فشل الكيان الصهيوني فشلًا ذريعًا في القضاء على المقاومة الفلسطينية وإنهائها من الوجود، رغم الخسائر التي مُنيت بها المقاومة، لأنّ موازين القوى بين الطرفين لصالح الكيان؛ فالهجوم الأخير على مدينة جنين ومخيمها كان يهدف إلى القضاء على المقاومة وبنيتها التحتية العسكرية في المدينة. ويبدو أنّ الحسابات الإسرائيلية أخطأت في تحقيق هدفها بسبب صلابة المقاوِمين الفلسطينيين الذين قاتلوا باحتراف وبسالة وشجاعة، ممّا أرغم العدو على الانسحاب من المدينة.
ومن المفارقات العجيبة أنه في الوقت الذي تفرض فيه المقاومة الفلسطينية نفسها، وتواصل حضورها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الذي يرتكب أبشع أعمال البطش والعنف وجرائم الحرب ضدّ الفلسطينيين العُزَّل، فإنّ بعض الدول العربية تقوم بأدوار مشبوهة لتقوية الكيان الإسرائيلي ولتطويل أمد بقائه لأطول فترة ممكنة؛ فالتخطيط الاستراتيجيّ الإسرائيلي يهدف إلى السيطرة على ثروات الشرق والتحكّم بها وتصديرها للغرب؛ ويستغل هذا التخطيط اتفاقيات التطبيع التي تعرف بـ«اتفاقيات إبراهام». وحسب ما نشر الكاتب زهير أندراوس مراسل صحيفة «رأي اليوم» في الأراضي المحتلة - نقلا عن مصادر سياسيّة إسرائيليّة، وُصفت بأنّها رفيعة المُستوى - فإنّ هناك خطة لكيان الاحتلال، تلقى دعمًا أمريكيًا، تهدف إلى ربط دول الخليج برًا بدولة الاحتلال، حيث يجري الإعداد لربط تلك الدول بميناء حيفا. وتحدّث أندراوس عن وثيقة أعدّتها وزارة الخارجيّة الإسرائيلية، جاء فيها أنّ اتفاقات إبراهام «أدّت لتغيير الواقع السياسي في الشرق الأوسط، وفتحت مسارًا لطرق مواصلات جديدة، وهو مشروع ارتباطات برية إقليمي بين دول الخليج وإسرائيل، يغيّر اللعبة التي سترفع مستوى التجارة العالمية في الشرق الأوسط، وتُحسِّن مكانة إسرائيل كمركز لنقل البضائع من الشرق الأقصى إلى العالم الغربي، وستبرز دور الولايات المتحدة في المنطقة»، وفق ما أكّدته المصادر التي سرّبت الوثيقة لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية.
وحسب تلك المصادر، أوضحت الصحيفة أنّ تل أبيب وواشنطن تدفعان قدمًا بخطة سريّة لربط طريق بري متواصل بين دول خليجية وإسرائيل، يتجه من الخليج مباشرة إلى موانئ الكيان الإسرائيلي، لغرض تصدير البضائع من الشرق إلى أوروبا عبر إسرائيل، وبعد ذلك السياح أيضًا. ويسوّق المسؤولون الإسرائيليون ذلك المشروع بأنّه سيختصر كلفة النقل بما يقدّر بعشرين بالمائة، وكذلك المدة الزمنية من عدة أسابيع إلى يومين أو ثلاثة أيام، دون الحاجة إلى المرور عبر قناة السويس. وعُرض الموضوع على المبعوث الأمريكي الخاص عاموس هوكشتاين، و«تحمست واشنطن للخطة، وبدأت بالدفع بها قدمًا مع الدول ذات الصلة»، كما نقلت الصحيفة، التي ذكرت أنّ «إسرائيل تعتقد أنّه توجد فرصة قيِّمة جدًا لدفع الخطة قدمًا بسرعة نسبية (...) وذلك كون جميع الأطراف ستكسب من اختصار زمن وكلفة الشحن بين الشرق الأقصى والأدنى إلى أوروبا، علمًا أنّ إسرائيل تعمل على الخطة بالتوازي أيضًا مع دول الخليج، لكنها تتمتع بدعم أمريكيّ كامل».
