عندما كنا صغاراً في المدرسة علّمونا في كتاب التاريخ أنه في عام 1840، وقعت في لبنان «أحداث مؤسفة» امتدّت عشرين سنة وسالت فيها دماء غزيرة. قال لنا كتاب التاريخ والمدرّس الذي كان يعلّمنا التاريخ أن سبب تلك الأحداث كان الخلاف على «كلة - كرة زجاجية صغيرة» بين ولدين، واحد مسيحي من دير القمر والآخر درزي من بعقلين. امتد الاقتتال «الأخوي» عشرين سنة انتهى بصيغة اتفق عليها الاستعمار الوافد الجديد مُمثَّلاً ببريطانيا وفرنسا، والاستعمار القديم المتمثّل بالسلطنة العثمانية، فحلّ الوئام والسلام بين اللبنانيين، وحلّت «عنزة» الوفاق محل «كلة» الشقاق، وأنشد الزجّالون: «نيالو من له فيه مرقد عنزتو».
حكاية «الكلة» و»العنزة» تكرّرت مرات عدة بعد عام 1860. تكرّرت إبان الإعداد لـ»دولة لبنان الكبير» وعند إعلان قيام «دولة لبنان الكبير». تكرّرت قبيل استقلال «دولة لبنان الكبير» وعند استقلال «دولة لبنان الكبير». لن أعود إلى هذه وتلك، بل أعود إلى تاريخ حديث لا يزال الكثيرون ممن عاشوا مرحلة الخمسينيات والستينيات يذكرونه، يذكرونه جيداً.
في خمسينيات القرن الماضي كانت الولايات المتحدة الأميركية قد أنجزت وراثتها للاستعمار القديم، البريطاني والفرنسي، في منطقة الشرق الأوسط. وكان جمال عبد الناصر قد خرج من الحيز الذي حُشر فيه محمد علي قبل قرن من الزمن. اجتاح النفوذ الهاشمي. وأقام الوحدة مع سوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، وتصدّى لسياسة الأحلاف التي كانت الولايات المتحدة تحاول بها السيطرة على البلاد العربية وتطويق الاتحاد السوفياتي.
في لبنان أبدى كميل شمعون رغبته بالانضمام إلى «حلف بغداد». وقبل مشروع أيزنهاور. ونظّم تحت إشراف السفارة الأميركية انتخابات عام 1957 ليضمن أغلبية نيابية توافق على مشروع أيزنهاور، وتوافق على تجديد ولايته. هذ الأمر تصدّت له الجمهورية العربية المتحدة التي أمدّت المعارضة اللبنانية بالمال والسلاح. واندلعت أحداث عام 1958 التي انتهت بمعادلة، طرفاها هذه المرة كانا أميركا والجمهورية العربية المتحدة. وعلى هذه المعادلة قامت التسوية اللبنانية الجديدة «عهد فؤاد شهاب ونصف عهد شارل الحلو».
في عام 1967، وبقرار أميركي، شنّت إسرائيل حرباً تمكنت فيها من هزيمة عبد الناصر وانقلبت على المعادلة اللبنانية فأنشأت «الحلف الثلاثي» الذي حقّق انتصاراً مدوياً على الشهابية في انتخابات عام 1968. ويجدر التذكير هنا بأن هذا الحلف كان يرفع شعار «السيادة وتحرير لبنان من الاحتلال المصري». ذلك الانقلاب على المعادلة المذكورة شكّل الخطوة الفعلية نحو الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 1975. ظلّت حرب «الكلة» مشتعلة خمس عشرة سنة انتهت بـ»عنزة» الطائف. ومن جديد، في ظل «الربيع الزاهر» عدنا إلى «نيال من له فيه مرقد عنزتو».
كانت معادلة «الطائف» تقوم على ركائز ثلاث: أميركا وسوريا والمملكة العربية السعودية. وكانت جزءاً من عملية الإعداد للسلام بين الدول العربية وإسرائيل. هذه المعادلة استمرت حتى عام 2000، إلى أن قررت الولايات المتحدة الأميركية طرد سوريا من المعادلة بسبب رفض حافظ الأسد الانصياع لشروط «السلام» التي كانت الولايات المتحدة الأميركية تُمليها على الدول العربية. وفي لحظة فاصلة مات حافظ الأسد.
في مؤتمر القمة الذي انعقد في بيروت في عام 2002، كرّر بشار الأسد رفضه لشروط «السلام» عندما أصرّ، ومعه الرئيس اللبناني إميل لحود، على تضمين مبادرة السلام التي قدّمها آنذاك الأمير عبدالله بن عبد العزيز بنداً يتعلق بحق عودة الفلسطينيين إلى بلادهم. عندئذٍ قرّرت الولايات المتحدة الأميركية طرد سوريا من المعادلة الثلاثية التي حكمت لبنان في الحقبة السابقة بعد مؤتمر الطائف، فحرّكت جماعاتها تحت شعارات «السيادة»، مرة أخرى «السيادة» ضد «الاحتلال السوري»، وشهد لبنان أحداثاً كثيرة حتى عام 2005 عندما أُجبرت سوريا على سحب جيشها من لبنان. ومن جديد بدأت نُذر الحرب الأهلية واستُخرجت من بطون تاريخنا العظيم حكاية «الكلة». أما «العنزة» فقد طارت.
