كتب الأستاذ عبد الهادي المجالي:
مقالات
كتب الأستاذ عبد الهادي المجالي: "هي غزه ... إلى ولدي … "
عبد الهادي راجي المجالي
23 تموز 2024 , 22:05 م


‏ولدي العزيز :

‏أعرف أني كلَّ ليلةٍ أحضُرُ لغرفتك كي تخبرني بما فاتني من أخبار غزة ...

‏وأعرف أني اتعبتُك كثيرا بالأحاديث عن تاريخ غزة، وعن القضية وعن الحرب والبارود..أعرف جيدا...أتدري لماذا ⁉️

لأني أريدُ أن تكونَ مثلَهم وليس مثلي ...

‏أنا مجرّدُ نِتاجِ للبيروقراط وللقلم التائه والهوية الضائعة ..فلا تكن مثلي أبدا …

‏وتعلم ياولدي أنّ الأمر لا يقاس باللحظةِ الحالية ..ما يحدث في غزة ستكون له حساباتٌ مستقبليةٌ خطيرةٌ. هي الأرضُ الوحيدةُ في هذه الدنيا التي لم تجثُ على رُكبَتَيْها ....

‏لقد ركعت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ووقَعت في أسرِ الإستسلام …,

‏واليابانُ بعظمتِها الصناعيةِ والعسكريةِ، بعد القنبلةِ النوويةِ الثانيةِ ركعت ووقَّعَت معاهدةَ الِاستسلام ...،

‏حتى إيطاليا الفاشيةُ هي الأخرى ركعت .

‏لكن، ...هل شاهدتَ "غزاوياً" يوقِّع ُعلى الِاستسلام. .. ؟

‏هذا أولُ درسٍ أريدُكَ أن تعرفَهُ، وهو أنَّ الشعبَ هناك، حينَ يُنهي بياناتِهِ بجُملةِ : "وإنَّهُ لجهاد ،نصرٌ أو استشهاد"فهو يطبِّقُ ما يقولُهُ على أرضِ الواقع …,

‏غزةُ هي الإمبراطوريةُ الوحيدةُ في هذا العالمِ التي دُمِّرَت مساكِنُها، وهُجِّرَ شعبُها ولم تُوَقِّعْ ..!!

‏تعلّم يا ولدي منهم أن لا توقِّعَ مُستقبلاً، فالتَّوقيعُ على الِاستسلام لايعني ورقةً أو قلماً، أو القبولَ بشروطِ العدوّ …

‏التوقيعُ يعني اِنهيار َالقِيَمِ وضَياعَ العقيدةِ وتذويبَ الهُوِيَّة .

‏أمّا الأمرُ الآخرُ الذي عليكَ أنْ تتعلَّمَهُ من هذاالدرس هو:أنّ الحروبَ تندلع بين دول، وأحيانا بين دولٍ تُنتِجُ مِحوَرا ًواحداً، ودولٌ أخرى تتكدسُ في تحالُفات ..

‏هذه الحربُ هي الأولى في تاريخِ البشريةِ التي تنخرطُ فيها القوى العُظمى ضِدّ مدينةٍ ذاتِ مِساحةٍ صغيرة ... أتدري أنَّ مِساحةَ غزةَ أصغرُ من مِساحةِ باريس؟.. أتدري يا ولدي أنَّ مِساحتَها أصغرُ أيضاً من مِساحةِ طوكيو .. وأصغرُ بكثيرٍ من مساحةِ القاهرة.

تخيَّلْ أنَّ العالمَ كُلَّهُ يُقاتِلُ مدينة!!والغريبُ أنَّ هذهِ المدينةَ ..التي يسمّونَها مجازاً، "قطاع" ..قدّمَتْ، حتّى الآن، ما يقاربُ ال (40) ألفَ شهيدٍ ولاتَزالُ تقاوم ...!!

‏حَتْماً بعدَ خمسينَ عاماً ستكونُ يا ولدي كهلا ..وأكونُ أنا تحتَ الترابِ، لكنَّكَ ستقرأُ في التاريخِ درساً مُفادُه ..أنَّ المُدُنَ تَهزمُ الدولَ، وأنَّ أهلَ غزةَ في فِلسطين هم مَنْ غَيّروا مسارَ المعارِكِ في التاريخ ....