ليس ذلك كلّ شيء، إذْ في الجعبة خبر آخر له صلة بالموضوع؛ فبالتوازي مع مشروع الربط البري بين دول الخليج وميناء حيفا، فإنّ واشنطن تواصل العمل على خطة لربط الخليج بإسرائيل بسكة حديدية ومنها إلى أوروبا، «لكن هذا مشروع سيستغرق سنوات أخرى للتنفيذ، بينما الرابط البري يمكنه أنْ يدخل إلى العمل في غضون مدة زمنيّة قصيرة».
ماذا يستفيد الكيان الإسرائيلي من هذا الربط البري؟ إذا كان قد استفاد استفادة مادية كبرى بفتح الأجواء العربية للطائرات الإسرائيلية، فإنّ خطوة الربط البري هذه ستحسِّن مكانة إسرائيل كمركز لنقل البضائع من الشرق الأقصى إلى العالم الغربي، وسينعم الكيان بالأموال العربيّة دون أنْ يدفع شيئًا - كعادته - لا ماديًا ولا على مستوى القضية الفلسطينيّة، وهنا نذكر تعهد رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي بشطبها نهائيًا من الأجندة، ولا عجب - والحال هذه - أن يصرح إيلي كوهين وزير خارجية الكيان بأنّ «وزارة الخارجية تعمل على توسيع دائرة التطبيع وتحقيق مشاريع إقليمية تعزز مكانة إسرائيل في الشرق الأوسط؛ واستثمار في مشروع بنية تحتية بهذا الحجم، سيسهم في تقدّم التجارة بين دول آسيا وأوروبا، ويؤدي إلى ازدهار الدول المشاركة»، ولكن ما لم يقله كوهين في تصريحه، هو أنّ طرقًا برية بهذا المستوى، لن تقام للتجارة فقط؛ فهي تنشأ لأغراض عسكرية وأمنية لرفع القدرة العسكرية على التحرك السريع، وبالتأكيد فإنّ إيران ليست غائبة عن بال المخططين الصهاينة، رغم أنّ التغطية الرسمية للمشروع تأخذ صفة الاقتصاد، وما لم يقله وزير الخارجية الإسرائيلي أيضًا هو أنّ مشروع الربط البري هذا يوجه ضربة لقناة السويس - نبض مصر الاقتصادي، حيث هناك أكثر من خطة إسرائيلية لضرب القناة، من ضمن ذلك فكرة إنشاء قناة بديلة، واستغلال ميناء حيفا؛ وموضوع تيران وصنافير ليس بعيدًا عن تلك الخطة.
الخلاصة أنّ دول التطبيع العربية تتسابق لخدمة الكيان الإسرائيلي في توسيع مشروعه الصهيوني في المنطقة، والذي شعاره «العقل الإسرائيلي.. مقابل المال العربي» وهو شعار خطير له ما بعده، ولكنه يكفي أنه يعلن بوضوح، التخلف العربي عن مسايرة ركب التطور العلمي والتكنولوجي في العالم، إذ ماذا ينقص العرب ليكونوا مستهلكين فقط، وإلى متى سيعيشون تحت رحمة الآخرين؟!
لقد صدق الباحث الرزين عبد الوهاب المسيري رحمه الله، عندما قال: «إنّ مقومات حياة الكيان الصهيوني، ليست من داخله وإنما من خارجه؛ فهو لا يحقق لنفسه الاستمرار، وإنما من خلال الدعم الأمريكي الغربي السياسي والاقتصادي والعسكري المستمر». ومن المفارقات أنّ هذا الدعم، يحصل عليه الكيان الإسرائيلي الآن من العرب، بعدما أصبح عالةً على أمريكا والغرب، ويدخل ضمن هذا الدعم فتح المجال لإسرائيل أن تمرح في الوطن العربي برًّا وبحرًا وجوًّا، ولم يبقَ أمام الفلسطينيين إلا الصمود والمقاومة والاعتماد على قوتهم الذاتية وترك خلافاتهم جانبًا، أما إذا اعتمدوا على العرب فإنهم سيخسرون، (وهذه حقيقة مؤلمة)، وفي النهاية فإنّ إسرائيل، والعالم كذلك، لا يعترفون إلا بلغة القوة، وما يقال عن التنسيق الأمني أو حلّ الدولتين فهو كلام فارغ لا معنى له.
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»