كتب الأستاذ حليم خاتون:
أمس، تم تناول وجوب الوصول إلى مؤتمرات تأسيسية في كل من الأقطار العربية على حدة لكي نصل على الأقل إلى تحصين وحدة هذا القطر ومناعته أمام المؤامرات الاستعمارية التي لم، ولن تتوقف...
حتى الأقطار التي قد تبدو منيعة وقوية إلى حد ما، هي في واقع الأمر عرضة لهذا التآمر؛ وحتى لو بدا للوهلة الأولى أن النظام ثابت وأن الأمور عال العال، يجب عدم نسيان التبعية للخارج التي تحكم هذا النظام أو غيره عبر الإقتصاد أو السلاح أو المساعدات المسمومة، لا بل لا يخفى على أحد أن هذا التآمر قد لا يكون حتى خفياََ كما هو حال التهديد لاستقرار ونمو مصر مثلاً عبر سد النهضة في إثيوبيا وما جرى ويجري عند منابع النيل ومجراه في دولة جنوب السودان وأوغندا، وعبر مشروع حفر قناة إسرائيلية تنافس قناة السويس وتربط الخليج وبحر العرب بالبحر المتوسط...
اليوم سوف يتم تناول لبنان، ويُترك للآخرين تناول بقية الأقطار العربية بسبب عدم إلمام كاتب هذه السطور بتفاصيل البنى الداخلية لبقية الأقطار العربية...
لبنان ليس الدولة الوحيدة المصطنعة في عالمنا العربي...
تاريخيا، لبنان هو الاسم الذي كان يطلق على المنطقة التي تؤلف اليوم تقريبا محافظة جبل لبنان، والتي كانت بلدة بعبدا (عاصمتها) أيام السلطنة العثمانية...
كانت هذه المنطقة عبارة عن إمارة تتنازع السلطة فيها مجموعة من العائلات الإقطاعية التي كانت تشتري لقب الإمارة من القوة التي كانت تبسط السيطرة على منطقة بلاد الشام، بسبب ضعف سلطة الخليفة في بغداد، واعتماده تارة على العنصر القوقازي وغيره من الغلمان الذين كان يُؤتى بهم من حروب الفتوحات، والذين أسسوا سلطة المماليك، وتارة أخرى على العنصر التركي الذي ما لبث أن هزم المماليك، ثم خلع الخليفة في بغداد وأسس لقيام اول خلافة غير عربية مع السلطان سليم الأول (الدموي)...
بسبب قلة المعلومات التاريخية، واعتماد التاريخ الرسمي للدولة اللبنانية المعاصرة، المشكوك كثيراً في صحته...، يبدأ تاريخ الإمارة مع الامير فخرالدين المعني الثاني المعروف بالامير الواقف على التل، كما الكثيرون من الساسة في لبنان حتى يومنا هذا...
قصة التل هذه تعود إلى أن ملك المماليك الذي كان يتبع له فخر الدين تلقى الدعوة "للجهاد" ضد جيش السلطان سليم العثماني...
في نفس الوقت، دعا السلطان العثماني الأمير المعني للقتال إلى جانبه ضد سلطة المماليك...
قام فخر الدين بجمع جيشه وأبطأ في المسير حتى وصل الى تل يطل على منطقة مرج دابق حيث يدور القتال بين الجيشين المملوكي والعثماني...(وفقا لرواية الكاتب رفيق نصرالله)...
انتظر فخرالدين إلى أن تبين له أن كفة النصر تميل إلى العثمانيين ثم هجم بجيشه ليقاتل إلى جانب المنتصر...
قد تكون إمارة فخرالدين وصلت إلى الجليل أو إلى طرابلس أو إلى البقاع في وقت ما... إلا أن الإمارة المعنية بعده ما لبثت أن انكمشت حتى حدود جبل لبنان الذي نعرف...
ما يهمنا من قصة الإمارة هي أن هذه الإمارة كانت للطائفة الدرزية، حيث كانت أكثرية أهل الجبل من هذه الطائفة قبل أن يتم استقدام المسيحيين من بلاد الشام والعراق للعمل في الأرض حيث كان الدروز يعتبرون العمل في الأرض عيبا على الفرسان...
الامير فخر الدين الذي كان يطمح للخروج على السلطنة العثمانية أخذ يوطد علاقاته مع الإمارات الإيطالية المختلفة، ويقال إن تجارته مع إمارة توسكانة كانت وطيدة إلى درجة أنه كان يحتفظ بكل أرباحه ذهبا في تلك الإمارة بانتظار اليوم المنشود...
كما يقال، وفقا لمخطوطات إيطالية أنه وافق على الانضمام إلى حملة صليبية تعطي مدينة القدس إلى سلطة بابا روما مقابل أن تسود إمارته على كل الساحل من عكا في فلسطين إلى طرابلس في شمال لبنان...
