عقيدة جورج بوش بين مطرقة دوغين وسندان روسيا والصين\ م/ زياد ابو الرجا
مقالات
عقيدة جورج بوش بين مطرقة دوغين وسندان روسيا والصين\ م/ زياد ابو الرجا
10 تشرين الثاني 2022 , 22:07 م


عندما القى  الرئيس الامريكي جورج بوش خطابه في شهر حزيران عام ٢٠٠٢ امام حشد  من العسكريين في كلية " ويست بوينت" قال: (( ان من حق الولايات المتحدة الامريكية ان تسدد ضرباتها الوقائية الى اي امة تعتقد انها تمثل خطرا عليها. ان امريكا تملك قوة عسكرية غير خاضعة لقانون المنافسة، وترغب في الاحتفاظ بهذه القوة، وهذا يجعل سباقات التسلح التي عرفتها حقب ماضية غير واردة)). بهذه العبارة وضع بوش الولايات المتحدة في صدر العالم وفرضها القوة التي لا تقهر ثم حدد الهدف الاول وهو العراق قائلا: (( ان بلدانا مثل العراق اخطر من التعامل معها بسياسة الاحتواء فقط...وان الردع هو الرد العنيف والجبار ضد الامم لا يعني شيئا بالنسبة لشبكات ليست لديها امم او مواطنون تدافع عنهم ، اما الاحتواء فهو غير ممكن حينما يملك الطغاة من الحكام اسلحة الدمار الشامل ، ويستطيعون اطلاقها بواسطة الصواريخ او تسليمها سرا الى المنظمات الارهابية الحليفة لهم. كانت هذه العناوين الرئيسية لكل الصحف الامريكية في اليوم التالي لخطاب بوش الذي كان بداية حملته ضد العراق، وبداية لتكليف فريق عمل كبير يعمل داخل الادارة لصياغة ما يسمى عقيدة بوش التي نوقشت في اعقاب الخطاب امام الكونجرس حيث تم اقرارها ومن ثم تم اجبار العالم على الانصياع لها والايمان بها، ومن بين مبادئ هذه العقيدة كما جاءت في هذا الخطاب(( ان العالم لا يواجه صدام حضارات ولكن يشهد صراعا بين الامم لتطبيق قيم مشتركة تقوم على الحد من نفوذ الدولة وسلطتها واحترام النساء، والملكية الخاصة، وحرية التعبير ، والعدالة للجميع ، والتسامح الديني، وعلى الولايات المتحدة ان تساعد الدول الاخرى تحقيق هذه القيم.

    بعد ان طرح بوش عقيدته القائمة على الهيمنة التي لا تخضع لقانون المنافسة وانما الخضوع (( ومن ليس معنا فهو ضدنا )) احدثت ارتدادات وتداعيات على جميع المستويات بدءا من الداخل الامريكي وانتهاءا بالاقليمي والدولي، فعلى صعيد الداخل الامريكي قام قطاع واسع من المسؤلين السابقين والمؤرخين والباحثين الذين يرون ان الولايات المتحدة في طريقها الى النهاية ومن ابرز هؤلاء البروفسور" بول كيندي" ابرز المؤرخين الامريكيين ومؤلف كتاب (( صعود وافول القوى العظمى )) حيث نشر مقالا في صحيفة " الفايننشال تايمز" البريطانية  يوم الثلاثاء ٣ ايلول  ٢٠٠٢ حذر فيه من جنون العظمة الذي تعيشه امريكا وقال: (( من الصعب علي كباحث في التاريخ ان اعتقد بان الولايات المتحدة لن تتعرض في وقت من الاوقات لعدد كبير من الاصابات اثناء لعبها دور " الشرطي الاستعماري" في واحدة من العمليات العديدة والشائكة التي تنجر اليها؛ ، ثم مع اكتشاف تقنيات جديدة في دول مثل الصين والهند في العقود الزمنية القادمة ربما عثرت هذه الدول على وسائل تبطل مفعول الهيمنة العسكرية الامريكية، على مر التاريخ جرى تحييد كل ثورة عسكرية هجومية بردود فعل دفاعية جديدة ، فلماذا الثورة الحالية مختلفة عن سابقاتها؟)). وكانت جيسيكا ماثيوز رئيسة وقف كارنيجي للسلام العالمي ابرز معاهد البحث والفكر في الولايات المتحدة التي قالت في تحقيق نشرته " الواشنطون بوست" في ٢ ايلول ٢٠٠٢ ان رؤية بوش للنظام العالمي الذي يدار وفقا للمصالح الامريكية انما يعتبر بمثابة روما الجديدة، وان قراءتي للتاريخ تنبئ ان هذا النظام لن ينجح ويبين التاريخ ان الدول جميعها تتحد ضد الدولة الاقوى وتتأمر عليها.)) .

