كتب موسى عبّاس:
بتاريخ 22 تشرين الأوّل من العام 1989 تمّ إقرار وثيقة الطائف التي فُرِضَت على اللبنانيين برعاية أمريكية سعوديّة سورية ، وأنهت خمسة عشر عاماً من الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت في 13 نيسان 1975 والتي تخلّلها إجتياحان صهيونيان الأول في
آذار 1978 وصل إلى حدود مدينة
صور في جنوب لبنان والثاني في حزيران 1982 وصل إلى قلب العاصمة بيروت.
تلك الوثيقة لم يقرأ أيّاً من بنودها الجمع الأعظم من اللبنانيين باستثناء بعض القانونيين وقلّة من السياسيين والإعلاميين.
كان الهّم الأساسي لعامّة الناس الخلاص من جحيم الحرب التي دمّرت البشر والحجر وغيّبت على حواجز طائفيّتها الآلاف،تلك الوثيقة التي لم يُطبّق من بنودها سوى القليل ولا سيّما تلك التي تتعلّق بصلاحيات الرئاستين الأولى والثالثة والتي كان من المفترض أن تُغيّر أسلوب ونظام الحكم في لبنان لأنّها نصّت على إلغاء الطائفية السياسية بعد انتخاب مجلس نيابي على اساس القانون النسبي وتشكيل مجلس شيوخ طائفي ، لكن بدلاً من ذلك كرّس الذين جيء بهم إلى السلطة نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية وذلك برعاية "عبد الحليم خدّام وغازي كنعان وبندر بن سلطان".
وبعد القضاء على الحكومة العسكرية التي كان يرأسها العماد ميشال عون في "بعبدا"، عمل القيّمون على إدارة الملف اللبناني على التوطئة لوصول رجل الأعمال اللبناني السعودي رفيق الحريري إلى سدّة رئاسة الوزراء ، رفيق الحريري الذي كان يحلم بالسلام مع الصهاينة .
وهو أكّد ذلك بقوله:
"سبق أن أعلنّا أكثر من مرة،أننا في لبنان وسورية, مستعدون للسير في اتفاق سلام شامل في غضون ثلاثة أشهر".
ولكّنه اصطدم بالتعنّت والعنجهية الصهيونية.
ومنذ تسلّمه مهامه في الحكم ساد مفهوم الترويكا الرئاسية وأصبح كلّ من الرؤساء يحكم ويتحكّم من موقعه بطائفته ومذهبه تحت شعار: " أنا أو لا أحد" .
وزاد "الطّين بلّةً " الإتيان بحاكم لمصرف لبنان "رياض سلامة"من "ميري لانش " فتراكمت برعايته وبمؤازرة رئيس الحكومة الديون بعشرات المليارات تحت ذريعة إعادة الإعمار وعودة المهجرّين الذين كانت الحرب الأهلية قد هجّرتهم من مناطقهم، في الوقت الذي كانت الأوضاع الإقتصاديّة تتدهور سنة بعد سنة والسبب الرئيسي في ذلك السياسة المالية التي اتّبعها حاكم المصرف المركزي الذي نفّذ منذ تسلّمه منصبه سياسة "دولرة العملة الوطنية" وأوهم عامة الناس بأنّها سياسة نقديّة مثالية تحافظ على متانة الوضع المالي وعلى الإزدهار الإقتصادي.
والقطاع الوحيد الذي ازدهر بعد انتهاء الحرب الأهلية كما خلالها هو القطاع المصرفي الذي تجاوزت أرباحه مئات المليارات من الدولارات منذ تسلّم رياض سلامة حاكميّة مصرف لبنان ، كما زادت هيمنة الشركات الإحتكارية التي يمتلك غالبيتها الذين تبوؤا مواقع المسؤولية السياسية ، وفي عهود حكومات رفيق الحريري تزايد الدين العام واستشرى الفساد في جميع القطاعات ونَهَبَ المسؤولون والمقرّبون منهم الأموال العامّة.
اغتيل الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 ، وتولى رئاسة الحكومة بعد اغتياله الملياردير نجيب ميقاتي ومن بعده فؤاد السنيورة وتعاقبت السنون وزاد نهب المال العام .
وتولى بعد ذلك سعد الدين رفيق الحريري رئاسة الحكومة فتحولت مؤسسات الدولة المنتجة إلى مشاعات للمسؤولين وأتباعهم كلٌّ يستولي على ما تطاله يده.
