كتب الأستاذ حليم خاتون:
نسي الناس أزمة انتخاب رئيس للجمهورية...
نسي المودعون أن أموالهم طارت...
نسي اللبنانيون أن قدرتهم الشرائية هبطت إلى العدم...
حتى سمير جعجع لم يعد يوافق على مقاطعة جلسات حكومية تبحث في أزمة النزوح...
ذهب جعجع إلى حد مطالبة التيار العوني بتحريك الوزارات المعنية لمعالجة ملف النزوح عبر القوة في استخدام القوانين...
لكن رغم كل المشاكل التي يتسبب بها هذا النزوح يبدو أن القضية بدأت تأخذ طابعا لا أخلاقيا...
هل يتسبب النزوح بأزمة اجتماعية أو اقتصادية؟
الأزمة في لبنان موجودة أصلاً... ليس النازحون أكثر من عامل مسرع لهذه الأزمة...
يحب عدم خلط الأمور كما حصل اثناء الحرب الأهلية سنة ٧٥، حين راح الكثير من اللبنانيين في التركيز على أن هذه الحرب كانت فقط حرب الآخرين على أرضنا...
صحيح أن مصلحة الإمبريالية الأميركية في تثبيت الكيان الصهيوني مركزا أساسياً في منطقتنا كانت دوما هدفا...
لكن الإمبريالية لم تخلق ظروف تلك الحرب الأهلية، الإمبريالية الأميركية بنت على أزمة نظام كانت موجودة عندنا بالفعل...
لم يكن ينقص سوى النفخ في الجمر تحت الرماد حتى توقد النار الدفينة في قلوب اللبنانيين تجاه بعضهم بعضاً...
فايروس الطائفية يعشعش في رؤوس الغالبية العظمى من اللبنانيين... كما غيرهم من الشعوب العربية...
اليوم أيضاً، يتكرر المشهد نفسه في صب كل الحديث تجاه أزمة النزوح حتى نسي اللبنانيون أن هناك طبقة الأقل من واحد في المئة التي تقف وراء كل الأوضاع السيئة التي يرزح تحتها كل الوطن، وكل الطوائف بلا استثناء...
اليوم أيضاً يجري الكلام عن النزوح ولا يقوم أحد بمعاقبة أميركا المسبب الأول لهذا النزوح...
قبل التركيز على أزمة النازحين كان معظم الحديث المستتر يدور في حلقات الطوائف الأخرى أن الشيعة لا يعانون مثل الباقين لأن حزب الله يؤمن المنطقة عنده أمنيا ومادياً وهو ما كان غير صحيح إلى حد بعيد...
مناطق المقاومة كانت تعاني كثيراً، ومناطق البؤس في بيئة المقاومة كانت ضحية نفس الجشع الرأسمالي مع فارق بسيط هو أن الذي يمتص دم فقراء الشيعة كان مصاص دماء يحمل هوية شيعية لا أكثر ولا أقل...
مصاصو الدماء موجودون في كل الطوائف، وفي كل المجتمعات...
يمكن القول حتى أن مصاص الدماء الشيعي هذا كان يتلطى تحت عباءة الثنائي بشكل من الأشكال كما بينت تحقيقات جريدة الأخبار عن مكاتب المراهنات المنتشر في منطقة الشياح مثلاً...
نعم هناك أزمة نزوح تشبه تماماً أزمة نزوح أهل الجنوب إلى المناطق اللبنانية الأخرى والى سوريا أثناء حرب تموز ٢٠٠٦؛
عانى فقراء تلك المناطق التي جرى النزوح إليها من زيادات الاسعار حتى تضاعف سعر كرتونة البيض والخبز، وإيجارات البيوت...
لكن هل كان النازحون الجنوبيون مسؤولين عن هذا أم أن تجار الجشع في هذه المناطق هم الذين رفعوا الأسعار في استغلال واضح لهؤلاء النازحين جنباً إلى جنب مع فقراء تلك المناطق في داخل وطنهم...
الأمر نفسه يتكرر مع السوريين...
قد تكون داعش والقوى التكفيرية الأخرى تستفيد من هذا...
قد يكون بعض اللبنانيين يستفيدون مادياً من هذا تماماً كما في تموز ٢٠٠٦...
لكن الصحيح أيضاً أن بعض اللبنانيين يراهنون فعلا على تغيير ديموغرافي يؤدي إلى غلبتهم...
صحيح أن هذا الفكر مريض... لكن الصحيح أيضاً هو أن كل الطوائف في لبنان تحمل نفس هذا الفكر المريض الذي يختصر الوطن في طائفة، ثم في مذهب إلى أن تصل الأمور إلى القبلية والعشائرية... ثم إلى مستوى العائلة...
ليس سهلاً على الإطلاق تدفق مليونين أو ثلاثة ملايين نازح إلى بقعة تقل عن ١٠٤٥٢ كلم ٢...
