كتب د. علي حجازي:
ثقافة
كتب د. علي حجازي: "ورقة من مذكرات غيمة!".. قصّة قصيرة
د. علي حجازي
27 أيلول 2023 , 06:29 ص

كتب د. علي حجازي:

الشاحناتُ المحمّلةُ بأكياسِ الطحين، والتي شكّلتْ طابوراً طويلاً أمامَ المدينةِ الرياضيّة، أفرغت حمولتها تاركةً وراءها عُمّالاً غمرتهم الفرحة وهم يتحدّثون عن عشرة آلاف طنّ من الطحين المقدَّم هبةً، في هذا الزمن الذي يتزاحم فيه الناس أمام أفران هدّد أصحابها بالإقفالِ نتيجةَ نفادِ المادة.

أنا الغيمةُ الحزينةُ في هذه السماءِ الواسعة، عاينتُ هذا، وشهِدتُ فرحَ العُمّالِ المنسوجِ كلماتٍ تُطْرِبُ أسماعَ الجَوْعى، لأنّ فرادتي مطرَّزةٌ من دموعٍ أفاضَ بِها أطفالٌ وكبار، دموع ٍ ذُرِفَت ْ،فتجمَّعْتُ مشكّلةً غيمةً إنسانيةً راقية، يُنْعِشُها الفرح، ويَهُدُّها الحزن، حزنُ المستضعفينَ في مواقعَ شتّى، المُتَقاطِرينَ طوابيرَ أمامَ مرافِقَ حيويّةٍ عديدةٍ أضحتْ مُتَحَكِّمةً بِرِقابِ صغيرِهِم والكبير.

هذه المعاينةُ الصباحيّةُ أثلجت صدري، الذي ضاق على مدى اتساع فرحتي، فشرعتُ أعدو، أحرثُ حقلَ السماء،سماءِهذا الطحين، أروحُ وأَغتدي، أقتربُ منَ الموقِعِ تارةً وأبتعدُ أخرى، تشدُّني رغبةٌ مِلحاحةٌ لِاحتِضانِهِ بِرِفق، غيرَ أنّي أخافُ عليهِ من قطراتِ عينيّ، لذا، سأبقى أَرْقُبُ وصولَهُ إلى مُحتاجِيهِ بفارغِ الصبر، وقبلَ مُغادرتي المدينةَ الرياضيةَ الواسعة، التي باتتْ تفترشُ بِساطاً واسعاًمنَ العُشبِ الظامِئ، المُتشقّقةِ وجناتُهُ عطشاً، واتتني فكرةٌ، ارتعشتُ بعدَها، وحاصرني إحساسٌ فُجائيٌّ بالخوفِ أن يُنزعَ خيطُ الفرحِ الصباحيّ المرتسمِ على حدقتيَّ في هذا الشتاء، فتساءلت:

"إنّ هذا الموقع مخصّص للأنشطةِ الرياضيّة، وليس مستودعاً تموينيّاً، فلمَ لا يوظِّبُ المسؤولُ عنِ الاقتصادِ هذه الهِبَةَ في أمكنةٍ مُعَدَّةٍ لها؟"

همستُ بهذا، ورفعتُ كفيَّ أدعو اللهَ أن يُلهمَ أصحابَ الأمرِ الإسراعَ في نقل ِ المادّة، أو حمايَتِها، أو توزيعِها على الأفرانِ المنتظرةِ وصولَها بفارغِ الصبر، فأنا أعلمُ المصيرَ الأسودَ الذي ينتظرُ هذِهِ المادةَ البيضاء، إن سَكَبَتْ أخواتي اللواتي يزدحِمْنَ الآنَ في السماءِ، ما في مآقيها وصدورها من غَوْثٍ يستحيلُ معهُ المسعى الخيِّرُ كارثةً محقّقة.

أقفلتُ على هذه الفكرةِ المقلقة، وغادرتُ المكانَ جنوباً، وأنا أُطْبِقُ على خوفي المُتَأَتِّي من هطولِ الأمطارِ، في هذا المناخِ البارد.

