طوفان الاقصى واللاعقلانية العربية.
مقالات
طوفان الاقصى واللاعقلانية العربية.
م. زياد أبو الرجا
10 تشرين الأول 2024 , 20:36 م

مقدمتان ضروريتان.                                        

الاولى:- منذ ان وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني،بدأت معركتنا مع بريطانيا راعية المشروع الاستيطاني القاعدة المتقدمة ومع الحركة الصهيونية.كنا وما زلنا نخوض معاركنا بنوايانا ومشاعرنا ورغباتنا دون ان نأخذ بالاعتبار اوضاع العدو واوضاعنا او نحسب حسابا لطاقاتنا واذا كانت هذه النوايا (( تنظر الى الواقع كما نحب ان يكون وليس كما هو  )).ان نظرتنا الى الواقع كما  نحب تولدت من بيئة التخلف العربي ونمت في مستنقعاته. فالتخلف العربي المستحكم في البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية كافة مسؤول اكثر من الاستعمار -  بل قبل الاستعمار - عما اصابنا من نكبة: اذ هو الذي سهل قيام اسرائيل اكثر بكثير من الانتداب البريطاني. مع ان العقل العربي يرد النكبة الى العامل الخارجي لائذا بفكرة المؤامرة  على عادة سيئة درج عليها هروبا من محاسبة النفس.
استمر الداخل العربي كله على هذا المنوال من التخلف والانكشاف امام انواع مختلفة من الاستباحة الخارجية عاجز عن تنظيم نفسه في مواجهة الكيان الصهيوني بسبب نزاعات قواه وتباين خياراتها وتحالفاتها مجسدة صورة التشتت العربي الذي قاد الى انعدام الارادة العربية الواحدة، او الرأي او الاتجاه العربي الواحد، في مستويات الحكم العليا. وصورة التبديد العربي لموارد القوة الذاتية ومنها الموارد الوحدوية، وجرّدها من اوراقها الرابحة واسقطها في كماشة التحالف الامريكي--الصهيوني والذي ادى الى هزيمة العرب في حرب حزيران ١٩٦٧م. كانت اللاعقلانية العربية السبب الرئيسي الثاني الذي ادى الى هزيمة حزيران المدوية.
ان من اهم ما كشفته هزيمة حزيران بشكل صارخ هو ان الصراع والمواجهة كانت بين الصهيونية كنظام ولدت وتأصّلت في الحياة الغربية الحديثة بينما نحن العرب في الاغلب بعيدين عن هذه الحياة متنكرين لها.لذلك كانت المواجهة بين مجتمعين مختلفين في القوة بمعناها الشامل .مجتمع استيطاني راكم اسبابها العلمية والتقنية والتنظيمية والتجهيزية.واخر  مجرد من الاسباب تلك، او مكتف بالمتوفر منها وهو تقليدي بما فيه العسكري.بمعنى اخر ان مجتمعنا العربي والمجتمع الاستيطاني الصهيوني الذي نجابهه ينتميان الى حضارتين مختلفتين، او مرحلتين متفاوتتين من مراحل الحضارة.بين حضارة لا عقلانية تجتر الماضي المتخلف وتعيد انتاجه وبين حضارة قامت على الانجازات العلمية النظرية والتطبيقية وما وراء هذه الانجازات من عقلانية متطورة.اي ببسيط العبارة بين اللاعقلانية العربية والعقلانية الغربية.
