إنها جدلية العلاقة بين الاقتصاد والسياسة...
إنه التأثر والتأثير الذي يحكم علاقة كل الأشياء في هذا الكون المحكم البنيان...
كل شيء يؤثر على كل شيء والعكس صحيح...
كيف يمكن لإنسان رؤية هذا الترابط الكوني الرائع والتأسيس عليه لرؤية عملية الخلق، ثم يرفض أن يقرأ نظرية جدلية العلاقات بين البنية الاقتصادية والبنية الفكرية للمجتمعات...
لكي لا نختلف في قصة أسبقية البيضة على الدجاجة أو العكس، نكتفي بالقول أن الاقتصاد المنتج والفكر النضالي متلازمان واحدهما للآخر، يؤثران على بعضهما ويتأثران ببعضهما...
إذ بينما نلاحظ أن المجتمعات غير المنتجة تلتزم مع الفكر المصلحي الذي لا يرتبط بالأرض بقدر ارتباطه بالعلاقات التي تؤمن له حياة سهلة...
نجد أن أهل الاقتصاد المنتج يرتبطون بالأرض ارتباطا وثيقاً، ويقاتلون من أجل الحفاظ على هذه الأرض...
من هنا خرجت نظرية أن الفقراء هم من يحارب ويموت في سبيل الوطن، وإن كان من الممكن حصول بعض الاستثناء مع القليل القليل جدا من الأغنياء...
يحوي تاريخنا الكثير مما يجب دراسته بعمق اكبر بكثير مما فعلنا حتى اليوم...
نرفع شعارات تلخص مواقف وحالات نضالية واجتماعية بالغة العمق فلا نرى إلا المعاني الروحية المباشرة المتعلقة بالدين ونغفل عن رؤية الأبعاد الحسية لهذه الشعارات التي تؤسس هي نفسها لبناء الإنسان وبناء المجتمع...
"انتصار الدم على السيف"...
"هيهات منا الذلة"...
"مثلي لا يبايع مثلك"...
هذه ليست مجرد شعارات...
هذا نتاج أسلوب حياة وعيش ينتج فكرَ نضال وشهادة...
هل كان يمكن لتاجر يحسب حسابات الربح والخسارة أن يقول قولا شبيهاً...
قد تكون كل أرض كربلاء ولكن ليس كل مناضل حسينا...
فلننظر إلى المجتمع الجزائري أو المجتمع الفيتنامي أثناء حروب التحرير... مقارنة بسيطة تبين أن هذين المجتمعين كانا يقومان على العمل الزراعي بشكل أساسي وفي ملكيات زراعية صغيرة، مع نسبة قليلة جدا تعتمد على الصيد...
في الحالتين كان الناس يعانون أقصى المعاناة للحصول على الانتاج الذي كان بدائياََ وبالكاد يكفي حاجة كل عائلة...
لم يكن الاستعمار في الحالتين يسمح لأي نوع من تراكم في الإنتاج يؤدي إلى تراكم في رأس المال، وإذا حصل هذا الأمر، ولم يقم المستعمر بسرقة عرق الناس، ينتج عن ذلك تكون طبقة تتعامل مع المستعمر لارتباط مصلحتها مع مصالحه...
هل حصل هذا الأمر في لبنان أو حتى في فلسطين؟
ربما حصل شيء شبيه... لكن نسبة الاقتصاد الإنتاجي كانت قليلة جدا نسبة إلى الإقتصاد الخادم للعلاقات الاجتماعية التي تتعامل بدورها مع المستعمر...
لقد عمل المستعمر البريطاني أو الفرنسي على السماح لتكون طبقات إجتماعية مرتبطة به... إلى درجة أن الشباب الفلسطيني لم ير الخطر إلا بعد تفاقم أعداد الصهاينة في فلسطين...
في لبنان، حدًث عن الريع دون تردد...
لقد قامت فلسفة الاقتصاد اللبناني على تقليص الزراعة إلى أقصى الحدود وتحول البقاع الذي كان يسمى يوما إهراءات الإمبراطوية الرومانية؛ تحول إلى صراع مع سلطة التجار حيث كانت ابواب الاستيراد مفتوحة وتم تخفيض الجمارك سواء مع المحيط العربي ولكن على الأخص عبر ما سمي زورا بالشراكة المتوسطية... حيث صرنا سوقا صافية لإنتاج أوروبا الزراعي الذي يشابه منتجاتنا...