توقفتُ فجأةً أمامَ مشهدٍ مُرْتَسِمٍ على الأرض، مُوغِلٍ في الألم، فالرَّجلُ المُتَجَلِّدُ في عزِّ البردِ يَحمِلُ زجاجة، ويصرُخُ صُراخاً مُرْعِباً، أمامَ بابِ مؤسسةٍ دوليّةٍ أقفلتْ عليهِ بابَ الأمل،فشرع يَزْفُرُ بقوة:

"افتحوا الباب، فأولادي يتضوّرون جوعاً، لا طحينَ في بيتنا المتهالك، أمّي فقدتْ دواءَها، زوجي، بعدما فتّشتِ البيتَ مراتٍ عن كسراتِ خبزٍ تَجُْبُرُ بها خاطرَالأولاد،خرجتْ تطوفُ من بيتٍ إلى بيت، ومن فُرنٍ إلى فرن،بحثاًعمّا يسدّ رَمَقَ الصغار. أبي لا يزالُ مرمِيّاً على بابِ المشفى الرافضِ استقبالَهُ، من دون ِ تأمين ٍ مسبق... يا اللهُ، يا ربَّ العرشِ العظيم، ما الحلّ؟ ما الحلً؟ ما الحلّ ؟

قال ذلك، ثمّ فتح القنينةَ التي انبعثتْ منها رائحةُ النّفط. وَجَفَ قلبي، خِفْتُ كثيراً، لدى سماعي الشبانَ الذين أسرعواإليهِ يُرَدِّدون:

- لا، لا تحرِقْ نَفْسَك، حرام، حرام، حَرْقُ النفسِ حرام.

بَسطتُ كَفَّيَّ وشرعتُ أرجو اللهَ أن يساعدَهم لِإنقاذه، وبينا أنا كذلك، أبصرتُ اللهبَ يَلُفُّ جسدَه، فأسرعتُ أسكُبُ دموعي عليه، عَمِلتُ جاهدةً لإطفاءِ النارِ التي كانت تحوطُهُ مُشَكِّلةً هالةً منَ اللهب.

عُدْتُ أدراجي مسكونةً بالحزنِ الشديد، عَبرْتُ سماءَ المدينة، وطفِقْتُ أجولُ فوقَ هذهِ البلادِ من شمالِها إلى جنوبِها، ومن ساحِلِها والجبل، ِإلى بقاعِها.

تعبتُ وأنا أحرثُ سماءَ هذا الوطن ِ الذي تَلُفُّهُ غيومٌ سوداءُ متكاثفة؛ تعبتُ وأنا أمسحُ الدموعَ الذّارفةَ غزيرةًعلى الخدودِ الشاحبة والوُجوهِ المُتَغَضِّنَة، المشحونةِ بألفِ همٍّ؛ فأنّى تَوَجَّهتُ لا أسمعُ سِوى النشيجِ والبكاء، ولاأرى غيرَ الوجوهِ المحتقنةِ المقطّبة.

لقد تضاعف حجمي كثيراً، لدرجةٍ بِتُّ، معَها، أخشى تجمُّعَ تأوُّهاتِ هؤلاءِ الموجوعينَ، وصَرْخاتِهِم، منْ تَشَكُّلِها عاصفةً تدفعُ الغيومَ العديدة، فتدُبُّ الفوضى بينها، وتحصُلُ الِاصطداماتُ العنيفة، فتهطلُ الدموع، وتُشَكِّلُ السيولَ الكبيرةَ وتجرُفُ معها قذاراتِ هذا البلدِ ونقاباتِهِ كُلَّها إلى البحر.

◦ القلقُ الذي أصابَني جرّاءَ الخوفِ المُتزايدِ منْ سُقوطِ المطرِ المُفاجئ، دفع بي إلى العودةِ السريعةِ لأتفقّدَ طحينَ المتعبينَ المُكَدَّسِ لِمُدّةٍ زمنيةٍ حدّدَها الوزيرُ أمام المديرِ العام السيد رياض، الذي بُحَّ صوتُهُ المنقولُ عبرَ وسائل ِ الإعلام،وهو يصرخ: "إنَّ الطحينَ المُخزَّن في منشآتِ المدينةِ الرياضيةِ، لِصالِحِ وزارةِ الِاقتِصاد، بناءً على طلَبِها، لِمُدَّةِ خمسةَ عشرَ يوماً لا غير، إلى حين توزيعِه، سيتعرَّضُ لِلتَّلَفِ حتماً، عند نزول المطر".