ووفقا للأحداث التي جرت بعدها، يمكن الإستنتاج أن العثمانيين عرفوا بخطط الأمير فتم استدراجه إلى الآستانة حيث أعدم، وتم القضاء على كل ورثته، لتنتقل الإمارة بعدها إلى العائلة الشهابية...
(بالمناسبة يقدر المؤرخون ثروة فخرالدين بأكثر من خمسة ملايين دولار ذهبا في تلك الأيام، هي من الضرائب، ولم يتم استعادتها مطلقاً... يبدو أن ساسة لبنان لصوص من يوم يومهم)
في أواخر العصر الشهابي زاد الاحتكاك بين الموارنة الذي كانوا يشكلون أغلبية المسيحيين في الجبل، والذين كانوا بدورهم يشكلون قوة العمل الأساسية في الارض، وبين الدروز الذين أحسوا أنهم جلبوا الدب إلى كرْمهم عندما استقدموا الفلاحين من بلاد الشام...
رغم أن الصراع في الواقع كان صراعا طبقياََ، بين الفلاحين والعمال الزراعيين من جهة وأصحاب الارضي من الإقطاعيين من جهة أخرى... وهذا ثابت من أول إعلان لقيام جمهورية في الشرق مع طانيوس شاهين... ألا أن الغرب أصر كما دوما على إعطاء ذلك الصراع بعداََ دينياً مذهبياََ، لكي يستطيع التدخل...
كانت السلطنة العثمانية إلى أفول، فتدخل قناصل الغرب...
وقفت فرنسا إلى جانب الموارنة رغم أنها ضد طانيوس شاهين، وضد الدعوة إلى سلطة الفلاحين والجمهورية، ووقف الروس إلى جانب الأرثوذكس، على قلة عددهم في الجبل؛ لكن المضحك أن الإنكليز ابتكروا اسما إنكليزياََ نسبوا فيه طائفة الموحدين الدروز إليه واستنادا إلى ذلك ليقفوا إلى جانب الدروز...
كل هم الغرب كان في تقليص السيطرة العثمانية تمهيداً لوراثتها عند السقوط...
كان الاحتكاك الماروني الدرزي قد تحول إلى أول حرب أهلية دينية مذهبية في الجبل، ارتكبت فيها المجازر المتبادلة بين الطرفين، وأدت فيما أدت إلى تقلص عدد الدروز بشكل مريع وإلى هرب قسم كبير من المسيحيين الذين التجأوا عند الشيعة في جبل عامل الذي كان يعرف يومها ببلاد بشارة...
فرض الغربيون على السلطنة إلغاء نظام الإمارة وإقامة نظام المتصرفية حيث يكون الحاكم متصرفاََ مسيحياً من خارج الجبل ولكن من اراضي السلطنة...
ظل الأمر على هذا الحال حتى دخول تركيا الحرب العالمية الأولى ومجيء جمال باشا الذي ألغى نظام المتصرفية ووضع الجبل تحت سلطته المباشرة...
كان لهزيمة السلطنة العثمانية في الحرب أبلغ الأثر حيث خضع لبنان لما تم رسمه بين سايكس البريطاني الصهيوني، وبيكو الفرنسي الصهيوني أيضاً...
قامت فرنسا بسلخ بيروت والشمال والجنوب والبقاع (المقاطعات الأربع) عن سوريا وضمتها الى لبنان...
هكذا وجدا السوريون الذين كانوا في بلاد المهجر أنفسهم وقد صاروا فجأة لبنانيين...
من سخرية الاحداث أن هؤلاء اللبنانيين الذين كانوا يسكنون في أحياء تحمل اسم بلدهم الام تغيرت هويتهم بينما حافظت الأحياء على اسمائها...
الحي السوري، أو Syrian Quarter
Quartier syrien
رفض معظم المسلمين وبعض المسيحيين في لبنان سلخهم عن الوطن الأم سوريا...
اجتمع كبار رجال الدين الشيعة في وادي الحجير في جنوب لبنان تحت قيادة العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين، وطالبوا أن يبقوا مع المملكة العربية والملك فيصل بن الشريف حسين في دمشق...
لكن احلام الشعوب شيء، وخطط الغرب شيء آخر...
سرى اتفاق سايكس بيكو... كما يريد الغرب، وكما خططت الصهيونية العالمية...
في سنة ١٩٢٠، قام الجنرال الفرنسي غورو بإعلان تأسيس دولة لبنان الكبير رغما عن إرادة معظم المناطق التي جرى ضمها بالقوة إلى البلد الوليد...
غداً... لبنان الكبير تحت الجمهورية الأولى... والتأسيس الأول...