و "لا يُلدغ المؤمن من جُحرٍ مرتين"...
هذا ما تقوله الأمثال الشعبية؛ والأمثال الشعبية
هي عبارة عن عُصارة تجارب حياتية، تختصرها الشعوب بهكذا أقاويل معبِّرة.
كل الشعوب تبني لنفسها أمثالاً هي شبه قوانين.
ماذا عن التجربة الحياتية اللبنانية؟
هل تصح هذه الأمثال على الوضع السياسي أو الاقتصادي اللبناني؟
إذا سألنا أي لبناني أو لبنانية، ومن مختلف الأعمار، لن يختلف إثنان على صحة هذه الأمثال، إلى درجة، يظن معها المرء أن اللبنانيين بلغوا من النضج، درجةٍ لا يمكن أن تسمح بوقوعهم مرة أخرى في التهلكة.
أما إذا عدنا إلى التاريخ، وإن كان أغلبه، مزوراً أو على الأقل، غير دقيق، فإننا نجد أنّ كل جيل كان يرتكب الأخطاءنفسها مرة واثنتين وأكثر، وأنه ما أن يأتي الجيل الذي يليه، حتى يقع في الخطإ نفسه، والدليل على ذلك استمرار العائلات الإقطاعية والعائلات البرجوازية في السيطرة على مقدرات البلد من كل النواحي.
صحيح أن الهجرة أحيانا، والدين أحيانا أخرى، سمحت لبعض الأسماء الجديدة بالدخول إلى عالم السياسة والمال، إلا أن هؤلاء الجدد مشوا على نفس المنوال، فورثت حركة أمل أل الأسعد وأل حماده وأخذت بين جناحيها آل الخليل وآل عسيران.
أما رفيق الحريري، فقد جاء فوق بولدوزر سعودي وقضى على عائلات سنية كثيرة وطوّع عائلات أخرى.عند المسيحيين كان لظهور الفاشية، أثره؛ حيث سيطر آل الجميل فترة طويلة على هذه الساحة قبل أن ينتزعها منهم جنرالات بشير الجميل نفسه.
وحدهم الدروز، ومنذ الصراع القيسي اليماني،
لم يتغيروا.
لا زال الدروز يخضعون لعائلتي جنبلاط وإرسلان
منذ مئات السنين.
هم بدلوا المظاهر فقط، وانتقلوا من الإقطاع إلى
"الإشتراكية التقدمية!!" والى "الديموقراطية الوطنية".
هذا لا يعني على الإطلاق أن الآخرين تغيروا.
بالمقارنة مع الدروز؛ قد تغيرت أسماء العائلات، لكن المضمون واحد.
الشعب اللبناني مخلص جدا لزعمائه حتى لو ركبوا عليه و"دندلوا" أرجلهم.
هكذا كان، هكذا هو، وهكذا سوف يكون دوما.
تابع دوما، "للتيس" الذي يقود القطيع.
ولكي يتوقف "التفلسف"
قليلا، نأتي إلى حاضر الأوضاع لمحاولة فهم ما يجري.
فجأة، وعى سعد الحريري
أنه الرجل الخارق الذي تحتاجه المرحلة.
هو لم يكن على هذه القناعة؛ لكن لبن العصفور
جعله يعي استحالة الإستغناء عنه.
هل سعد الحريري اليوم، هو غير سعد الحريري القديم؟
الأكيد، أن الرجل تغير.
لقد أخذ بعض الدروس الخصوصية في اللغة العربية الفصحى وصار، على الأقل لا يثير الشفقة والضحك عندما يتكلم.
سياسيا، نضج الرجل. ومع أنه الأخ الأصغر لبهاء، إلا أنه يبدو أكثر "ركوزية" منه.
إذا، أين المشكلة؟
المشكلة هي أن الرجل طور لغته، ونضج بالسنين، لكنه لا زال ابن نظام الريع هذا، نفس النظام الذي سرق ودمر حياة اللبنانيين على مدى ثلاثين سنة.
هل قدم سعد برنامجا واضحا، يريدنا على أساسه، أن نمشي وراءه؟
كما يقول المثل، "المكتوب من العنوان يُقرأ".
الشيخ سعد يريد بكل بساطة تعويم اقتصاد البلد عن طريق خصخصة القطاع العام.
طبعا هو لا يتحدث عن خصخصة الضمان الإجتماعي مثلا، على الأقل ليس الآن وإلى أن يجد الصيغة المناسبة لكسب المال من ذلك.
هو، مثل أبيه، يضع نصب عينيه الهاتف، والمياه، والكهرباء، وربما غدا يخصخص الهواء، فيتوحب على اللبناني تركيب عدّاد على منخاره وفمه كي يدفع ثمن الأوكسجين الذي يتنفسه.
إن أحدا لا يبغي الدعابة في ما سبق، لكن هذا هو بالضبط سعد رفيق الحريري.