هكذا نمت طبقة التجار على حساب طبقة أصحاب الأرض من المزارعين وبالأخص على حساب العمال الزراعيين الذين تبددت أعدادهم وصار من الصعوبة بمكان إيجاد عمال زراعيين من نفس المنطقة...
من سوف يدافع عن الأرض؟
قلة فقط، لكن أحلامهم مرتبطة إما بالهجرة أو بأعمال التجارة أو الاحتيال الرأسمالي...
من الطبيعي أن تموت الأحزاب التي ترتبط بالارض مع وجود هكذا شرائح اجتماعية؛ بدل عن ذلك تنشأ أحزاب تقوم على جذب الناس على أساس العصبية الدينية، لأن الخوف من الآخر هو الحافز للقتال وليس المصلحة الوطنية العامة...
يكفي إلقاء نظرة طبقية على قيادات الصفوف الأولى والثانية والثالثة لكل الأحزاب بما في ذلك حزب الله حتى نجد أن نسبة المنتجين قياسا الى نسبة الريعيين هي فعلا كبيرة جداً...
أما لماذا يقاتل هؤلاء...
فأولا لأن نسبة الفقراء بين المقاتلين هي الأعلى...
تلعب العصبية الدينية دورا كبيرا جدا في حياة هؤلاء، لذلك من الممكن أن يقاتلوا من يختلف عنهم بشراسة ويسكتوا ويغضوا الطرف عمن لا يختلف عنهم في المذهب والدين... حتى لو كان قمة في الفساد...
حين وافق حزب الله على نصف انتصار سياسيا، رغم أنه حقق انتصارا شبه مكتمل عسكريا سنة ٢٠٠٦ مع قبوله بالقرار ١٧٠١، وجب منذ ذلك اليوم رؤية أنه من غير الممكن فتنمة الصراع قبل فتنمة المجتمع...
لقد أُجبر حزب الله على القبول بأقل مما يستحق، لأن المجتمع اللبناني غير ناضج بما يكفي لخوض صراع طويل الأجل يقوم على حرب العصابات والكفاح المسلح...
نفس الأمر ينطبق على الساحة الفلسطينية..
يتغنى البعض بين الوقت والآخر بالحديث عن المجتمع المقاوم أو عن الاقتصاد المقاوم...
هذا بكل أسف صعب المنال لأن المجتمع اللبناني غير قادر على إنتاج ما ليس عنده...
١-طول النفس (الصبر)...
٢-إيثار الوطن على المصلحة الفردية
٣- التربية الوطنية الجامعة
٤-العقيدة المجتمعية ( لا وجود لعقيدة تؤمن بأن الشعب اللبناني شعب واحد) أو كما يقول زياد الرحباني:
واحد زائد واحد، تبقى دوما واحد زائد واحد... ولا تساوي ابدا إثنين...
٥- وأهم شيء، لا وجود لاقتصاد منتج..
باختصار عندما يعجز حزب الله عن إنتاج برنامج محدد للنضال على الساحة اللبنانية، فإن هذا ناتج عن بنيته التي لا تختلف عن بنية بقية المجتمع اللبناني...
في لبنان لا يوجد تهديد وجودي له كما هو الوضع في فلسطين...
المسألة الطبقية لا تضغط عليه كما تضغط عليه المسألة الدينية في فلسطين...
لذلك هو يسعى دائما إلى التوافق في الداخل اللبناني، راجيا من الله أن تقتنع الطبقة الحاكمة بوضع ستاتيكو ريثما يفرجها الله..
كلام قد لا يعجب الكثيرين...
كلام لا يعجبني شخصياً...
لكنه يظل بكل أسف اقرب إلى المنطق عندما لا يتفاعل حزب الله مع أي قوى أو نوايا تغييرية...
أحياناً، يسأل المرء نفسه إلى أي مدى يلتزم حزب الله فعلا بإقامة الدولة المدنية التي هي وحدها ولا شيء غيرها يمكن أن يكون دولة قوية عادلة...