الضياع لم يعد صفة الفلسطيني خاصة أو العربي عموماً...
العالم كله في ضياع...
النظام العالمي فقد الاتزان...
لم يكن النظام العالمي يتمتع بالعدالة يوماً...
لكنه كان يقوم دائما على نوع من التوازن بين الحروب...
ما أن يختل هذا التوازن، حتى تقع حرب للوصول إلى توازن جديد...
انتهت الحرب العالمية الثانية على توازن وجود قوتين عظميين:
أميركا على رأس الغرب وحلف الناتو...
روسيا ومعها الاتحاد السوفياتي على رأس حلف وارسو...
حتى دول عدم الانحياز أو الحياد كانت ترتبط بشكل من الأشكال مع إحدى هاتين القوتين...
مع سقوط الاتحاد السوفياتي، اختل توازن العالم...
عشنا فترة من الهيمنة الأميركية شبه المطلقة...
اختفت دول كانت تملك وزنا وانقسمت على بعضها...
تم تقسيم يوغوسلافيا، ومعها تشيكوسلوفاكيا بعد تقسيم الاتحاد السوفياتي نفسه في أكثر جرائم الجغرافيا السياسية غباء في تاريخ البشرية...
حرص الاميركيون على اقتحام العالم على كل الجبهات باسم إنسانية وديمقراطية مزعومة بعد أن خلت الساحات من اي منافسة...
بعد حرائق البلقان وشرق أوروبا،
تم تدمير الصومال والعراق وليبيا...
نجت الجزائر بعد عشرية سوداء عانى فيها شعب تلك البقاع من تكفيريين على شاكلة داعش والنصرة، بينما لا تزال سوريا واليمن تتقلب على نار حامية رغم انتصار الشعبين السوري واليمني انتصارا جزئياً على قوى العدوان المدعوم أميركيا وصهيونيا...
لكن الحرب الأميركية الأطول في التاريخ كانت ضد بلد صغير، لبنان...
بعد سقوط مصر في القبضة الأميركية على يد محمد أنور السادات، قرر الاميركيون تحطيم ضمير وعنفوان وعز العرب، خاصة أن الخليج مضمون الولاء...
البلد الوحيد في هذا العالم العربي الكبير الذي يحوي صحافة حرة، ومنبر ثقافة قومية، وأحزاب غير مروضة، وروح ثورية... كان لبنان...
لم يكن صعبا على اميركا وإسرائيل إشعال حريق في بلد يقوم على توازن مذهبي هش...
رغم تبعية لبنان المطلقة لهذا الغرب، إلا أن هذا البلد كان يحمل في رحمه تهديدا وجوديا للكيان المصطنع المقام على فلسطين...
الخطر الظاهر أمام أعين الأميركيين تمثل يومها بمنظمة التحرير الفلسطينية وبعض ظواهر الفكر الثوري الجنيني عند بعض اليسار...
الحرب الأهلية من جهة، وغزو البلد واحتلال اجزاء من أراضيه من قبل اسرائيل من جهة أخرى وتدمير السلطة المركزية في بيروت من جهة ثالثة...
كل هذا أدى إلى ظهور ما لم يكن في الحسبان...
مقاومة دينية من نوع جديد...
لم يعد الدين أفيون الشعوب مع هذه المقاومة...
الإله الذي كان هيغل قد أعلن موته، أظهر قوته هذه المرة ليس عبر الأعاصير والزلازل والقوى الكامنة في الطبيعة؛ بل عبر رجال آمنوا ، فكان لهم بما آمنوا، ما أرادوا...
الرجعية المعهودة في كل الأديان، خلعت ثوبها الخارجي ليظهر فكر ثوري جذري غير مستورد كما كانت التهم دوما...
في هذه المرة عادت الجذوة الثورية إلى منبعها في جزيرة العرب والعراق، إلى الحسين بن علي...
كلما طغت اميركا أكثر...
كلما ضغطت إسرائيل أكثر...
ازدادت هذه المقاومة قوة وجذرية...
"اقتلونا فإن شعبنا سوف يعي أكثر"
عجزت اميركا...
وعجزت معها إسرائيل...
فكان قرار الإمبريالية بدفع هذا البلد نحو الهاوية...
إلى الجحيم بكل سكان لبنان...
إلى الجحيم بكل طوائف لبنان...
إذا كان ثمن القضاء على هذه المقاومة هو القضاء حتى على الإتباع والعملاء معهم، لا بأس...
فليكن...
لكن الإمبريالية لم تعمل على جبهة واحدة دون أخرى...
ولا عملت على خطة واحدة بعينها...
عمل الاميركيون على كافة الإحتمالات...
حتى وصلت إلى أسوأ هذه الاحتمالات...
عدم القدرة على ترويض حزب الله...
يقول أحد خبراء النفط والغاز أن البلوك الرابع أعطى إشارات عالية جداً...
لكن الأمر أتى إلى توتال بإقفال هذا البئر حتى تغرق البلاد أكثر في الإنهيار...
توتال الفرنسية، مثلها مثل فرنسا، لا تستطيع الخروج على طاعة واشنطن...
جرى إصدار الأوامر إلى منظومة الحكم في لبنان بتمديد العقود مع توتال حتى سنة ٢٠٢٥، أملا بالتخلص من حزب الله قبل هذا التاريخ...
جرى هذا الأمر بكل أسف مع وجود وزراء محسوبين على المقاومة في مجلس الوزراء...
