يدعو الفيلسوف السلوفيني سلافون جيجيك في كتابه " فلسفة الفوضى" وتحليلاته السياسية الى تحدي الحكمة التقليدية والحقائق المقبولة على كل من اليسار واليمين .ويثير جدلا بطرحه السؤال التالي هل يمكن ان تكون كوارث اليوم حافزا للتقدم ام انها تحولت الى شيئ فظيع لا يمكن اصلاحه؟.

الفوضى كعملة النقد لها وجهين، ومثل البطارية لها قطبين قطب سالب واخر موجب.هي كارثة وتراجع لطرف وتطور وتقدم للطرف الاخر.هناك فوضى تحدث نتيجة تراكمات وارهاصات وتفاعلات متفرقة زمانا ومكانا وفي لحظة معينة تتجمع في حيز ضيق لا يحتمل ضغطها الهائل فتنفجر كالبركان دون ان يتم رصدها او التنبؤ بحدوثها.مخلفة نتائج وتداعيات هائلة .

شهدت بداية هذا القرن احتلالا امريكيا لكل من افغانستان والعراق واحدث فوضى عارمة خرجت عن سيطرة امريكا وسقط عشرات الاف القتلى من الجيش الامريكي وكلفت الخزينة الامريكية تريليونات الدولارات ، وازهقت ارواح الملايين من الافغان والعراقيين وشردت الالاف منهم الى كافة انحاء المعمورة .كانت النتيجة كارثية وفظيعة على امريكا وشعبي العراق وافغانستان.في نفس الوقت كانت مفيدة للصين وروسيا.(( مصائب قوم عند قوم فوائد)).كانت امريكا مدفوعة بالنشوة والجبروت العسكري والاقتصادي الذي ادى الى تربعها على عرش القطب الاوحد بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وحل منظومة حلف وارسو.

سعت امريكا سعيا حثيثا لترتيب منطقة الشرق الاوسط بما يضمن هيمنة الكيان الصهيوني عليه كي  تذهب الى الباسيفيك للتفرغ للتنين الصيني .اطلقت كونداليسا رايس مشروع (( الفوضى الخلاقة وولادة شرق اوسط جديد))الذي يشكل فيه حزب الله العقبة الكأداء واوكلت لجيش الكيان مهمة تصفية حزب الله.ارتد جيش الكيان مدحورا ومهزوما يجر اذيال الهزيمة والعار.وكانت هزيمته الثانية  بعد فراره من الجنوب اللبناني تحت النار. ادركت امريكا ان انتصار حزب الله الثاني سيعقبه انتصارات متتالية حيث لخص السيد حسن نصر الله الوضع والموقف الاستراتيجي قائلا: (( لقد ولى زمن الهزائم واقبل زمن الانتصارات.وان الكيان اوهن من بيت العنكبوت.))

تعرف امريكا جيدا ان الظهير والسند الاساسي لفصائل المقاومة بشكل عام وحزب الله بشكل خاص هو سورية وايران.قامت امريكا بالتحالف مع اردوغان وتنظيم الاخوان وقادت تحالفا تحت مسمى " اصدقاء سورية" لاسقاط الدولة السورية وتفتيت سورية لاقاليم عرقية وطائفية .جندت امريكا وتركيا والاخوان مئات الالاف من الارهابيين ومنبعهم تنظيم القاعدة وسلحتهم وزجت بهم الى الداخل السوري عبر تركيا ودول الجوار الاخرى ليعيثوا دمارا وخرابا في سورية بكل مؤسساتها.خلقت فوضى عارمة وامسكت جيدا بقيادها مستفيدة من تجاربها السابقة وشكلت تحالفا عسكريا ظاهره مكافحة الارهاب وجوهره حماية ودعم الانفصاليين الاكراد والارهابيين .تدخلت روسيا عسكريا ووقفت الى جانب الدولة السورية وشنت حربا لا هوادة فيها على الارهابيين ودمرت خطوط امدادهم من تركيا واحرقت الاف الصهاريج التي تنقل النفط السوري المنهوب الى تركيا التي كانت تصدره للكيان الصهيوني.استطاعت الدولة السورية بدعم من روسيا وايران تحرير حلب وحمص وحماة والغوطتين الشرقية والغربية والجنوب السوري  وبادية حمص وتدمر من قطعان الارهابيين.وتجمع من بقي منهم على قيد الحياة في محافظة ادلب التي يحتلها التركي .قامت منظمة " قسد" الكردية بالسيطرة على مناطق واسعة شرقي الفرات بدعم مباشر من القوات الامريكية وسيطرت على حقول النفط والغاز والثروة الزراعية والحيوانية.تغلب التحالف السوري الايراني الروسي على الفوضى التي نشرتها امريكا في سورية .

