيقة والخيال من سطوة أفكاره ومعلوماته التي أضافها إلى مخزوني المتواضع … أقرأ كثيراً في السياسات المحلية للدول المختلفة… وعندما أدقق في عمق الأوضاع السائدة في الدول المعنية لا أستطيع أن ادحض مصداقية هذا العلم وهندسته وصناعته… وآثاره المدمرة… فاتعظوا يا أصحاب العقول… وتباً للجهل والتجهيل".
لعل أهم مصدر لإنتاج وتسويق الأكاذيب في العالم هو ما سمى بالولايات المتحدة الأمريكية ففيها على الصعيد الرسمي للكذب مدارس يتم فيها تدريب السياسيين على الكذب وهنا سأقتبس بعضا مما قاله مايك بومبيو في محاضرة له في إحدى الجامعات لأمريكية في العام 2019 أمام حشود من الطلبة حيث تم تسجيل أقواله بالصوت والصورة، لتتم إزالتها حيث وردت في اليوتيوب، إليكم ما بعضٌ مما قاله:
"كان شعار جامعة ويست بوينت (جامعة عسكرية في امريكا) هو: لا تكذب، لا تخدع، لا تنهب، ولا تتحمل الذين يرتكبون هذه الأمور. ولكن عندما كنت رئيسا لسي آي إيه، كذبنا، خدعنا، نهبنا. لقد تلقينا دورات تدريبية شاملة في كيفية الكذب والخداع والسرقة، ويرى مايك بومبيو أن هذه الأمور تمثل تجربة المجد الأمریكي"!.
في ندوة حوارية استضافت محطة تلفزة أمريكية بعض المعلقين للتعقيب على أقوال بومبيو، قال مقدم البرنامج إنني أستمع لأقوال شيطان لا لأقوال وزير خارجية.
أما أمر رئيس أمريكا فهو بحد ذاته مدرسة في الكذب، السرقة، النهب والعدوان ولا أظن أنني بحاجة لسوق أمثلة على ما سبق، فالكل بات يعرف أكاذيبه ووقاحته وصفاقته، لقد وثقت الصحافة الأمريكية أكثر من 20 ألف كذبة قام بها ترامب خلال 3 سنوات فقط من ولايته، أي بما يتجاوز 18 كذبة يومياً.
في أمريكا مؤسسات عملاقة لتسويق الأكاذيب وتسويق الحرية المزعومة للعالم بوقت لا يستطيع المواطن الأمريكي أن يتنفس، تعتبر هوليوود أهم مصنع لترويج الأكاذيب وقلب حقائق التاريخ وتشويه سمعة الشرفاء من خلال أعمالها المباشرة أو من خلال مهرجاناتها وجوائزها، فمنظمة إجرامية كالخوذ البيضاء استحقت جوائز تقديرية ووساماً وهكذا..
الصحافة الأمريكية لا تنفك عن الكذب حتى أصبح كاتب محترم كسيمور هيرش لا يجد صحيفة تنشر له عنواناً مما اضطره لنشر تقاريره وتحقيقاته خارج أمريكا بعد أن أقفل بوجهه آخر موقع كان يكتب فيه وهو موقع "نيويوركر".
ومن أخطر ماكنات الكذب وترويجه ما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعي، كالفيسبوك وتويتر واليوتيوب والخ..، هذه المواقع من أشد المعادين لكلمة الحق ومعاييرها تندرج في باب تسويق الكذب وإن تجاوزتها بنشر رأي حر يتم حظرك دون حتى إبداء الأسباب.
ماكنات صناعة الكذب لا تقتصر على أمريكا بل تجاوزتها لتصل لمعظم المنظمات المسماة دولية ولتصل بعد ذلك لكافة القارات من خلال الاعلام المملوك من اليهود الصهاينة ووصولاً لماكنات إعلام الأعراب، المرئية والمقروءة في الوطن العربي، لقد تم تسويق الأكاذيب على أنها حقائق، لا زلنا نذكر كيف بكى وناح أعلام الأعراب لتسويق فرية "الضحية" زينب حصني، لقد قتلها وقطع جثتها وصور تشييع جثمانها لتظهر بعد ذلك حية على محطة وطنية سورية، بالرغم من ظهورها فلا تزال اليوتيوب تنشر مقاطع الكذب حول تقطيعها وتشييع جثمانها.
ماكنات الإعلام بمعظمها مملوكة ليهود صهاينة في العالم وللصهاينة الأعراب في بلادنا فهم الأشد كفراً ونفاقاً كما ورد وصفهم في الذكر الحكيم في آيات عدة.
تنسب ماكنات الإعلام الغربي زوراً وبهتاناً الكذب لمدرسة وزير إعلام هتلر "جوبلز"، بينما جوبلز ليس إلا تلميذ حضانة في مدارس الكذب الأمريكية والغربية.
ختاماً لا بد من الإشارة لتقصير دول محور المقاومة في الاهتمام بالاعلام ولنمطية تعامله مع القضايا المصيرية المحلية في كل قطر وكما قضايا محور المقاومة، لعل أهم اختراق قام به محور المقاومة وهو بإنشاء محطة الميادين التي استطاعت تحقيق اختراق نسبيّ في الفضاء العربيّ من خلال تقديم برامج متنوعة فبالرغم من عمرها القصير استطاعت أن تحقق نسبة مشاهدة كبيرة، نتمنى أن نشاهد نماذج أخرى رديفة تدعمها في التصدي للإعلام الصهيوني الذي يستهدف الوعي الجمعي العربي.