بالنسبة لدول الاقليم الامريكي - امريكا الجنوبية- استشعرت الخطر الداهم الذي شكلته عقيدة بوش فمنها من لجأ الى التماهي مع السياسة الامريكية ومنها من قاوم وصمد واخرى نجحت امريكا باسقاط انظمتها واستبدالها بانظمة تابعة.

اما على المستوى الدولي وفي اقليم الشرق الاوسط تحديدا شكل العراق " منطقة الانزال الامريكي" للهيمنة على الاقليم بذريعة امتلاكه لاسلحة الدمار الشامل ورعايته للارهاب، بيد ان حقيقة الامر  هي ان النفط العراقي هو الغنيمة الكبرى التي ارادت امريكا ان تستولي عليها.، حيث اثبت المسح الفضائي الجيولوجي للعراق الذي قامت به امريكا الذي صدر تقريرا فيه يقول: (( ان المنطقة الغربية للعراق تحتوي على الاقل ثلاثة اضعاف الاحتياطي المثبت للعراق والذي يساوي ١٤٥ مليار برميل)) شهدت تلك الفترة التي كان النفط هو الطاقة المعول عليها واصبح استهلاك النفط اكثر من قدرة الدول المنتجة على تلبية الطلب المتزايد نظرا لشيخوخة الحقول الكبيرة مثل الغوير في شرق السعودية وحقل برقان في الكويت حيث دخلت فيما يسمى فنيا

(( Peak Gas & Oil ))

والتي تعني حقن ابار النفط بالماء لكي تحافظ على نفس معدل الانتاج للبئر . في اواخر ثمانينيات القرن الماضي قام البروفسور  هوارد زين  Howard Zinn استاذ العلوم السياسية في جامعة بوسطون والبروفسور ج فيدال J Vidal بكتابة عدة مقالات في الصحف الامريكية محذرين الشعب الامريكي من حرب تشنها امريكا هلى العراق للسيطرة هلى النفط. قامت المخابرات الامريكية بتهديدهما واجبرتهما على التوقف عن نشر اي شيئ يتعلق بهذا الشأن. هيأت امريكا المسرح وكل الوسائل  حيث اوقفت الحرب العراقية الايرانية ثم قدمت كل الاغراءات لصدام حسين لكي يغزو الكويت  وقدمت السفيرة الامريكية في العراق  "ابريل جلاسبي" التي كانت اخر دبلوماسي اجنبي يتحدث معه صدام حسين  انذاك، وكان هذا الحديث  الذي اثار جدلا واسعا ولغطا شديدا  يضاف الى الاستغراب والدهشة حيث انها اعطت الضوء الاخضر لصدام حسين في الاقدام على خطوة الغزو واحتلال دولة الكويت، واخرها غزو العراق واحتلاله بعد احداث ايلول حيث تم تدمير برجي التجارة. ارادت امريكا ان تتخلص من صدام بعد ان خدمها طيلة سنوات حربه على ايران وان تجعل منه عبرة لمن يعتبر من انظمة الاقليم اما الرضوخ الكامل واما مصير صدام. هنا يحضرني قصة حقيقية وقعت في سوق الحدادين في مدينة الناصرة قبل النكبة، حيث قام احد الحدادين اليهود بتدريب قرد (( سعدان)) بادارة دولاب الكير يدويا مما جعل الفلاحين الذين ياتوا الى السوق مع اطفالهم ليصلحوا ادواتهم الزراعية يقصدون محل هذا الحداد ليشاهد الاطفال السعدان. قام حداد جديد بفتح محله في طرف السوق وكان عدد الزبائن قليلا ولكي يجلب الزبائن الى محله عرض على صاحب القرد ثمنا مغريا واشتراه  قام الحداد اليهودي بشراء سعدان اخر واحضره الى المحل وحاول مرارا لكي يقوم بادارة عجلة الكير واخذه الى محل الحداد الذي اشترى منه السعدان ووضعه بجانبه  الا ان كل محاولاته باءت بالفشل. بعد ذلك احضر الحداد اليهودي خروفا ووضعه بجانب دولاب الكير واعطاه اشارة التدوير ثم قام بذبح الخروف ووضع السعدان بجانب الدولاب واعطاه اشارة التدوير فقام بالعملية على اكمل وجه.