راهن الاميركيون على نهج ساد في منظمة التحرير وفي مصر الناصرية وسوريا حافظ الأسد...
نهج يخاف من الصدام...
نهج يغرق في "شبر" مياه...
نظروا إلى تجربة حزب الله في البرلمان، ثم في الحكومة...
فوجدوا أن نهاية هذا الحزب إلى نفس مصير حركة أمل أو منظمة التحرير الفلسطينية ممكن...
لكن شيئا غير مفهوم خرج إلى السطح...
في حزب الله رغم كل السياسة التقليدية العفنة التي ظهرت في البرلمان والحكومة، هناك نهج حسيني يقوم على مبدأ الصدام...
صحيح أن الصراع بين نهجي الصدام من حهة، والانكفاء أو التقية من جهة أخرى لم يحسم بعد...
لكن الامل كبير جدا مع وجود السيد نصرالله...
صحيح أن السيد لم يذهب الى الأخير في المطالبة بكل حقوق لبنان القطرية حتى الخط ٢٩...
لكن الصحيح أيضا أنها المرة الأولى التي يقف فيها قائد عربي ويقول إما الإذعان لطلب حكومة لبنان وإما الويل والثبور، وعظائم الأمور...
هل سوف تقع الحرب؟
هل تقع الحرب في أيلول؟
ما حصل في غزة مؤخرا يدل على أن في الكيان من يعتقد أن إسرائيل تستطيع أن تنتصر...
بفضل الخذلان الذي ظهر في غزة، والذي لا تتحمل وزره حركة الجهاد الإسلامي، ازداد غرور إسرائيل...
راح البعض يتحدث عن قوة القبة الحديدية التي كانت تصطاد صواريخ المقاومة وتفجرها في مهدها أو في أجواء غزة نفسها...
البعض الآخر تحدث عن استعمال إسرائيل لسلاح الليزر ضد الصواريخ...
قد يكون هناك جزء كبير من الحقيقة في هذا...
ثم إن اندفاع اميركا في الغوص أكثر وأكثر في أوكرانيا وتحدي الصين في تايوان مع بيلوسي ثم مع وفد الكونغرس... كل هذا يعني أن الإمبريالية وإسرائيل باتت في الزاوية ولا تستطيع التراجع، لذلك فإن خيار الحرب بات مطروحا عند الاميركيين، كما عند الصهاينة...
ماذا عن الجانب الآخر؟
ماذا عن حزب الله؟
تقول التقارير السرية أن روسيا قامت بتزويد حزب الله بصواريخ بحرية قادرة فعلاً على تدمير كافة منصات الغاز مقابل الشاطئ الفلسطيني لأن في هذا ايضا مصلحة روسية...
القضاء على الغاز الفلسطيني ومنع وصوله إلى أوروبا هو هزيمة للغرب...
يقول آخرون إن حزب الله درس جيداً تجربة غزة الأخيرة...
هو سوف يستعمل سلاح الصواريخ بكثافة اكبر أضعافاً مضاعفة عن كل ما عهدته الحروب الحديثة...
لكن لدى الحزب سلاح قاتل تحاول إسرائيل معرفته دون جدوى...
هي في حيرة من أمر قوات الرضوان ومدى جاهزيتها لاجتياح الجليل والسيطرة على المستوطنات في الشمال الفلسطيني بمجرد بدء الحرب...
في النهاية، مئة ألف مقاتل مجاهد عقائدي هم ليسوا فقط لمواجهة سمير جعجع واتباعه التافهين...
وصلت هذه الخشية إلى المستوطنين انفسهم، الذين بدأوا منذ فترة بالنزوح نحو الوسط إلى درجة أن الجنرالات الصهاينة راحوا يحذرون من تغيير ديموغرافي يصل إلى أغلبية عربية في شمال فلسطين خلال وقت ليس ببعيد...
أمر آخر أقلق الصهاينة عندما تحدث بعض الخبراء عن ضفادع بشرية عند حزب الله تحاكي القوة التي كانت عند مصر والتي استطاعت تفجير إيلات ثم إغراق الحفار الذي كانت اسرائيل تريد سرقة نفط مصر بواسطته...
ثم هناك المسيرات الايرانية... والزوارق السريعة والقوات البحرية فوق سطح الماء وتحت هذا السطح...
كل هذا، لن يبخل الحرس الثوري ولا فيلق القدس في استعماله في حرب وحدة الساحات التي أعلن افتتاحها، ولم يغلقها أحد...
في حديث مع الدكتور طلال ابو غزالة، تحدث الأخير عن لقاء له مع روكفلر الذي حدثه عن قوة الضعيف...
أعطى روكفلر البعوضة مثلاً...
بعوضة مع شخص في غرفة مغلقة...
قد يستطيع الأخير القضاء على البعوضة؛ لكن هذه الحشرة الصغيرة سوف تناور وتلدغه ولا تدعه ينام ليلة بأكملها...
ألم يضرب الله مثلا ببعوضة...
ألم تقاوم عين حزب الله مخرز اميركا الصهيوني...
ألم ينتصر الدم على السيف في جنوب لبنان والبقاع...؟
اليوم سوف يتحدث السيد نصرالله...
غداً، سوف تنبح كلاب الداخل، وتموء قطط الذل...
لكن على سفوح الجبال، وفي الوديان، يقف رجال الله معاهدين الأمة أن قيد القدس لا بد مكسور مهما طال الزمن...