طوال مرحلة التسعينيات وحتى عام 2005، كان حزب الله يتمتّع بقوة شعبية وسياسية وعسكرية مميزة ومتنامية. مع ذلك فإنه لم يدخل مرة إلى الحكومة مع أن حجم كتلته النيابية كانت تؤهّله لذلك. على أثر خروج السوريين من لبنان وانتخابات عام 2005، شارك حزب الله لأول مرة في الحكومة. كان ذلك يعني أنه جاء ليملأ الفراغ الذي خلّفه طرد سوريا من المعادلة. طبعاً لم يكن مرحّباً به، وفي عام 2006، وبقرار أميركي واضح شنّت إسرائيل حرباً على حزب الله وكان لحلفاء أميركا المحليين «فريق 14 آذار»، والإقليميين وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية أدوار محددة في تلك العملية التي كان من بين أهدافها طرد حزب الله أو القضاء عليه ومنعه من أن يملأ الفراغ الذي خلّفه طرد سوريا من المعادلة.
لم تتمكن إسرائيل من القضاء على حزب الله، خلافاً لما كان متوقّعاً، غير أن الحزب وحليفه الشيعي «حركة أمل» ارتكبا خطأً تكتيكياً بسحب وزرائهما من حكومة فؤاد السنيورة ظناً منهما أن الحكومة سوف تنهار. غير أن الولايات المتحدة أبقت على تلك الحكومة العرجاء «ميثاقياً»، التي تابعت تنفيذ التعليمات الأميركية وصولاً إلى 5 أيار و7 أيار 2008 حيث وُضع لبنان على شفير حرب أهلية.
كانت الولايات المتحدة الأميركية تعدّ لربيعها العربي، فقبلت بتسوية لبنانية مؤقّتة جسّدها اتفاق الدوحة في 21 أيار 2008، وركّزت أنظارها على سوريا، على الربيع الجهنمي الذي كانت تعده هناك. هل يكفي هذا للإجابة على سؤال خبيث لا يزال يتردّد عند «سياديّي» لبنان وهو لماذا ذهب حزب الله ليقاتل في سوريا؟
أواخر عام 2015، دخلت روسيا على خط الأزمة السورية، وساندت بقوة النظام في مواجهة المجموعات المسلّحة التي كانت تحركها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الإقليميون. وفي عام 2016، بات واضحاً أن الدولة السورية تجاوزت خطر السقوط وإن كانت الطريق نحو الانتصار النهائي هناك لا تزال طويلة. أدركت الولايات المتحدة الأميركية ماذا يعني الدخول الروسي المباشر على خط الأزمة السورية، وأن الهدف الذي كانت قد حدّدته لذلك «الربيع» الدموي لم يعد تحقيقُه ممكناً. في تلك اللحظة ارتدّت أميركا نحو لبنان، وبدأت تعد لأمر ما. كانت البداية تشكيل «أوركسترا» سياسية وإعلامية، مدارة بشكل جيد، تعزف كلها على موضوع «سلاح المقاومة».هذا في الوقت الذي كان هذا السلاح يقاتل المجموعات الإرهابية في جرود لبنان ويقضي عليها. هي معزوفة «السيادة» من جديد.
بموازاة ذلك بدأت الولايات المتحدة تعدّ لتفجير الأزمة المالية الاقتصادية، فتوالت التقارير التي وضعتها مؤسسات التصنيف الائتماني كـ «موديز» وغيرها التي أخذت تخفّض المستوى الائتماني للدولة اللبنانية. ثم أوعزت إلى المصارف وكبار الرأسماليين، وجُلّهم من السياسيين، بنقل أموالهم إلى الخارج لخلق المناخات الملائمة لـ»ثورة» الشعب اللبناني على أوضاعه الصعبة، وإلى دسم شعارات مكافحة الفساد واستقلالية القضاء ورفع المعاناة عن الشعب الخ... أدخلت سمّ شعارات الحياد وسلاح المقاومة والقرار 1559 والقرار 1701، ومن جديد «السيادة وتحرير لبنان من الاحتلال الإيراني». وكان لافتاً، ومن اليوم الأول «للثورة»، المطالبة بإجراء انتخابات نيابية مبكرة ثم انتخابات نيابية في موعدها.
من دون الدخول في التفاصيل فإن نتائج الانتخابات التي جرت في 15 أيار سنة 2022، تشبه كثيراً نتائج انتخابات عام 1968.
مرة أخرى، ولا بأس من التكرار، كانت انتخابات عام 1968، انقلاباً أميركياً على المعادلة التي وفّرت الاستقرار للدولة اللبنانية ما بين عامَي 1958 و1968، وكانت الخطوة الأولى على الطريق إلى الحرب الأهلية.
بعد هذا كله فإن «الدولة» في لبنان اليوم لا ترتكز على أية معادلة خارجية ثابتة، لذلك أرى بوضوح «كلة» الشقاق التي أشعلت النار في جبل لبنان ما بين عامَي 1840 و1860 وامتدّت ألسنتها إلى سوريا.
... وأرى أيضاً «عنزة» الوفاق و»الصيغة الحضارية» تُجَرُّ بقوة إلى دكان الجزّار.
فما العمل؟
* نائب سابق ومؤسس «حركة الشعب»