كل ما نشرته امريكا من فوضى كان كارثيا عليها وفوائد لخصومها ارادت امريكا كمحاولة اخيرة ان تنشر الفوضى العارمة في روسيا وهيأت المسرح الاوكراني لكي يكون مركز انطلاقها وعلى الفور ادركت روسيا ابعاد المخطط الامريكي الاطلسي فاطلقت العنان للفوضى الاستباقية المحكومة بالوعي والمدعومة بالقوة العسكرية الجبارة وقذفتها في وجه الفوضى الامريكية قبل ان تبدأبعملية عسكرية مدروسة وحددت هدفا استراتيجيالا رجعة عنه ملخصه (( الاطاحة بنظام القطب الواحد وخلق نظام عالمي متعدد الاقطاب وعادل)).خلال عامين من الحرب العالمية التي تدور رحاها على الارض الاوكرانية صارت روسيا اكثر قوة عسكرياواقتصاديا ونفوذا عالميا.اما امريكا والدول الاطلسية واجهت صعوبات اقتصادية وازمات سياسية طالت متطلبات الحياة المعيشية لشعوبها التي ادركت عن وعي ان سبب ذلك يكمن في تبعية نخبها الحاكمة للسياسة الامريكية.

في غمرة انهماك امريكا في سعيها لخلق طوق امان لقاعدتها المتقدمة الكيان الصهيوني على الوطن الفلسطيني حيث راحت تجر الدول العربية الى التطبيع مع الكيان واعلنت ان القدس الموحدة عاصمته وايدت ضم الجولان المحتل للكيان وشجعت على الاستيطان في الضفة الغربية وانتهاكات غلاة المستوطنين للمقدسات وخاصة المسجد الاقصى واعتدائهم على القرى والبلدات الفلسطينية الامنة شجعهم على الاستمرار في غيهم عجز السلطة في رام الله عن حمايتهم والصمت العربي المطبق مما ادى الى دخول الكيان حكومة واحزابا سياسية وجمهور المستوطنين في نشوة انتصار ظاهري على العرب والمسلمين اجمعين وخاصة عندما لاح لهم في الافق ان بلاد الحرمين الشريفين ستلتحق بركب المطبعين وتزامن ذلك مع الخداع الاستراتيجي الذي مارسه محور المقاومة بدءأ من غرفة عمليات غزة بقيادة كتائب القسام وغرفة عمليات المقاومة في لبنان مرورا بسورية وايران امتدادا الى موسكو وبكين.

في السابع من تشرين الاول/ اوكتوبر  ٢٠٢٣ فاض طوفان الاقصى بدون مقدمات ولا بوحي يوحي ببناء سفينة للنجاة وجرف الكيان ومعه الاطلسي وعمت الفوضى العارمة ولم يتمكن احد من استشراف المقدمات والنتائج والتداعيات .كما اذهلت جمهور المقاومة ونخبه السياسية والفكرية والثقافية حيث لجأت الى استخدام ادواتها التقليدية والحقائق المقبولة وظنت انها فزعة قبلية يتوجب على بقية القبائل الحليفة الاستجابة الفورية لهاويستعجل حربا اقليمية . لقد فاتهم ان الطوفان الفلسطيني ليس ارتجالياوانه ابو وام الطوفانات كلها.اما وقد ذاب الثلج وبان المرج تاكد لكل ذي لب سليم ان طوفان الاقصى تحكمه فلسفة عميقة وتدير اتجاهاته عقول فذة جعلت من فلسطين وقضية شعبها العادلة عين هذا الاعصار الذي اجتاح العالم ووضعه امام (( اما فلسطين حرة واما طوفان ودمار))

كوني عاقر اي ارض فلسطين

فهذا الحمل مخيف

لن تتكلم هذي الارض بغير اللغة العربية

فيا امراء الغزو موتو بغيظكم

يا زهرة النيران في ارض الجليل

فاما فلسطين

واما النار جيلا بعد جيل.

م/زياد ابو الرجا.