فكر رأسمالي ليبرالي متوحش لا يؤمن بدولة المجتمع، أو الإقتصاد الإجتماعي.
هدفه، كما كان هدف رفيق الحريري، هو دولة الشركات. دولة رجال الأعمال "النصابين".
في هذا، سعد الحريري ليس وحده.
تقريبا كل البرجوازية السنية (ميقاتي، السنيورة وغيرهم) تريد هذا، استنادا إلى تمويل سعودي يسمح لها بالسيطرة على كل مقدرات البلد.
التيار الوطني الحر، وإن كان خصما للحريري؛ فهذه الخصومة ليست على المبدأ الليبرالي بقدر ما هي تنافس على من يسيطر.
من يمسك البلد؟
قد تكون ليبرالية التيار أقل توحشا من ليبرالية
المستقبل، بسبب انتماء الأولى إلى الرأسمالية الفرنسية "المضبوطة" إلى حد ليس بالقليل، بينما ليبرالية المستقبل تعود إلى عقلية الصحراء والجمال العائدة إلى قسوة الحياة السعودية المتخلفة.
القوات، يمينيون بالطبع، واليمين دائما رأسمالي،
أي قد يمشي نصف الطريق مع الليبرالية.
لكنه لا يستطيع قبول نتائجها على الطبقة الشعبية، لأن جذوره الفاشية من ايام الكتائب لها أبعاد شعبية.
هل يمشي مع الحريري؟
إنه ينتظر أوامر أولي الأمر.
إذا اتينا إلى حركة امل،
نجد أنها غير بعيدة هي نفسها عن الحريرية السياسية، وإنها، كما فرنجية مستعدة أن تمشي إلى الأخير مع سعد الحريري.
هم تعاملوا سوية في السابق.
قد لا يقبلون بالفتات، كما على أيام رفيق الحريري؛
ولكنهم أكيد سوف يركبون نفس المركب إن هم ضمنوا "حصّة عادلة من الدولة الجديدة.
ومن يقول دولة، يقول مال واقتصاد ومشاريع حقيقية ومشاريع وهمية..
الخ..
إذا حركة أمل، سوف تمشي مع سعد.
جنبلاط عودنا أيام رفيق الحريري أن يغضب.
ليس مهما ما يقوله جنبلاط؛ فكلام الليل عنده،
يمحوه النهار.
المهم أن يأتي الثمن.
الثمن قد يكون Samsonite من الدولار،
وقد يكون قصرا، كما قصر كليمنصو الذي جاءه هدية من رفيق الحريري.
نأتي الى حزب الله.
هل سوف يمشي الحزب مع سعد؟
الحزب، الخائف الدائم من الفتنة السنية الشيعية، سوف يمشي.
ربما مع بعض التحفظات والشروط هذه المرة، لكنه سوف يمشي.
هل هناك حلول أخرى؟
أكيد، هناك حلول كثيرة غير هذا.
لكن، لا الشعب اللبناني ناضج كفاية لهذا ولا حزب الله.
قد يكون الحزب محقا.
لأن الشعب اللبناني قد أثبت أن صبره على الظلم كصبر جمال الصحراء على العطش.
كما أثبت نفس هذا الشعب
أنه متخلف إلى درجة لا يمكن تصورها حين يدور الحديث عن بناء نظام سياسي عصري.
نعم اللبنانيون معاصرون في الموضة، في المأكل، في الملبس، في السفر،
في السياحة، في الدبكة، في الرقص الغربي والشرقي...
..... في كل شيء، هم منفتحون ويجارون العصر؛ إلا في الحياة السياسية؛
إلا في بناء دولة القانون.
في هذا المضمار، اللبناني تابع.
أنها ثقافة القطيع.
يتحدث بالعلمانية ويصطف خلف المؤسسات
الدينية.
يتحدث بالماركسية ثم نراه في المستقبل أو أمل أو غيرهما.
إنها الشطارة عند اللبناني الذي يعرف أن زوج أمه هو عمه، حتى لو كان هذا العم، الشيطان نفسه.
هو لا يرى ابعد من أنفه.
يلحس الطعم، ويتلذذ بطعم الدم، غير عابىء بأنه إنما يلحس دمه..
لذلك، ربما الأفضل أن تركب هذه الدولة الجديدة
بنفس الوجوه.
لا يوجد حل آخر.
الشعب "المعتّر مبسوط بتعتيره"
الكثيرون، وانا منهم، يعرفون أننا نسير مع هؤلاء نحو الجحيم.
ولكنك لا تستطيع أن تقوم بثورة ضد شعب.
هذا الشعب تابع لهؤلاء.
سوف يجرب المجرب،
مرة واثنتين وألف... ولن يتوب.
سوف يُلدغ من نفس الجحر مرات ومرات ثم يعاود الكرّة.
عبثا نحاول...
ذنب الكلب لن يجلس حتى لو حبسناه في قالب
مليون سنة.
هكذا هو شعب لبنان العظيم!!!؟؟؟