ليس سهلاً تلبية احتياجات الاربعة ملايين لبناني الذين لم يهاجروا بعد رغم الكوارث المتتالية، فكيف إذا زاد على تلك الأعداد هذه الموجات من النازحين...
لكن أن يصل الأمر إلى المطالبة بمنع رغيف الخبز المدعوم أو الدواء المدعوم أيضاً عن هذا النازح...
هذا قمة العنصرية وانعدام الأخلاق...
ليضع كل لبناني نفسه مكان النازح السوري، ثم يخبرنا كيف كان ليتصرف مع انتشار البؤس في سوريا بفضل الحصار والبلطجة التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية، غير النزوح...
لا يكتفي الاميركيون بسرقة النفط السوري وإحراق حقول القمح من أجل تحويه السوريين، وحماية أوكار الإرهاب والعمل على خلق بؤر انفصالية على أسس عرقية ومذهبية، بل يذهبون أكثر من ذلك بكثير عبر معاقبة اي كان في العالم يحاول التعامل مع السوريين...
نظرة سريعة إلى الوضع الاقتصادي المأساوي داخل سوريا، يظهر إلى أي مدى تؤثر البلطجة الأميركية على هذا البلد...
ارتفع سعر الدولار الأميركي من خمسين ليرة سورية قبل الحرب الكونية التي شنت على سوريا، إلى حوالي ١٤٠٠٠ ليرة...
هذا يعني انهيار القدرة الشرائية للمواطن السوري ٢٥٠ ضعفاً، في حين وصل هذا الانهيار عند اللبنانيين الى حوالي ٦٠ ضعفاً...
عندنا وضع سيء جداً جداً، ولكن عند السوريين وضع أكثر سوءاً باكثر من أربعة أضعاف السوء الموجود عندنا...
لذلك من الطبيعي أن يجري النزوح...
أما محاولة الباس هذا النزوح لباساً طائفياً... هذا عيب...
مجتمعاتنا والسلطات التي حكمت منذ الاستقلال على الأقل وتلهت عن بناء الوطن عبر توزيع جبنة الدولة بين كبار الإقطاع السياسي الطائفي، الجديد والقديم على حد سواء... هذه المجتمعات مريضة طائفيا، لذلك اعمى الله قلوبهم وجعلهم من الاوغاد العنصريين...
لأن الجميع يخاف من البطش الأميركي غير المبرر، ولأن هذا الخوف شمل حتى دول البريكس وعلى رأسها الصين وروسيا، وجد المواطن السوري نفسه في وضع شبه مجاعة حقيقية لا يمكن الخروج منها إلى عبر عبور الحدود من الوضع السوري الأكثر سوءاً إلى الوضع اللبناني السيء جداً، لكن بمستوى أقل...
كل الكلام عن تطبيق القوانين وطرد النازحين يبدو سطحيا ولا يمكن أن يحل المشكلة...
هؤلاء سوف يعودون من الشباك إذا ما تم طردهم من الباب...
هذا إذا تقبل الضمير معاملة النازحين بالشكل الذي يطالب به الكثير من اللبنانيين الانانيين العنصريين...
لكن أكثر ما يؤذي السمع هو الحديث عن الخطر الوجودي للنازحين...
لو اقتصر الحديث عن الدواعش الذين يتسللون إلى الداخل اللبناني لكان الأمر مقبولاً، هؤلاء الدواعش يشكلون فعلاً خطراً وجوديا...
لكن أن يتم الحديث عن "خربطة" النسيج الديموغرافي في لبنان...
عيب يا جماعة...
ينسى معظم اللبنانيين أن الأكثرية الساحقة منهم كانت قبل مئة عام فقط جزءًا من الوطن السوري قبل سلخ الأقضية الأربعة وبيروت وضمها قسراً إلى دولة لبنان "الكبير"...
نسي اللبنانيون مؤتمر وادي الحجير الذي رفض هذا السلخ، وأصر البقاء داخل المملكة العربية وحكومة الملك فيصل...
لا تقتصر صفة التخلف والعنصرية وانعدام الوطنية والشعور القومي على اللبنانيين فقط، بل تطال حتى النازحين السوريين الآتين من بيئة متخلفة لم تتعلم من فكر البعث القومي العلماني اي شيء...
الذي يخيف؛ بل الذي يرعب فعلاً هو إمكانية ان تكون نسبة التكفيريين بين النازحين كافية لزرع الموت وزيادة مأساة اللبنانيين أكثر مما هي عليه الآن من سوء...
المشكلة مع الأحزاب اللبنانية كلها دون استثناء، هو أنها لا ترى، لا تسمع، لا تقرأ وتتأخر كثيرا قبل القبول بما يطالب به بعض من رأى هذه المأساة في الأفق وطالب منذ سنوات بفتح البحر لكل النازحين واللاجئين للخروج ووضع الأوروبيين أمام استحقاق دفع ثمن شر أعمالهم...
بالتأكيد أن هذا ليس حلاً مثالياً...