لم يكتف القيّمون على السلطة السياسية والمالية بذلك بل سرقوا وفي وضح النهار أموال المواطنين الخاصّة المودعة في المصارف ، وهكذا وفي ظلّ الواقع الجديد وبعد ما يقارب الثلاثون سنة تدمّر الهيكل الذي تبيّن أنّه بُنِيَ على الوهم وهوى على رؤوس الطبقة الوسطى والفقيرة الذين دفعوا ويدفعون الثمن غالياً في السلم كما في الحرب ، بينما مافيا من تجّار المال والسياسة وتجّار الدّين يتربّعون فوق رقاب عامّة الناس الذين يكادون لا يجدون قوت يومهم ويتحكّمون حتى في حياتهم اليوميّة، وأصبح كلٌّ منهم الحاكم بأمره لا يجرؤ أحد حتى على مجرّد الإعتراض على تصرّف هذا الزعيم أو حتى على أحد أتباعه.
وصل أمر الفساد إلى درجة أن يخرج ذلك الزعيم السياسي أو الذي هو على رأس السلطة الدينية في طائفته ومذهبه أو كليهما واضعين خطوطاً حمراء تمنع محاكمة الذين ثبتت لصوصيتهم من طائفته ، ووصل الأمر ببعضهم إلى الإعتراف علناً بأنّه ساهم مع غيره من المسؤولين في سرقة الأموال العامّة وفي السياق اعترف بأنّه سعى إلى إثارة فتنة داخلية كادت أن تشعل حرباً أهليّة بتحريض من الأمريكيين.
"أنا أو لا أحد"
وعلى هذا الأساس وتحت شعار "أنا أو لا أحد" أعلن "سعد رفيق الحريري"ترشيح نفسه لتولّي رئاسة الوزراء من جديد ، سعد الحريري الذي لم يكن في يومً من الأيام على قدر مسؤولية إدارة شؤون البلد واستقال بطلب من السعوديين والأمريكيين من منصبه وهرب من المسؤولية بعد اندلاع احتجاجات السابع عشر من تشرين الأوّل 2019.
نعم سعد الحريري متعدّد الجنسيات (اللبنانية والسعوديّة والفرنسية) وبطلب من السعوديين والفرنسيين والأمريكيين يبدو أنّه سيعود لرئاسة الحكومة اللبنانية، وهو الذي لا يعرف ثمن ربطة الخبز والذي اعترف علناً أنّه تسلّم رئاسة الحكومة وهو لا يعرف شيئاً عن السياسة ولا عن كيفيّة إدارة شؤون حكومة فضلاً عن إدارة شؤون البلد وأنّه إعتمد على المستشارين، ومن اشهر مستشاريه فؤاد السنيورة الذي أصبح خطّاً أحمراً تمنع مساءلته عن إختفاء أحد عشر مليار دولاراً من الأموال العامّة، فؤاد السنيورة الذي تآمر علناً مع الصهاينة والأمريكيين على المقاومة أثناء حرب تمّوز 2006 كما بعدها.
أليس من المستغرب أنّ بعض من أدار لهم سعد الحريري ظهره في بدايات الأزمة الحالية عندما استقال ولم يُعيرهم أي إهتمام هم من يسعون إلى إعادته ، ولكن اذا عرفنا السبب بطُلَ العجبْ ، فهم شركاؤه كما هم شركاء حرامي المصرف المركزي في إفلاس البلد .
والسؤال الأبرز هل طلب الأمريكيون والسعوديون رُعاة التطبيع مع الكيان الصهيوني من سعد الحريري العودة إلى رئاسة الحكومة وفي جعبتهم تعهده بترسيم الحدود البريّة والبحريّة كما يرغب الصهاينة.
وهل يستند في ذلك إلى جحافل "سمير جعجع" التي يعدّها لمحاربة حزب الله كما أعلن زعيم المختارة وليد جنبلاط ؟!
هكذا يُشاع ، ولكن إذا صحّ ذلك فإنّه أي الرئيس سعد الحريري لا يلعب بمصير مستقبله السياسي فقط وإنّما بمصير لبنان والمنطقة برُمتها وربّما سينتهي لبنان الكيان الجغرافي وسينتهي ما أطلق عليه الفرنسيون يوماً كذباً تسمية "لبنان الكبير".