وصلتُ، بعدَ لَأيٍْ وصلت، ولكم كان جزعي عظيماً، عند إبصاري الغيومَ تتجمَّعُ وتتفرّقُ، وبحركةٍ سريعةٍ ومخيفةٍ في آن، وضعتُ كفَّي على قلبي، وصرخت:

- مساعي السيد رياض لم تَلْقَ استجابةَ الوزير، ونداءاتُ السيد معن رئيسِ البلديةِ الذي أرسلَ، استِباقاً لِسقوطِ المطر، فريقَ سلامةِ الغِذاءِ في البلدية، بُغْيَةَ الكشفِ على الطحين، على الرّغمِ من عدمِ مَنْحِ الوزيرِ تصريحاً لهؤلاءِ المُراقِبين. لم تجدْ آذاناً صاغيةً منَ الوزيرِ والمسؤولينَ عنِ التخزين، والذين وَعَدوا بِالاِسراعِ في توزيع ِ الطحين.

بينا أنا كذلك، عصفتِ الرياحُ، وتَلاطَمَتِ الغيوم، بَرْقٌ ورعود، وانْهَمَرتِ الأمطارُ مُحوِّلَةً الطحينَ إلى عجين ٍ رخوٍ، انتشرَ على مِساحةِ ملعبِ المدينةِ، مُشَكِّلاً أكبرَ عجينةٍ في التاريخ. أكبرَ وليمةٍ لِلْجرذان ِوالفئرانِ وللقوارضِ كلِّها...

انتابتني موجةُ بكاءٍ حادّ، تحامَلْتُ على ذَرْفِ دموعي بعيداً عن هذا المكانِ المنكوب، مخافةَ إلحاقِ ضررٍ أكبرَ فيه. ونجحتُ ، بصعوبةٍ بالغة.

كانت وسائل الِاتِّصال ِتضجُّ بخبرِ إتلافِ الطحين، ذَرَفَتْ عيونٌ كثيرةٌ دمعاً،واحتقنت وجوهٌ عديدة،أكفٌّ ارتفعتْ تدعو اللهَ أن يُغرِقَ هذا الوزيرَ وسطَ هذه العَجْنَةِ الهائلة، فتجتمعُ عليهِ الفئرانُ والجرذانُ والقوارض.

ولمّا سمعتُ عن مؤتمرٍ صحافيٍّ يَنوي ذلكَ الوزيرُ عقدَهُ في مقرِّ الوزارة، قصدتُ المكانَ على عجل. وصلت، على عَجَل ٍ وصلت، فأبصرتُ سياراتٍ تحملُ شارات، إنَّهُمُ الصحافيونَ كانوايَغُذُّونَ السيرَمُسرعينَ بِاتِّجاهِ ذلك المبنى .

رغبتُ في حضورِ المؤتمر، دنوتُ من المكتبِ أكثر، فأبصرتُ الإعلاميينَ يصوِّبونَ عيونَ آلاتِهِم اللاقطة بِاتِّجاهِ كرسِي ٍّ

دوّار، ومكتبٍ فخم. كانوا يتزاحمون لأخذِ مواقعَ قريبةٍ من المكتب، وفجأةً دخل شابٌ ضخمُ الجُثَّةِ وصرخَ وسط القاعة: الوزير... لحظاتٌ أطلّ بعدها شخص، إنّه على هيئة شخصٍ فعلاً، كان مُصَعِّراً خدَّهُ للموجودينَ المنتظرينَ بازدحامٍ كثيف، شبيهٍ بازدحامِ طيورٍ على جيفة، قصدَ الكرسيَّ الدَّوَّارَ وجلس، وشرعَ يفتعلُ حركاتٍ لولبيةٍ تُظهِرُ لا مُبالاتِه بالحاضرين. أحسستُ أنَّ الكُرسِيَّ يبتَلِعُه، لولا تلك الحركاتِ المفتعلة.توقّفَ قليلاً وأخذ ينظرُ إليهم ببلاهةٍ متناهية، وقُلْ ببلادةٍ شديدة، فِعْلَ من لا يكترثُ بما جاؤوا يسألونَ عنه.

رانَ صمتٌ ثقيل، عيونُ الكاميراتِ مُصَوَّبَةٌ تُسَجِّلُ كل حركةٍ وسَكَنَة، بعدها نطق، تنحنحَ ثمّ قال:

- نعم؟! خير إن شاءَ الله! ما الذي تريدونَ معرفَتَهُ عن الطحين، الطحين ِ العجنة، هل أبصرتُمُ الطحينَ بعدَ نزولِ هذا المطرِ اللعين؟ هل ذهبتُم وصوَّرْتُم ذلكَ المشهدَ الجميل، هاهاها... تلك العجنةُ الكبيرة، الكبيرةُ جدّاً، إنَّها أكبرُ عجنةٍ في التاريخ، استحقُّ عليها جائزة "غينز" للأرقام القياسية... هاه هاه هاه. إنَّ الجرذانَ والفئرانَ تدعو لنا الآنَ بطول ِالعُمر، فالوليمةُ لا تقدَّر ها ها ها...