لو كان اللبنانيون والسوريون على قدر من الإيمان الوطني والقومي، لوجب عليهم توحيد جهودهم والقتال سويا ضد من يقوم بتخريب سوريا ولبنان في الوقت عينه...
لكن بما أن الحال ليس على ما يرام، فأبغض الحلال هو فتح البحر عبر سفن آمنة تحمل النازحين من مختلف الجنسيات إلى أوروبا، لكي تدفع هذه القارة ثمن أفعالها التي ساهمت بتخريب المنطقة وزرع الحروب فيها...
كذلك، يجب تأمين سفن آمنة جداً جداً للاجئين الفلسطينيين تحملهم إلى فلسطين حتى لو اضطروا للبقاء شهوراً في البحر، لأن حق العودة لا يمكن أن يتم إلا عبر الكفاح المسلح عسكرياً، وعبر المرابطة على حدود فلسطين من كل الجهات... وليس في صراعات بين الفصائل كما يحدث اليوم في عين الحلوة...
أما قصة الخطر الوجودي، فكل طائفة في لبنان متهمة بمحاولة زعزعة الاستقرار الديموغرافي...
هذا ما حصل مع تجنيس المسيحيين بعد الإبادة الأرمنية، وبعد استقبال المسيحيين العراقيين والسوريين بدل الضغط على الدول الكبرى لمنع تفريغ هذه الدول من المكون المسيحي فيها...
وهذا ما حصل مع عملية التجنيس التي قام بها رفيق الحريري في التسعينيات لزيادة أعداد السُنّة والظهور بمظهر المدافع عن الطائفة رغم أن الفائدة الأساسية كانت دوما في استزلام الناس كي يبقى هو على صدورهم ينهب ثروات البلد بكل الطوائف فيها...
لنقلها بصراحة...
أزمة النزوح تضغط ليس فقط اقتصاديا، وهذا هو الأساس...
لكنها تضغط ديموغرافيا لأننا نعيش في مجتمعات متخلفة لا تزال تعيش في القرون الوسطى من حيث تقسيم الاوطان بين الطوائف بدل انشاء مجتمعات مدنية...
عشرات السنين مرت ونحن لا نبني دولا...
عشرات السنين وكلاب الطوائف لا تتوقف عن النباح...
انظروا الى خطاب سامي الجميل...
لا يفهم المرء أين وجد الكاتب سامي كليب في سامي الجميل شابا يحمل آفاقا واعدة...
نفس الأمر ينطبق على كل الأحزاب الطائفية...
لكن، وبانتظار أن نبني وطنا وليس كرخانة طوائف، افتحوا كل الحدود ليخرج كل مظلوم إلى العالم الظالم الذي يحاصرنا ويقوم بقتلنا بفضل قوته العسكرية التي استعملها لتخريب العراق وسوريا ولبنان واغتصاب فلسطين...
إذا انتظر الناس أن تقوم السلطة في لبنان بما يجب، عليهم الاستماع الى ما قاله نجيب ميقاتي الخائف من العقوبات وعبدالله بو حبيب الذي يعترف علنا على الهواء أنه عاجز عن مواجهة من يريد خراب الأوطان...
حزب الله والتيار العوني وغيرهم يعلنون جهاراً بوجوب فتح البحر، وغيرهم لا يتجرأ على الاعلان لكنه مؤيد لهذا الفعل...
لكنهم جميعا عاجزون عن الفعل...
هم يكثرون من الكلام كما في مواجهة أي أزمة من الازمات التي واجه فيها الوطن المؤامرة تلو المؤامرة...
على الناس أن تدبر أمورها بنفسها...
على النازحين تشكيل هيئات شعبية تقوم بشراء السفن وتدبير أمر قيادتها إلى شواطئ أوروبا...
تماما كما على اللاجئين الفلسطينيين العمل باتجاه ملء سفن العودة إلى فلسطين...
أمام الفلسطيني أمر من اثنين لا ثالث لهما،
إما اللجوء إلى الكفاح المسلح من كل الأراضي التي يتواجدون فيها...
وإما ركوب الشاحنات والسفن والاتجاه صوب الحدود الفلسطينية حتى لو أدى ذلك إلى الاصطدام ضد جيوش تلك الدول التي تخضع للإرادة الأميركية وتعمل على إعاقة قوافل العودة...
على كل شعوب المنطقة مساعدة النازحين السوريين كما اللاجئين الفلسطينيين ومواجهة السلطات إذا ما حاولت منع قوافل النزوح صوب أوروبا وصوب فلسطين...
من يرى حلا آخر، هو إنما يعمل فقط لتحميل هؤلاء النازحين ومن قبلهم اللاجئين الفلسطينيين مسؤولية الدمار الذي تحمل وزره فقط الدول الغربية والدول العربية التي سهلت النكبة سنة ٤٨، ثم خلقت أوضاع الكوارث كما فعلت أميركا في العراق وسوريا حتى أجبر أهل تلك البلاد على النزوح...
إما هذا الآن، وإما مزيد من الازمات والبؤس الذي لن ينتهي...
حليم خاتون