اما على المستوى الدولي وخاصة الدول ذات الحضارات العريقة والروح الوطنية العالية والثقافة والقيم الانسانية المجيدة المتمثلة في روسيا والصين والهند وايران وتركيا وكلها دول اسيوية متجاورة جغرافيا  حيث لعبت الجغرافيا دورا اساسيا في تلاقح حضاراتها والتي اوجدت عبر التاريخ بينها مشتركات متعددة ومختلفة .

معظم هذه الدول تفاعلت مع عقيدة بوش من موقع الصد والتصدي عدا تركيا التي لعبت على الحبلين ووضعت قدما في الزرع والقدم الاخرى في البور. بعد ان طورت امريكا عقيدة بوش الى اعلى مراحلهاالمتمثلة باللبرالية الجديدة" نيو لبرالية"  وهي الشكل الابشع للاستعمار الحديث الذي لا يرحم حتى الشعب الامريكي في تغوله القائم على الاستغلال والاستبداد والهيمنة والتنكر للديموقراطية  والثقافة الامريكية.

كانت الفلسفة دائما هي الاسس المتينة التي ترتكز عليها  الحضارات والدول التي ترتقي الى دول عظمى وامبراطوريات، من هنا يجب ان ننطلق في فهمنا للصراع الدائر حاليا بين امريكا من جهة وروسيا والصين من جهة اخرى، انه صراع من اجل تصفية الاستعمار الحديث المتجسد في النيولبرالية وراس حربتها امريكا - القطب الاوحد- الذي اصبح وجها لوجه امام قوى صاعدة تملك امكانات اقتصادية وعسكرية  وبشرية هائلة اجمعت كلها على الاطاحة بالقطب الاوحد القائم على الهيمنة والرضوخ واستبداله بنظام متعدد القطبية  يحترم القانون الدولي وسيادة الدول صغيرها وكبيرها على مبدأ الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة . ان المواجهة الحالية ليست عملا اعتباطيا بل فلسفة يقف على راسها فيلسوف القرن العظيم " الكسندر دوغين" صاحب النظرية السياسية الرابعة، النظرية الثورية التي تقوم على تصفية الاستعمار الحديث بكل دوله واشكاله والدفاع عن كل الحضارات البشرية العريقة والاصيلة مثل الحضارات الصينية والهندية والاسلامية والروسية التي لها قوانينها واعرافها الخاصة بها والمختلفة عن القيم الغربية.

ان دحر نظام القطب الاوحد لا يعني تصفية الدولة الراعية له انما يعني اجبارها على الرضوخ لمنطق السلم والعدل وحكم التاريخ القائم على الشراكة والمنافسة الشريفة واحترام الدول. عالم يقوم على تعدد القطبية والعدالة مع التاكيد مرة اخرى التزام هذا النظام الجديد بالقانون الدولي وميثاق هيئة الامم المتحدة  وضوابط اية منابر مستقبلية غايتها الحفاظ على السلم العالمي وتجنيب كوكبنا الحروب المدمرة وتقلبات المناخ التي تهدد الوجود البشري.

لن يتوقف هذا الصراع الجاري حاليا في عدة بؤر من العالم في اوكرانيا والشرق الاوسط وشرق اسيا الا بتحقيق الاهداف التي صاغها  الكسندر دوغين ويطبقها شي بنج وبوتين. ان الهيمنة الامريكية حتما مصيرها الزوال لانها اصبحت الان بين مطرقة دوغين وسندان روسيا والصين ،وبين ذراعي الدب وتحت نيران التنين.

م/ زياد ابو الرجا

المصدر: موقع إضاءات الإخباري