بعد سيطرة العثمانيين على الوطن العربي في بدايات القرن السادس عشر، قسمته الامبراطورية العثمانية الى ولايات على غرار سابقاتها من زمن الخلفاء الاربعة والخلافة الاموية والخلافة العباسية.كانت الولايات تخضع لسلطة مركزية في المدينة ودمشق وبغداد واسطنبول.كانت الامبراطورية العثمانية ( سنية المذهب ) وكانت جارتها ايران ( سنية المذهب ) منذ الف عام.عندما حكم الصفويون ايران نازعوا السلطة العثمانية سياسيا واقتصاديا وعسكريا على النفوذ.فرأوا انه من المفيد لهم ان يكون الصراع مذهبيا ايضا فنشروا المذهب الشيعي في البلاد..ومن ايامها صارت فارس ( ايران ) شيعية.
بعد الثورة الصناعية في اوروبا تشكلت الدول القومية على انقاض الاقطاع المتحالف مع الكنيسة، وتنافست على الاسواق الاوروبية ثم تطورت الى طور الاستعمار للحصول على المواد الخام والسوق الاوسع فقامت باحتلال اقطار في اسيا وافريقيا وامريكا.
كانت الامبراطورية العثمانية في هذا العالم الحديث الذي تطور علميا وتكنولوجيا وصناعيا واقتصاديا وسياسيا واداريا، تبدو كاطلال معبد قديم تبدو بعض اعمدته المتاَكِلة لأعين المارين.لقد كانت الامبراطورية العثمانية كيانا عتيقا نجا عبر العهود الغابرة التي ينتمي اليها، وبدا كرُفاتِ غزو قديم اتى من الشرق قبل الفية من الزمن.بدا النظام العثماني المتداعي محكوما بالتلاشي.فقد كانت الامبراطورية غير متماسكة وفقدت سيطرتها على معظم الولايات في اوروبا والشمال الافريقي وشرق الجزيرة. العربية.بعد هزيمتها في الحرب العالمية الاولى فقدت سيطرتها على الحجاز وبلاد المشرق العربي بلاد الشام والعراق.صار الوطن العربي كله من محيطه الى خليجه تحت حكم الاستعمار الاوروبي بالاضافة الى مشروع الكيان/ القاعدة المتقدمة.
عاش الانسان العربي منذ القرن السابع الميلادي عصر النبوة وحتى بداية القرن العشرين في اطار فكري وثقافي وسياسي واداري مصدره الوحيد النظام الاسلامي، ونظام اقتصادي اقطاعي والتبادل التجاري المنبثق عنه.بعد هيمنة قوى الاستعمار على الوطن العربي قامت حركات للتخلص منه كانت اما اسلامية تستوحي من التراث الاسلامي واما حركات قومية تحاكي الحركات القومية في اوروبا.عملت قوى الاستعمار على محاربة الفكر القومي واجهاضه بلا هوادة وعلى اختراق الفكر الديني بتأسيس حركات واحزاب دينية تحارب الفكر القومي والقومية.لا تزال هذه الحركات تستمد وجودها من ارتهانها للمشروع الامبريالي وهي حاضرة وفاعلة في ما يجري حتى اليوم.
قامت السلطات العربية انظمة وحكومات بالتحالف والتساكن مع الفكر الاسلامي الذي تاسس وساد في فترات الانحطاط والمحن التي سطع فيها المذهب السلفي مع عالم متبحر هو الامام( تقي الدين ابن تيمية ) الذي هو في واقع الامر اعظم بكثير من الصورة الوهابية التي تم الترويج لها- وما زال حتى الان من يجل ويبجل ابن تيمية-وقد امضى ابن تيمية حياته في معاناة وعنت وسجن حتى مات سجينا.كان ابن تيمية يستشهد بقول سابقيه: (( ستون سنة من امام جائر ( ظالم ) اصلح من ليلة واحدة بلا سلطان ( انفلات امني )..كما كان امام سلفي اخر، هو ابن قيم الجوزية ( ابن ناظر مدرسة ابن الجوزي ) يرى ان الظلم ليس مبررا للثورة على الحاكم ؛ ما دام هذا الحاكم لم يامر الناس بمخالفة قواعد الدين..
وهو الامر الذي دفع بعض مشايخ السلفية المعاصرين الى منع اتباعهم من المشاركة بالمعارضة والثورة ضد الانظمة.
ثم تحولت السلفية الى (( السلفية الجهادية ))في مقابل السلفية (( العلمية )) التقليدية، وقد روعت السلفية الجهادية الناس وصار لها زعماء وارتبطت بالوهابية.وقد وصف محمد عمارة السلفية بانها: مصطلح غامض..ووصفها فهمي هويدي بانها: دعوة للاستقالة من الحاضر..وكان زكي نجيب محمود يقول: السلفية حركة مضادةللمستقبل.
ان مستقبل السلفية مرهون بالامور التي ادت الى انتشارها.فهو مرهون بكف اصحاب السلطة السياسية عن مغازلة الزعامة الدينية.ومرهون بالتطور والتنمية الاقتصادية للطبقات المسحوقة،ووضع (( الوطن )) في ضمير ووعي وذهن ووجدان الشعب.