بعد نوباتِ الضّحِكِ الهستيريةِ هذه، جلسَ، قطَّبَ جبينَه، وأخَذَتْ يَداهُ تُسعِفانِهِ على إيصالِ ما يَوَدُّ قَوْلَه، وبدأتْ كَفّاهُ تزرعانِ الفراغَ بحركاتٍ غريبة:

- من قال لهم أن يُرسِلوا لنا طحيناً لا نَمتَلِكُ أماكنَ لِتَوْضِيبِه، مَنْ؟

- كيف تقولُ ذلكَ معالي الوز... (قالها صحافيٌّ لم تُترَكْ له الحريةُ لِإكمال ِ السؤال)

- أُسْكُتْ، دَعْني أُكْمِل: نحنُ لم نطلُبْ،بالأصل،مساعدةً من أحد، فالمُتَعَهِّدُ الوحيدُ لِاسْتِيرادِ الطحين ِ هو من يمتلكُ وِكالةَ استيرادِهِ وكفى!

- ولكنْ هُناكَ أماكنُ عديدةٌ يُمْكِنُها استيعابُ الطحين. (قال صحافيٌّ ثانٍ)

- كان بإمكانكم توزيعُهُ على الأفرانِ مباشرةً، فالناسُ يتضوَّرونَ جوعاً.قال صحافيٌّ آخر.

- ما دخلني بالناس أنا. (قال الوزير)

- بل كان بإمكانِكُم تشريعُ أبوابِ المدينةِ قبلَ هُطول ِ الأمطارِالتي بلغتْ مسامِعَنا من نشراتِ الأحوالِ الجوية التي ترصدُ حركةَ المناخ ِ قبلَ حدوثِها.(قالها الصحافي)

- يا أخي، افهموها جيّداً: الحقُّ كُلُّ الحقِّ على المطر، لم يتسبَّبْ بِإتلافِ الطحينِ سوى المطر، ماذا أفعلُ لهُ أنا؟ ما ذَنْبُنا نحن؟

- ذَنْبُكُم أنَّكم لم تسمعوا تحذيراتِ رئيسِ البلديةِ الأستاذ معن، الذي حذَّرَكُم من دُنُوِّ الكارثة، ذنبُكُم أنَّكُم ضَرَبْتُم على المكانِ طَوْقاً مانِعاً لنا نحنُ الإعلامييّنَ من تفقُّدِ أحوالِ الطحينِ الذي اجتاحَتْهُ الفئرانُ والجرذان،قبل نزولِ المطر. ذنبُكُم أنَّكم اخترتُمُ المكانَ المُخَصَّصَ لِغَيرِ هذِهِ الوظيفة، ذنبُكم أنَّكم لا تملكونَ شعوراً بالمسؤولية، ولا إحساساً بمعاناةِ الناس... هذه ذنوبكم. (قالها صحافيٌّ قبل أن يحملَ آلةَ التصويرِ مُغادِراً المكانَ غاضباً).

ندَّتْ عينايَ دُموعاً حارةً حُزناً على اتِّهامِ زميلاتِي الغيماتِ التي سكبَتْ ماءَها على هذِهِ الأرضِ الظَّمْأىٰ، والتي باتتْ وأصبحتْ وأضحتْ تبحثُ عن مسؤولٍ لا يُعْجَبُ بمشهدِ تلكَ العَجْنَةِالتي لاتُضاهِيها عجنةٌ من قبل، تفتشُ عن مسؤول ٍيُشَرِّعُ أبوابَهُ أمامَ المحتاجينَ، كي لا يتحوّلَ واحِدُهُم كُتْلَةً منْ لَهّبٍ... وبعدْ:

-أنا غيمةُ الدموع الغزيرةِ في هذه البلاد، وبعدَما ضِقْتُ بما أحتضِنُهُ، أُعْلِنُ عن ِاسْتِيلادِ غيومٍ كثيرةٍ مثلي، ما لم يجدْ أبناءُ هذِه البلادِ حلّاً خلاصاً، خريطةً جديدةً لِمُستقبل ٍ جديد...

​​​​​​​​​د. علي حجازي

المصدر: موقع إضاءات الإخباري