الثانية:-- خرجت مصر من الصراع العربي الاسرائيلي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد تاركة خلفها فراغا في الاقليم.قامت الثورة الاسلامية الايرانية بالاطاحة بنظام الشّاه احد اهم الركائز الثلاثة الامريكية في الاقليم باكستان والسعودية.دفعت امريكا بالقوى المتضررة معها من الثورة الايرانية  ودفعت بصدام حسين ليشن حربا ضد الجمهورية الفتية .مولت القوى المتضررة من الثورة صفقات السلاح اللازمة للجيش العراقي ليواصل الحرب والمواد الغذائية للعراق.اكلت نيران الحرب العراقية الايرانية كل الاحتيطات المالية للبلدين، وقضت على جيل كامل من الشعبين، والحقت الدمار في البنى التحتية في البلدين.توقفت الحرب عام ١٩٨٨م وعادت الجيوش الى الحدود الدولية التي كانت قبل الحرب.احتل صدام حسين الكويت في شهر اب ١٩٩٠ م وحشدت امريكا الجيوش لتحرير الكويت وعودة الحكومة الشرعية وقد تم ذلك في شهر شباط ١٩٩١م وعادت الكويت حرة الى اهلها.تم حصار العراق وتقسيمه عسكريا عن بعد حيث منع سلاح الجو العراقي من التحليق فوق المناطق الكردية والمناطق الشيعية في الجنوب.وتمت مصادرة اموال النفط ووضعها في برنامج " النفط مقابل الغذاء" .في تلك الفترة سقط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، كما تم تفكيك الاتحاد اليوغوسلافي الى عدة دول .شهدت تلك الحقبة ايضا الطلب المتزايد على النفط وعجز الشركات النفطية العملاقة عن مجاراته وتلبية احتياجاته، فلجأت الى الاندماج في مجال استكشاف حقول جديدة ، لان الحقول المشهورة مثل حقول الغوير الثلاثة في شرق السعودية" حقول ارامكو"وحقل برقان في الكويت واخواتها في الدول المنتجة للنفط  دخلت مرحلة الشيخوخة والنضوب بالمصطلح النفطي  ( Peak Oil) وهذا يعني ان تحقن الحقول بالماء للحفاظ على معدل الانتاج في الابار النفطية(( يجب حقن سبعة براميل ماء للحصول على برميل واحد من النفط )) وان استمرار عملية الحقن بالماء سيصل يوما ما الى ان تحقن الحقل بالماء ويعطيك البئر ماءا في الطرف الاخر.
دفع هذا الوضع النفطي الدولة العميقة في امريكا الى تسهيل عملية القاعدة لتفجير الابراج في نيويورك لكن واقع الحال هو ان الابراج تم نسفها من الداخل.حسب ما قدمه المحقق الامريكي MICHAEL C.RUPPERT في كتابه CROSSING THE RUBICONوكذلك في تقديمه لفيلم ZEITGEIST وذلك لتقديم المبرر الوطني والاخلاقي لغزو واحتلال افغانستان للسيطرة على نفط بحر قزوين واحتلال العراق للاستيلاء على حقول النفط الغنية فيه.
من اجل الهيمنة الكاملة على الشرق الاوسط وتحت شعار الشرق الاوسط الجديد الذي طرحته وزيرة الخارجية الامريكية كونداليسا رايس واوكلت المهمة لجيش الكيان الصهيوني لتحقيقه، وخاض حرب تموز عام ٢٠٠٦ ضد حزب الله في لبنان وخرج منها يجر اذيال الهزيمة والانكسار.خرجت القوات الامريكية من العراق تحت ضربات المقاومة لكنها نجحت في " لبننة" العراق وقسمته الى شيعة وسنة واكراد حسب دستور بريمر الحاكم العسكري للعراق.
ظلت الجمهورية الاسلامية الايرانية خارج الهيمنة الامريكية، وتموضعت في الاقليم وتقدمت لملء الفراغ الذي تركته مصر طوعا.دأبت امريكا على مجابهة ايران مرة اخرى ولكن بادوات غير الحرب المباشرة بل بالمجابهة الاعلامية والسياسية والامنية.تقوم هذه المجابهة على
١-- ان ايران تسعى لاعادة امجاد الامبراطورية الفارسية وان لها اطماع توسعية في الاقليم.