‏ستقرأُ أيضاً أنَّ مدينةً على الخارطةِ تبدو بحجمِ رمشِ العينِ أو أصغرَ استطاعت أن تُنتِجَ دروساً في عِلْمِ الِاجتماع ..وقد نَسَفَتْ كلَّ نظرياتِ فْرُويْد،في علمِ النًفسِ،وأنتجتِ "النظريةَالغزّاويّة"،في الحربِ، التي تفوقت على النظريةِ النسبيةِ لِأيَنِشتايْن ..والأهمُّ من كلِّ ذلكَ أنّها نقلتِ الحربَ من أعلى الأرضِ لِأسفَلِها ...

‏وستتعلمُ يا ولدي، أنْ تعودَ لِطارقِ بْنِ زياد حين قال:البحرُمِنْ ورائكم،والعَدُوُّ أمامكم؛

‏وستكتشفُ أنَّ غزَّةَ كانت مُحاطةً بالعدوِّ من كُلِّ الجِهاتِ، حتّى البحرُ يا ولدي حاربَ أهلَها وحاربَ الشواطيءَ فيها ...وكان بخيلاً بِالسَّمكِ والمِلح ..,

‏جَنَّدوا البحرَ ضِدَّ مدينةٍ ... أيُّ عالَم هو هذا ⁉️

‏تعلم أيضاً يا ولدي أمراً غايةً في الخطورةِ وهو : حين يقولون لك: حماسُ تقاتلُ، لا تصدقْهُمْ ..حين يقولون لكَ: الفصائلُ تقاتلُ، لا تصدقْهُم أيضا, وحين يختصرونَ المعركةَ بفصيلٍ مسلحٍ، لهذا التنظيمِ أو ذاك، لا تصدقْهم ..لأنَّ مَنْ يُقاتِلُ هو الفلسطينيُّ، والطلقةُ، كمُطلِقِها، لا تفُرِّقُ بينَ تنظيمٍ وآخَرَ ،أو بين عسكريٍّ ومدنيّ ..

‏إسرائيلُ تحاربُ الفلسطينيَّ بِغَضِّ النَّظرِ عن أيدلوجيته ومَنبَتِه، وهذه الحربُ هي من أهمِّ حروبِ الهُوِيَّةِ في التاريخ ..

‏حين تقرأُ "الهويات القاتلة"، لأمين معلوف، ستعرف ما أعنِيه ..الفلسطينيُّ لَدَيْهِ جغرافيا وتراثٌ وثقافةٌ ودِينٌ وأرض ...

‏الفلسطينيُّ هوَ الوحيدُ، في هذا العالم، المكتملُ في هُوِيَّتِه،في حين أنَّ عدوَّهُ مُوَزَّعٌ في اللغةِ ..مشتتٌ في الأصول، العدوُّ يا ولدي،لوكان يؤمنُ بإسرائيلَ كَهُوِيَّةٍ متجذرةٍ أو راسخةٍ أو ثابتة ..لما حمل كُلُّ واحدٍ منهم جوازَ سفرٍ بجنسيةٍ أخرى ...

‏لو كانوا يؤمنون بدولتهم، وبأنَّ الأرضَ لهم لما مارسوا الجريمة ..

‏على الأقل الهُوِيَّةُ لدى الشعوبِ أساسُها الأخلاق؛ فالعَرَبُ حينَ بتحدثونَ عن هُوِيَّتِهم، أوَّلُ ما يورِدونَ في وصفِها هو مُصطَلَحُ التسامحِ، ومصطلحُ الكَرَم ْ..,

‏إسرائيلُ مجرمةٌ، لأنَّها بِلا هُوِيّة، ولايُوجَدُ في سلوكِهِم أيُّ أخلاق ..

‏ الأفضلُ والآخَر ُهو عِبْءٌ على البشريّة ... وتلكَ هي صفاتُ العِصابات، ولم تكنْ صفاتٍ لِلدُّوَلِ الراسخة .

‏بعد"خمسينَ عاما" ستكتشفُ يا وَلَدي أنَّ مجرى التاريخِ قد تغيَّرَ، وأنَّ مدينةً هَزَمَتْ دُوَلاً كُبرى.. سَتَكْتَشِفُ أنَّ العلومَ الإنسانيةَ كُلَّها سَتُغَيِّرُ مساراتِها، وستقرأُ مِنْ جَدِيدٍ سيرةَ شعبِ غَزَّةَ و .. سلوكَه...

‏ستكتشفُ يا وَلَدي أيضاً أنَّ أَخْطَرَ ما حمَلَهُ التاريخُ لنا .. هو جملةٌ واحدةٌ اِخْتَصَرَتْ كُلَّ الحِكايةِ، مِنْ أَوَّلِها إلى آخِرِها وهي :

‏"إنَّهُ لَجِهاد، نصرٌ أوِ اِستِشهاد."

المصدر: موقع إضاءات الإخباري