تراجع المد القومي، واجتاح المد الديني الشمال الافريقي وفي القلب منه مصر حتى المغرب.ففي تسعينيات القرن الماضي كاد الاسلاميون ان يستلموا الحكم عبر سلالم الانتخابات الحرة في الجزائر التي دخلت في دائرة العنف الدموي وسالت دماء كثيرة عبر مذابح مروعة ادت الى فقدان الامن وتدهور الاقتصاد.في تونس تم اسقاط النظام وتسلم الاسلاميون ( الافغان العرب ) السلطة المطلقة بعد فرار الرئيس زين العابدين.بعد ذلك استولت حركة النهضة على السلطة عبر الانتخابات.ثم جاء الدور على ليبيا وتصدر الاسلاميون والقبائل بقيادة الصهيوني برنارد هنري ليفي المشهد، وتم اسقاط الدولة والنظام.ثم اجتاح المد الديني المشهد السياسي في المغرب واكدوا حضورا واسعا وشكلوا الحكومة.في السودان كان حكم البشير يمارس سلطته من نظام سياسي اسلامي يستمد من الشريعة الاسلامية اصوله وتطبيقاته، وكذلك السعودية.وفي الضفة الغربية وقطاع غزة ( تحت مظلة اوسلو ) تصدرت حركة حماس المشهد السياسي مع اول انتخابات تشريعية جرت، وجرت بعدها النزاعات العنيفة بين حركة فتح وحركة حماس.
مثَّلَ هذا المد الديني الاسلامي ( السني ) الذي توازى مع المد الاسلامي ( الشيعي ) في ايران بعد الثورة الاسلامية، وبدل اتحادهما لمحاربة الكيان/ القاعدة ، استثمر الاستعمار العالمي بقيادة امريكا في الخلاف المذهبي وغرر بنظام صدام حسين ليشن حربه على ايران التي شكلت تداعياتها صراعا مذهبيا على مستوى القاعدة الشعبية التي انخرطت في الصراع المذهبي ( السني - الشيعي ) مستدعية ادوات الماضي.هذه الدوامة من الصراع المذهبي افسحت المجال للانظمة العربية لتوقع معاهدات وتطبع مع الكيان.بقيت دمشق العاصمة الوحيدة الوازنة تاريخيا واستراتيجيا العاصمة العربية التي لم تطبع ولم يرفع فيها العلم الصهيوني.كانت سورية الميدان الذي يتدرب
فيه الاف المقاتلين من المقاومة الاسلامية في لبنان والمقاومة الاسلامية والوطنية الفلسطينية وامدتها بالسلاح من مخزونها.صارت سورية في قلب الصراع بين قطبي التطبيع والمقاومة.دأبت امريكا وسعت على ضم دمشق الى عواصم المطبعين مع الكيان، فحشدت قوى الارهاب العالمي والحركات الاسلامية السنية بقيادة تركيا. مخلب الناتو لاسقاط الدولة والنظام ، واضفت على الصراع اللون والصبغة المذهبية ( سني - شيعي ) وان هناك مخطط لتحويل سورية الى دولة شيعية.
اما وقد نجحت تركيا في اداء الدور المنوط بها، وتصدرت هيئة تحرير الشام التي كانت( جبهة النصرة او نصرة اهل الشام او جبهة فتح الشام او تنظيم القاعدة في سورية او القاعدة في بلاد الشام ) وهي تنتمي (( للسلفية الجهادية )) بقيادة الجولاني.لكن الجولاني قاد تحالفا لاكثر من ثلاثين فصيلا ارهابيا ينتمون الى السلفية الجهادية والاخوان وهم شركاء فاعلون في اسقاط الدولة والنظام ولن تقبل بتفرد الجولاني في السلطة في دمشق وخاصة الاخوان.لقد استشعرت هذه الفصائل تخوفها بعد تصريحات الجولاني التي طالب فيها الفصائل المسلحة بما في ذلك قسد ان تسلم سلاحها للدولة الجديدة.قامت بعض هذه الفصائل بالاعتداء على المسيحيين في حمص وحماة وعلى العلويين لوضع العراقيل امام الجولاني.
من هنا فان الغرب الاوروبي وامريكا سيبتزون الجولاني وحكومته بعدم الغاء قانون قيصر ورفع العقوبات دفعة واحدة بل بالتقسيط ومقابل كل خطوة ياخذون تنازلا.ولن يرفعوا تصنيف صفة الارهاب عن هيئة تحرير الشام لان هذا قرار من مجلس الامن الذي ستستخدمه روسيا والصين لتحقيق مكاسب لهما.
ستبقى سورية بين نطع تركيا والارهاب وبين سيف امريكا واوروبا.وما دامت عملة التخلف هي العملة الوحيدة المتداولة غير القابلة للصرف في سوق الصراع العالمي المحتدم لارساء نظام دولي جديد فلن تنهض هذه الامة من سباتها وفوضاها. ينبغي على النخب الثقافية والسياسية العربية ان تَسُّكَّ عملة جديدة قابلة للصرف، لان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم( عقولهم وتفكيرهم ) ونفس وما سوَّاها فالهمها فجورها وتقواها.
م/ زياد ابو الرجا.