٢--ايران تريد ان تشكل امبراطورية صفوية شيعية وتعمل على اقامة هلال شيعي في الاقليم
٣-- ولتحقيق اهدافها التوسعية والمذهبية خلقت اذرعا لها تعمل على مساعدتها وتتخذ من نصرة القضية الفلسطينية تورية لاهدافها الحقيقية.واهم هذه الاذرع حزب الله في لبنان، وفصائل المقاومة العراقية والحشد الشعبي في العراق وانصار الله في اليمن.قامت امريكا وبريطانيا بعمل محطات اذاعة تبث باللغات الايرانية ( الفارسية والكردية والاذرية والبلوشية)لتحريض الشعوب الايرانية ضد دولتها.واقامت محطات تجسس في كردستان العراق يشارك فيها الموساد.تكفلت دول الاقليم المتضررة من الثورة الايرانية بما تملكه من وسائل اعلام واموال طائلة لتصوير ايران على انها الغول الفارسي الصفوي الشيعي الذي يسعى الى الهيمنة على الاقليم.وان حزب الله في لبنان لم يطلق طلقة واحدة ضد اسرائيل منذ حرب تموز ٢٠٠٦ وانه قام بترسيم الحدود مع الكيان وتنازل عن اراض لبنانية ومنح حقول غاز المتوسط اللبنانية لاسرائيل.جندت امريكا منظمات ما يسمى المجتمع المدني ال N.G.Oالتي كان افرادها الاشد حماسة في هذه الحرب الاعلامية وتحت غطاء الدفاع عن المذهب والدين وهم من الدين براء.
تعرض العقل العربي في تلك الفترة  وحتى طوفان الاقصى لعملية عصف ذهني جعلته يعيش هاجس الهيمنة الايرانية .وفي ظل هذا الوضع المثالي اقدمت دول عربية واسلامية على التطبيع السياسي والثقافي والامني والديني وحتى التنسيق العسكري مع الكيان ومنحت امريكا القدس والجولان للكيان .
شنت امريكا حربا دولية على الدولة السورية وجهزت غرف عمليات في دول الجوار تواجد فيها خبراء من الدول المضيفة والناتو والكيان الصهيوني.ودفعت بصنيعتها داعش لتخريب وتدمير سورية والعراق .وعادت جيوش التحالف الغربي الى العراق، ودفعت بالارهاب الدولي وفي مقدمته القاعدة للاطاحة بالدولة السورية التي شيطنتها امريكا وتنظيم الاخوان المسلمين  وشيوخ الفتنة لتقسيمها الى دويلات طائفية تجد امنها ووجودها بالتطبيع مع الكيان.
تعرض قطاع غزة لعدة محاولات اقتحام من جيش الكيان للقضاء على المقاومة الاسلامية وفشلت كلها.ثم ساد نوع من الهدوء الحذر الذي سبق العاصفة ، عاصفة طوفان الاقصى.
قامت قوات القسام بعملية طوفان الاقصى المباغتة وحققت الصدمة والترويع للكيان وجيشه، الذي فقد كل الفرقة العسكرية المكلفة بحماية الجبهة الجنوبية، وقتلت روحه المعنوية والقتالية، وعادت الى قواعدها في غزة ومعها الاسرى الصهاينة.اعلنت قوات القسام على لسان الناطق العسكري ان الهدف من هذه العملية: (( تنظيف سجون الكيان من الاسرى وعدم التعرض للمسرى )).وانها لن تتنازل عن ذلك مهما كانت النتائج.كانت اللاعقلانية العربية اول الحاضرين في الميدان وعلى مستوى نخبها وجماهيرها المنفعلة والمشتعلة بالحماسة.قام احد المحللين العسكريين على قناة الجزيرة بشرح وتحليل عملية طوفان الاقصى وقادته لا عقلانيته الى القول: ((  لو كان عدد مقاتلي القسام الستمائة الذين باغتوا الكيان وقضوا على فرقته العسكرية الفيّ مقاتل لوصلوا الى الخليل والقدس )).ونسي ان هذا الكيان هو الثكنة العسكرية المتقدمة للناتو في الاقليم.
اما على مستوى الجمهور الذي نجحت امريكا وقوى التخلف العربية في تغييب وعيه القومي والديني، الذي بوصلته فلسطين والقدس،وحولته الى وعي زائف ومنحرف، بوصلته ايران والتمدد الشيعي، نزل الى الميدان تقوده لا عقلانيته ورغباته وامانيه، وراح يحمل المقاومة بما لا تحتمل، معلنا ان حرب تحرير فلسطين من النهر الى البحر قد بدأت، ومن اول يوم اخذ يتساءل اين حزب الله؟ واين محور المقاومة؟.وعندما دخل حزب الله المعركة في اليوم الثاني اسنادا لغزة قادته احقاده الدفينة الى القول: (( ان حزب الله دخل الحرب ليتمسح بحماس ))، وان ما يقوم به ما هو الا ذر للرماد في العيون دخلت كل اطراف محور المقاومة الى الميدان كجبهة اسناد موحدة للمقاومة في غزة، قالوا : هذا لا يكفي .اين سورية؟ واين ايران؟ وعلى استحياء قالوا: اين العرب؟.
هكذا تستمر اللاعقلانية العربية في الحضور الى الميادين، بنفس النمط الذي كان في حزيران ١٩٦٧م عندما طالبوا جمال عبد الناصر برمي اسرائيل في البحر، وما بعد هزيمة حزيران عندما بدأت فصائل المقاومة الفلسطينية تناوش الكيان، اخذتهم لاعقلانيتهم الى ان حرب التحرير الشعبية هي السبيل الوحيد للتحرير، وان لا حاجة لنا بالجيوش العربية.عندما قامت الجيوش العربية بحرب تشرين ١٩٧٣وعبرت قناة السويس وحطمت خط بارليف وتقدم الجيش العربي السوري واجتاح الجولان ووصل الى مشارف بحيرة طبريا وشاهدوا صواريخ السام المصرية والسورية تسقط عشرات الطائرات الحربية الاسرائيلية، فنزلت الى الشوارع والميادين ترقص فرحا وتهتف للجيوش العربية.
الان وبعد مضيّ عام على طوفان الاقصى لم تستوعب اللاعقلانية العربية نخبا وجماهير ان ما يقوم به محور المقاومة عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا. ينطلق من العقلانية الصارمة والحكمة والمعرفة العلمية بادارة الصراع واستخدام ادواته العصرية .ويبتدع التكتيك الذي يصب في خدمة الهدف الاستراتيجي الذي تم الاعداد له بالتخطيط للرد على المشروع الصهيوني بادوات المعرفةوالتقنية العلمية والقائم على " الربح بالنقاط" واجبار العدو على تغيير اولوياته وحصاره واضعافه في حرب استنزاف وصولا الى افشاله وابطاله ودفعه الى اليأس من تحقيق اهدافه.قال قائد البحرية اليابانية في الحرب العالمية الثانية الاميرال ياما موتو: (( ليس الهدف من الحرب تحقيق انتصار ساحق على العدو،بل في دفعه على الشك في قدرته على كسبها )).يعني دفعه الى الياس .
ان المعركة التي نخوضها الان بالعقل والحكمة،يلعب فيها صراع الارادات دورا مهما، والارادة المجهزة  بكل اساليب العلم والمعرة التي من دونهما تكون الارادة مجرد نية طيبةاو شيئاً في حكم العدم.وارادتنا التي جهزناها بكل ما يلزمها، هي الاقوى وهي المنتصرة لانها ارادة الحق ضد الباطل، وارادة العقل ضد اللاعقلانية.الى ان يأتي اليوم الذي تتوحد فيه طاقات وقدرات امتنا جيوشا ومقاومين للانتصار في المنازلة الكبرى التي صارت حتمية كمخرج من حالة الاستعصاء السائدة.
ادعوا كل ابناء امتنا العربية مسلمين ومسيحيين وكل مذاهبهم ان يبتهلوا الى الله ويقيموا الصلوات في المساجد والكنائس ان يلهم نتنياهو بان يقوم بالرد على ايران لنرى مصير هذا المتهور الجبان.
م/ زياد ابو الرجا.                                                      
المصدر: موقع إضاءات الإخباري